تبدي السياسات الثقافية في جميع أنحاء المنطقة التزامًا متجددًا بدعم القطاع الثقافي والإبداعي من خلال مجموعة متنوعة من التدابير والمبادرات. وتعلو أصوات الشباب الإبداعية بأعداد متزايدة لتشهد على دينامية الفنون والثقافة في جميع أنحاء المنطقة، وتدعو إلى تعزيز الاستثمار في توفير فرص أفضل للتعليم والتدريب في المجال المهني، فضلًا عن فرص ومنظورات العمل في القطاع الإبداعي، وتنظيم المشاريع الثقافية المبتكرة، وتعزيز الدور المحوري للثقافة في ترجمة تطلعاتهم في تكوين مجتمعات أكثر استدامة ومرونة وشمولية للجميع.
تكتنز المنطقة العربية مشهدًا ثقافيًا غنيًا وحيويًا، بدءًا من واحة الأحساء ومرورًا بمنطقة مَنف ومقابرها، وانتهاءً بآلة العود وغيرها من التقاليد الثقافية النابضة بالحياة. وتقع بلدان المنطقة في مساحة جغرافية مترامية الأطراف، لكنها تتشارك جزءًا من هويتها المتأصلة بالثقافة الإسلامية واللغة العربية، الأمر الذي ترك أثرًا فعالًا على القطاع الثقافي والإبداعي حتى يومنا هذا. وقد تغلغلت أوجه التبادل والحوار غير المقيّدة داخل المنطقة وخارجها منذ آلاف السنين، وذلك بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتركت بصمتها في مُختلف المجالات الإبداعية من الموسيقى والشعر والخط وفنون الأداء والحرف اليدوية والتصميم والعمارة والفن المعاصر والرقمي.
دور الإعلام بارز في مواجهة التزوير والسرقة من خلال تسليط الضوء على التراث بكل المجالات من خلال برامج إعلامية تسعى إلى تأكيد وترسيخ وحماية التراث والآثار، حيث أغلب الخبراء والمتخصصين في مجال التراث طالبوا بتعزيز المحتوى التراثي في وسائل الإعلام المختلفة وإعطائه المزيد من الأهمية لما للتراث من دور كبير في تعزيز النشاط السياحي والثقافي وتوثيق العلاقة بين ماضي الأجيال وحاضرها، وفي ترسيخ الثقافة والهوية، كما أكدت المؤتمرات والندوات التراثية على عمق وأهمية العلاقة الفاعلة بين الإعلام والتراث والتي تُتيح لكل منهما الاستفادة وتحقيق الأهداف المنشودة سواء عن طريق توعية المجتمع بالقضايا التراثية وأهمية الحفاظ على التراث والعادات والتقاليد أم عن طريق تقديم منتج إعلامي متميز ذي خصوصية، ويجمع الخبراء والاكاديميون والمهتمون بالتراث على أن وسائل الإعلام تُمثل أداة مهمة جداً في نشر التراث وحفظه، لكنها حتى الآن لم تقم بالدور المطلوب أمام التكنولوجيا التي سعت إلى تغريبنا عن ثقافتنا وتراثنا.
ويُعد الإعلام بكافة أشكاله قوة اجتماعية تلعب دوراً فعالاً في الحفاظ على التراث وأماكن الآثار من خلال إيجاد قنوات لنشر التراث وترويجه وتقريبه في آذان الجيل الجديد إضافة إلى أن وسائل الاتصال الجماهيرية ليست فقط قنوات نقل صماء وإنما أدوات فاعلة ساعدت كثيراً على “عصرنة” الإبداع الشعبي وعرضه في حلة جديدة تتلاءم مع العصر الجديد، ناهيك عن دور الوسائط الجماهيرية في تزويد قاعدة عريضة من الجمهور بالأخبار والروايات التي يتداولها الناس ليتم التعديل عليها لتصبح مادة شعبية يتداولها الأجيال القادمة، كما أن الوسائط الجماهيرية تعمل على إيجاد تواصل غير مباشر بين النص المذاع والجمهور المتلقي يتم من خلال وسائل بث الكترونية وأدوات تقنية حديثة تنقل المادة للجمهور، حيث أثرت وسائل الإعلام في حياتنا المعاصرة في صياغة نمط حياة الإنسان في المجتمع المعاصر وظهر هذا التأثير واضحاً في طبيعة صياغة مأثوراته الشعبية.
للصحافة دوراً هاماً في نشر الوعي والتثقيف عن التراث ولهذا الدور تاريخ عريق وقد تطور هذا الدور اليوم ليبقى مصدراً رئيساً وهاماً، ولعبت دوراً في توثيق التراث تاريخياً وإلى يومنا هذا، إلا أن عملية التوثيق في عصرنا الحاضر تتميز بالراوبط الفقيرة والمتشعبة وهذه التشعبات غيرت علاقتنا مع المواد التراثية فاليوم الإعلام يُقدم لنا المعلومة من خلال النص والصورة والفيديو والجدول الزمني وهناك تفاعل حيوي بين المعلومة ومتلقيها تربط الشخص بشكل مباشر مع التراث.
والإعلام لعب بمستوياته المختلفة في ما تعرضت له المعالم والكنوز في عدة مدن من تدمير والإعلام لعب على توثيق الخراب وحشد الدعم الدولي للاهتمام بالتراث والمواقع الأثرية وتسليط الضوء على أهميتها تاريخياً واجتماعياً للإنسانية، كما لعب وسائل الإعلام دوراً في الأساليب القديمة للتوثيق والتي كانت أساساً في معرفة شكل المعالم الأثرية الموجودة في هذه المدن إلى جانب دور وسائل الإعلام العلمية في تعزيز العلاقة بين المعالم والهوية والقيم الإنسانية المشتركة بين شعوب العالم.
ودور الإعلام في التعريف بمكونات التراث بمختلف تجلياته وإبرازه لأهميته، بالإضافة إلى الاستخدام الفعال لشبكات التواصل الاجتماعي في الوصول إلى الجمهور وتقديم رسائل معرفية وإرشادية وسلوكية حول التراث الثقافي وضرورة صونه والحفاظ عليه، باستخدام قادة الرأي والمؤثرين في وسائل الإعلام تقوم على إعداد الخطط والبرامج الخاصة بنشر التراث الثقافي والتشارك فيه وصونه، والتواصل مع الجهات العلمية والبحثية المعنية بالتراث.
تُتيح وسائل الإعلام لأفراد الجمهور التعرف على أماكن أثرية والوصول إلى مجموعات من التراث الثقافي لم يكن بإمكانهم الوصول لها قبل ظهور هذه الوسائل إما بسبب البعد الجغرافي أو بسبب مشكلات الصيانة التي تمنع عرضها على الجمهور ومن خلال الأدوات الرقمية التي أتاحتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي فإن معظم التراث الثقافي معرض للتلف لا يمكن عرضه على الجمهور للحفاظ عليه ويمكن إعادة بنائه رقمياً من خلال المعارض الافتراضية التي تبرز هذا التراث وتؤكد أهمية الحفاظ عليه.
إن استخدام الوسائل الرقمية لإشراك المجتمع المحلي في حماية وتعزيز قيم التراث الثقافي يحظى اليوم باهتمام متزايد في جميع أنحاء لبنان، خاصة بعد جريمة تفجير مرفأ بيروت عام 2020، وبعد التعديات السافرة لرأس المال المتسلّط من قبل بعض المقاولين والسياسيين الذين لا تعني لهم الثقافة شيئاً. ومما لا شك فيه أن التقنيات الرقمية تحسن عمليات الحفظ والحفاظ، بالإضافة إلى إثراء الأرشيف بالوسائط التفاعلية، بالإضافة إلى رسم خريطة للتراث باستخدام نظام المعلومات الجغرافية، وزيادة الخبرات التشاركية، وتعزيز التواصل بين أصحاب المصلحة، وتعميق فهم الارتباط الثقافي. كذلك تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي واحدة من أهم العوامل التي تسهل تعزيز التعاون المزدوج بين السلطة والمواطنين في حال وجود سلطة غير فاسدة وفاشلة ومرتهنة.
الآثار الإيجابية1- توفر المنصات الإعلامية الهادفة والصادقة يعتبر وسيلة قوية للحفاظ على التراث الثقافي. فمن خلال الأفلام الوثائقية واللقطات الأرشيفية والمكتبات عبر الإنترنت، يمكننا التقاط وتخزين القطع الأثرية والقصص والتقاليد والعادات القيّمة للأجيال القادمة. وتضمن هذه الأرشيفات الرقمية أن يظل تراثنا الثقافي متاحاً ومحمياً، حتى في مواجهة التدهور الاقتصادي أو الكوارث الطبيعية.
2- تعمل المنصات الإعلامية بمثابة بوابة لتعزيز التراث الثقافي على نطاق عالمي. وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات عبر الإنترنت، يمكن أن تكون لدينا القدرة على الوصول إلى جمهور واسع يتجاوز الحدود الجغرافية، كإقامة الندوات في العديد من مدن وبلدات وقرى المناطق كالندوة الثلاثية التي أقوم بالمشاركة بها برفقة الشاعر هنري زغيب والبروفسور أنطوان مسرّة تحت عنوان «كيف ننقل التراث إلى الأجيال القادمة».
3- تسمح لنا الصور المميّزة والسرد القصصي الجذاب والتجارب الغامرة أن نعرض جمال وتنوّع تراثنا الثقافي لجمهور أوسع، مما يعزز التفاهم والتقدير بين الثقافات. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تعمل وسائل الإعلام كمحفّز للابتكار الثقافي والإبداع. ومن خلال مزج أشكال الفن التقليدي مع تقنيات الوسائط الحديثة، يمكننا إنشاء محتوىً خلاّب يبث حياة جديدة في تراثنا الثقافي.
4- من جولات الواقع الافتراضي للمواقع التاريخية إلى التطبيقات التفاعلية التي تعلّم الحرف القديمة، تُمكننا وسائل الإعلام من إعادة صياغة تراثنا وإعادة تفسيره، مما يجعله ملائماً وجذاباً لكل وقت وكل متابع.
5- يمكن أن توفر وسائل التواصل الهادفة منصة ممتازة للمجتمعات المهمّشة لاستعادة تراثها الثقافي والاحتفال به. ولا يخفى أنه في كثير من الحالات يتم التغاضي عن التقاليد والممارسات الثقافية أو تهميشها، ولكن من خلال وسائل الإعلام، تستطيع هذه المجتمعات مشاركة قصصها، وتحدي الصور النمطية، وتأكيد هويتها الثقافية. ويلعب هذا التمكين دوراً محورياً في الحفاظ على الممارسات الثقافية المهددة بالانقراض وإحيائها، مما يضمن بقائها للأجيال القادمة.
الآثار السلبية
من ناحية أخرى، لا يخفى أن وسائل التواصل الاجتماعي لها تأثير سلبي على ثقافتنا حيث يمكن للأشخاص مشاركة ما يريدون عليها، وقد يكون بعضها مدسوس أو مضلل عمداً أم جهلاً، أو عارٍ عن الصحة. وصرنا نرى أن الكثيرين، إن لم نقل الأغلبية، أصبحوا أكثر تحفّظاً بشأن وجهة نظر بعضهم البعض ويتجادلون بعنف فيما يتعلق بالنواحي السياسية والدينية والاجتماعية وحتى الثقافية، وصار لهذه الوسائل تأثير سلبي على الشباب خاصةً وبات من السهل لمن شاء أن يدلي بتعليقات وحشية وسلبية حول أي شيء وأي شخص. إن وسائل التواصل الاجتماعي لها تأثيرات جيدة على ثقافتنا والإضاءة على تراثنا، ولكن غير المنضبطة منها أو التي لا تتمتع بمصداقية ما تنشره لها تأثير سلبي وحتى قبيح على ثقافتنا، ومن خلال مشاهداتي أستطيع القول أنه لكثرتها أصحبت أشبه بـ «حمّام مقطوعة ميّته»!
خلاصة: أن تأثير الإعلام ملموس في إحياء ما أوشك على الموت أو الانقراض من هذا التراث، والهدف من الإعلام نقل المعلومات والمعارف وتأثير في آراء وأفكار الأفراد وتوسيع ادراك الجمهور لخصائصه التي تتميز بالدقة والوضوح وتزيد أهميته في التقدم العلمي والانفجار السكاني.
التعليقات