أن تأثر أسعار السلع الغذائية بالأسعار العالمية ارتفاعا وانخفاضا مرهون باستقرار سعر صرف الجنيه وإتاحة الدولار وتوفر المواد الخام والقدرة على الاستيراد بشكل طبيعي دون معوقات.
وارتفع معدل التضخم السنوي إلى 39.7% خلال الشهر الماضي، مقابل 15.3% خلال نفس الشهر من العام الماضي، وهو مستوى قياسي فيما تعاني البلاد من أزمة اقتصادية خانقة.
وتعتبر أسعار المستهلك المسجلة الشهر الماضي الأعلى منذ أكثر من 40 عاما على الأقل، بحسب أرشيف أسعار المستهلك المنشور على موقع الإحصاء المصري.
وحلت مصر في المركز السادس بعد سورينام بقارة أميركا الجنوبية ضمن أعلى عشر دول في العالم في ارتفاع معدلات التضخم وأسعار المواد والسلع الغذائية، بنسبة ارتفاع بلغت 66%، وفقا لبيانات البنك الدولي.
أن التكلفة أصبحت مرتفعة، ومعادلة الربح عند التجار هي تكلفة الفرصة البديلة مع عائد المخاطرة، “والتاجر لو وضع رأس ماله اليوم في البنوك أو قام بتحويله إلى أصول ثابتة سيكون ربحه أكثر من عملية التجارة”، للان رأس مال التاجر يتضاءل بسبب التضخم ودورته أصبحت أبطأ،
أن “التضخم في مصر مزدوج -أي مستورد ومحلي-، والأزمات العالمية أثرت بالسلب على تكاليف النقل، وارتفاع سعر الدولار وتراجع قيمة الجنيه زاد سعر المواد الغذائية أو المواد المساعدة على الإنتاج محليا، تبقى المشكلة في أن أسعار السلع يتم احتسابها بسعر السوق الموازي وليس الرسمي وهو أعلى بنحو 30%”.
إن الأزمة ليس لها علاقة بما تشهده سوق الصرف أو الارتفاع الكبير في سعر صرف الدولار، وإن كان لها علاقة غير مباشرة، لكنها لا تتسبب في رفع أسعار السكر بهذه النسب، ولكن الأزمة الحقيقية في قيام عدد كبير من كبار التجار بتخزين كميات ضخمة من السلع لتعطيش السوق وبيعها بأسعار تقترب من ضعف السعر الرسمي، وهو ما يتطلب وجود رقابة قوية على السوق. أن عدم قدرة الحكومة المصرية في الرقابة والتفاعل مع السوق أحد أهم أسباب ارتفاعات الأسعار، حيث لم تتمكن الحكومة من القضاء على سيطرة بعض التجار على عدد مهم من السلع الأساسية والاستراتيجية، ما تسبب في موجات من الزيادات في جميع أسعار السلع.
أن صناعة الدواجن ليس بها احتكار لأنها سلع حية، للان مدخلات الإنتاج وهي الأعلاف مثل “فول الصويا والذرة” شهدت قفزة سعرية بنسبة 35% في أسبوع واحد، “هذا الأمر خطير جدًا”.أن ارتفاع الأسعار سببه الرئيسي ليس عالميا، ولكن لأسباب داخلية ترجع إلى تقلبات سعر الصرف في السوق السوداء خلال الفترة الماضية، والذي ارتفع بنسبة 20% خلال 10 أيام فقط. أصبح من المعتاد في مصر أن ترتفع أسعار جميع السلع ارتفاعا دوريًّا طيلة شهور السنة، ومع كل مناسبة اجتماعية أو دينية، لا سيما أسعار الوقود والكهرباء التي ما انفكت الحكومة ترفع الدعم المُخصَّص لها على مدار السنوات الماضية، إلى جانب أسعار السلع الغذائية التي يشتكي الناس من ارتفاعها من شهر إلى آخر، وتتأثر بطبيعة الحال بأسعار الوقود، وكذلك بسعر صرف العملة المحلية أمام الدولار بالنظر إلى استيراد جزء كبير منها من الخارج.
صحيح أن التضخم ظاهرة طبيعية في أي اقتصاد، حيث يُنذر ارتفاعه فوق معدل 10% بتدهور الأحوال الاقتصادية والمعيشية، لكن أسبابه ليست خارجية فقط، ففي حالة مصر التي يتناولها الكتاب، تبدو أزمة التضخم أزمة هيكلية، وتضرب بجذورها في قلب الاقتصاد المصري، ولا يبدو لها علاج ناجع حتى الآن. فكُل العلاجات والأدوية المُرّة التي تجرَّعها الاقتصاد ومعه المجتمع المصري كله تحت وطأة سياسات صندوق النقد الدولي والقرارات المتعثرة لإدارة الاقتصاد لا يمكن أن تشفي الاقتصاد المصري من أمراضه المزمنة، وليس التعويم وانخفاض العملة إلا أعراضا جانبية للاقتصاد المُعتَل الذي يصارع الموت منذ سنين.
يحدث التضخم نتيجة دافعَين رئيسيَّين، أولهما، ارتفاع طلب المستهلكين على سلع ما بنسبة أكبر من المعروض منها؛ مما يؤدي إلى ارتفاع سعرها، وثانيهما، ارتفاع تكاليف الإنتاج، لذا فعندما يزيد التضخم تلجأ الحكومة إلى كبح الرغبات الاستهلاكية للناس عبر السياسات النقدية والمالية، لكن ماذا يمكن أن تفعل في تكاليف الإنتاج؟ الحقيقة أن هذا السؤال يُلقي بنا مباشرة في قلب أزمة التضخم في مصر، فمنذ فشل مشروع “إحلال الواردات” الذي سعى إلى تحويل مكوِّنات الصناعة إلى مكوِّنات محلية، ودشَّنه “جمال عبد الناصر” في ستينيات القرن الماضي وأمَّم من أجله العديد من الشركات والمصانع بدعوى أن سيطرة الدولة على تلك المؤسسات ستساعدها في تنفيذ المشروع؛ باتت الصناعة المصرية في وضع هش، فهي من جهة تعتمد على مكوِّنات مستوردة من الخارج، ومن جهة أخرى تُسعَّر بالعملة المحلية التي إن انخفضت، فإن سعر المنتج المحلي يرتفع على المستهلك النهائي، حتى إن بعض السلع المستوردة تُصبح أرخص من السلعة المحلية.
ولذا، صار التصنيع في مصر مرتبطا بالاستيراد، فكلما زادت الصناعة زاد الاستيراد، دون أن يزيد التصدير بالضرورة. وانعكس ذلك على التضخم في صورتين، أولا عن طريق استيراد التضخم من الخارج، بمعنى أن الأزمات التضخمية في الأسواق المُصنِّعة للسلع التي نعتمد على استيرادها تنتقل عدواها إلينا، وثانيا عن طريق ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلية كلَّما قلَّت قيمة الجنيه أمام عملات البلدان التي نستورد منها، ومن ثم زيادة أسعار السلع المُصنَّعة محليا باستخدام مكوِّنات مستوردة. وهنا يبرز السؤال: لماذا تنخفض قيمة الجنيه في المقام الأول؟ ولماذا لا تكون قيمته أعلى فنستطيع أن نستورد بأسعار أقل، ثم ننتج بأسعار أقل وننافس الأسواق العالمية؟ هذا يجعلنا نتحدث عن السبب الثاني لظاهرة التضخم وهو “التعويم”.
هناك عدة عوامل لتحديد قيمة العملة المحلية، غير أن العامل الأكثر تأثيرا هو خضوعها لقوى العرض والطلب بالسوق العالمي، فكلما زاد الطلب على العملة زادت قيمتها، وما يجعل الطلب يزداد على العملة هو السلع والمنتجات التي تُباع بها، أي إن قيمة العملة المحلية ترتبط ارتباطا وثيقا بقوة الاقتصاد المحلي لتلك العملة. في الحالة المصرية، لم يخضع الاقتصاد المصري لآليات السوق الحر في الحقبة الناصرية، فكانت النتيجة الطبيعية للتحكُّم في سعر الصرف وعدم تركه لقوى العرض والطلب هو ظهور سوق سوداء للعملة، وكلما كان الاقتصاد المصري يزداد ضعفا، وخاصة بعد الأزمات المتتالية التي واجهته منذ حرب 1967، اتجه سعر العملة الصعبة في السوق إلى الارتفاع، وهو ما فاقم من الضغوط على صانع القرار لزيادة سعر صرف العملة الأجنبية التي تحتاج إليها الدولة ورجال الأعمال للاستيراد.
في الوقت نفسه، تزايدت الضغوط على الجنيه مع حلول موعد تسديد القروض متوسطة وطويلة الأجل التي أخذتها مصر في حقبة الستينيات، إلى جانب القروض قصيرة الأجل التي سحبتها بعد حرب 1967، ومن ثمَّ بدأت المبالغ المُخصَّصة لخدمة الديون تتزايد وتستنزف نسبة كبيرة من حصيلة الصادرات، حتى وصلت هذه النسبة إلى ربع حصيلة الصادرات عام 1970. وطوال عقدَيْ السبعينيات والثمانينيات، حاولت الدولة المصرية توحيد سعر الصرف، لكن تزايد الديون وضعف الاقتصاد أدى إلى أزمة عام 1991، حيث اقتربت الدولة المصرية من الإفلاس أكثر من أي وقت مضى مع عجزها عن سداد الديون. بيد أن الرياح جاءت بما تشتهي السفن حين اندلعت الحرب ضد صدام حسين بعد اجتياح الكويت، وشاركت مصر فيها مقابل إسقاط نصف ديونها مع إعادة جدولة النصف الآخر. وقد كانت هذه اللحظة هي لحظة دخول مصر بالكامل إلى نظام الاقتصاد الحر، حيث صارت قيمة الجنيه المصري خاضعة لقوى العرض والطلب، مما أدى إلى تخفيض قيمته مع الوقت، إذ توالت سلسلة التعويم عام 2003، ثم عام 2016، وأخيرا عام 2022.
إنه “منذ تخفيض سعر صرف الجنيه عام 1991 في ظل برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيُّف الهيكلي، تم ربط الجنيه المصري بالدولار. وقد أسهم التخفيض الاسمي في قيمة الجنيه في زيادة تكاليف الإنتاج بشكل محسوس في بعض القطاعات نظرا لارتفاع نسبة المكوِّنات الوسيطة المُستورَدة في المنتجات المحلية. وما لم يُدعَم تخفيض سعر الصرف بإجراءات أخرى لتخفيض التكلفة أو زيادة الإنتاجية، فإن ذلك ينعكس سلبا على القدرة التنافسية للإنتاج المحلي في كلٍّ من الأسواق الأجنبية وفي الأسواق المحلية أيضا”.
—
التعليقات