اقتضت حكمت الله أن جعل آيات القرآن الكريم مقسمة إلي آيات محكمات أي ( آيات واضحة المعنى ) لا تحتمل معنيين، مثل الآيات المتعلقة بالصوم والصلاة والزكاة “، وآيات متشابهات: أي غير واضحة المعنى بل تحتاج إلي تدبر وتأمل وردها إلي الآيات المحكمات لفهمها فهما صحيحا يتوافق مع فطرتنا السليمة التي فطرنا الله عليها مثل: ” وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ” (التوبة:63).
فإن القرآن يشمل على آيات محكمات ( واضحة المعني ) في كل الموضوعات التي تناولها، ثم تفصل إلي آيات متشابهات قال تعالى: ” الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ” ( هود:1). لذلك قال العلماء الآيات المتشابهات ولو كثرت ترد إلي آيات محكمات ولو قلت.
فإن الله سبحانه وتعالى قادرا على أن يجعل كل آيات القرآن محكمة (واضحة المعني)، ولكن جعل الله في ذلك اختبارا للعباد لكي يعلم من المؤمن الصادق الذي يتبع الحق على علم وبينة يعلم أن القرآن كله لا تناقض ولا أختلاف فيه، وإذا اراد أن يستنبط حكم من آيات القرآن لا ياخذ بآية ويبني عليها حكم بمعزل عن الفهم الكلي لآيات القرآن ، ومن يبتغي إثارة الفتنة والتفرقة بما يخدم أهوائه الشخصية ومصالحه الدنيوية قال تعالي: ” هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ” ( آل عمران:7).
فالذي في قلبه زيغ (ميل عن الحق واتباع الهوى) من الفرق المتطرفه فكريا يأخذ بهذه الآية المتشابه حجة على ما يرتكبونه من إجرام في حق الإنسانية ويفسرونها بما يوافق اهواءهم” وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ” ، وهذه الآية المتشابه لا يصح ان نأخذ بها بمعزل عن باقي الآيات المحكمات التي تحدثت في هذا الموضوع، وينبغي أيضا فهم أسباب النزول حيث أمر الله بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين ، ويجب الرجوع لاحاديث الرسول ايضا المتعلقة باخلاق الحروب. فإن سبب تفرق الناس في الدين إلي فرق وأحزاب هو الاختلاف في فهم وتفسير آيات القرآن، لذلك قال الله لرسوله أن من يفرق الدين إلى( شيعا) أي أحزاب وفرق ليس على منهجك يا محمد لأن هذا الدين شرعه واحد (منهج واحد) لا اختلاف فيه ولا افتراق في قوله تعالى: ” إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينهمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْت مِنْهُمْ فِي شَيْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّه ثُمَّ يُنَبِّئهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ” ( الأنعام :159 )، وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالانتماء إلي السواد الأعظم: اى ما اجتمع عليه علماء الأمة ” فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم ” (رواه ابن ماجه)، لذلك أمرنا الله بان نتوحد على كتاب الله ولا نتفرق ” اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ” حبل الله: كتاب الله.
وهذه هي الآية المحكمة (واضحة المعنى) التي توافق الفطرة لحسم هذه القضية ” لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( الممتحنة:9). الذين لم يقاتلوكم في الدين: من جميع أصناف الملل والأديان (تفسير الطبري).
وأمرنا الله سبحانه وتعالى بان نقاتل من يتعدى علينا، وأن لا نبدأ بالاعتداء” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ” وامرنا بان نتوقف عن قتالهم إذا توقفوا عن قتالنا ” وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ” فلاعدوان إلا على الظالمين: أي لا تقاتلوا إلا من قاتلكم (تفسير الطبرى).
فهذا هو دين الفطرة مصدقا لقوله تعالى: ” فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ” ( الروم: 30). فطر الناس عليها: أى فطرة كل البشر.
فمن المستحيل أن تجد آية من آيات القرآن الكريم لا تتوافق مع الفطرة النقية السليمة في البشر، ولكن بعد أن يتم رد الآيات المتشابهات إلي الآيات المحكمات لفهم أى قضية يتحدث عنها القرآن.
بقلم: هند درويش
ماجستير في التفكر في القرآن الكريم وعلاقته بالتفكير الإبداعي
التعليقات