الثلاثاء - الموافق 24 ديسمبر 2024م

الابتلاء وأسبابه وكيفية التعامل معه : بقلم: هند درويش

إن الله خلق لنا الحياة وفق قوانين ونواميس كونية، إذا تم السير وفقها سنحيا حياة طيبة، وإذا تعارضنا مع هذه القوانين الإلهية ستظهر لنا المشكلات والضيق في الحياة والابتلاءات التي هي سبب تقصيرنا في العبادة ولكثرة ذنوبنا وهذا بين في قوله تعالى: ” فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ” (آل عمران: 62). ” وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ” (الروم:36).

سيئة: ضيق أو شدة. فإن النعم دائما من الله أم المصائب والشدائد هى من عند أنفسنا جزاء لما أقترفنا من ذنوب ” مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ” ( النساء: 79). وعَنْ سَعْدٍ قَالَ : قُلْتُ : ” يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ : الْأَنْبِيَاءُ ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ ، فَالْأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ” ( حديث صحيح: رواه الترمذي).

والبلاء للمؤمن نوعان:

أ- بلاء للدفع: قد يبتلى الله عباده المقصرين بالمصائب في النفس أو المال أو الخوف والهم ليدفعهم إليه فلا يجدون ملجأ إلا لله فيتضرعون إليه ويرجون رحمته ” : ” لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ” (آل عمران: 186). والابتلاء أيضا اختبار لصدق الإيمان، فمن أركان الإيمان الرضا بالقضاء والقدر خيره وشره، والثقة وحسن الظن بالله بأن الله لا يعجزه شيء في السموات والأرض وهو القادر على أن يرفع هذا البلاء ” وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ” ( الأنعام: 17). فالابتلاء من عند أنفسنا ولكن فيه رحمة لنا لكي يكفر الله عنا سيئاتنا حتى نلقى الله طاهرين من الذنوب كيوم ولدتنا أمنا ” وعزتي وجلالي؛ لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه, إلا وقد ابتليه بكل سيئة كان قد عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في ماله، أو مصيبة في نفسه أو ولده, حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء؛ شددت عليه سكرات الموت، حتى يلقاني كيوم ولدته أمه ” ذكر في الأثر( حديث قدسي).

ب- بلاء للرفع: وهذا النوع من البلاء خاص بالمؤمنين الصادقين، يبتليهم الله بالمصائب لكى يرفع من منزلتهم يوم القيامة، واختبار لصدق الإيمان ولنا أسوة حسنة في سيدنا أيوب عليه السلام الذي ابتلاه الله بفقد الأموال والأولاد والإصابة بالأمراض لمدة 18 عام، ومع ذلك لم يقنط من رحمة الله، ظل صابرا محتسبا شاكرا لله، ويقول العلماء: بأن الشيطان وسوس له بأنه ليس على حق، وإنه إن كان على الحق لما ابتلى بكل هذه الابتلاءات ” وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ” (ص: 41). ومدح الله سيدنا أيوب على صبره على البلاء ” إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ” ( ص:44). وكان ذلك سبب في أن رفع الله عنه البلاء وشفاه ورزقه بالأموال والاولاد ” وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ” (ص:43). وهذا ما أخبارنا به الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرضا وقت البلاء وعدم الجزع والقنوط سبب في رفع البلاء، فما البلاء إلا اختبار ، إذا نجح فيه العبد فاز برفع المحنة وانقلابها لمنحة في الدنيا، وبعلو المنزلة في الآخرة ” قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي الْمُؤْمِنَ، فَلَمْ يَشْكُنِي إِلَى عُوَّادِهِ، أَطْلَقْتُهُ مِنْ أسَارِي، ثُمَّ أَبْدَلْتُهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ، وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْعَمَلَ ” (الألباني في السلسلة الصحيحة). وأفضل شيء يحب أن يراه الله من عباده الصادقين وقت البلاء هو الرضا بقضاء الله والتضرع إليه بثقة ويقين بأن الله قادر على أن يكشف البلاء، وعلمنا النبي أن نقول هذا الدعاء عند المصيبة ” مَا مِن مُسلم تُصِيبُه مصيبة فيقولُ ما أمره الله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهم أجُرْني في مصيبتي، وأَخْلِفْ لي خيراً منها، إِلا أخلف الله له خيراً منها ” (حديث صحيح، أخرجه مسلم ).

ولأن طبيعة البشر ارتكاب الذنوب ” كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ” ( رواه الترمذي). لذلك أمرنا الرسول بالمداومة على الاستغفار يوميا ” إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ ” ( رواه أحمد). وبين لنا الله أنه لا يعذب من يستغفر الله، لأن كثرة الاستغفار تطهرنا من الخطايا والذنوب ” وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ” ( الأنفال:33) لذلك فلا نتعجب عند سماع قصص لمرضى تم شفائهم من أمراض مستعصية بالمدوامة على الاستغفار. وأخبرنا النبي أن المدوامة على الاستغفار تفرج الهموم ” مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا ، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا ، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ” (رواه أحمد).

وإن الشكر أيضا على النعم يجنب الابتلاء، وشكر النعمة ليس بالقول فقط ولكن باستخدامها في طاعة الله وليس في معصيته ” مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ ” (النساء: 147). وهذه الآية توضح أن عدم شكر الله على نعمه سبب الابتلاء بالشدائد لندعوه ونتضرع إليه ” وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ” ( فصلت: 51). أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ: أى أعرض عن الشكر لله، وإن المدوامة على التسبيح أيضاَ سبب نجاة سيدنا يونس من بطن الحوت، فمن عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة ” فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ” (الصافات: 143-144). ” فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ” (الأنبياء:88). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ ” (رواه البخاري).

والله يبتلى عباده الذين يحبهم في الدنيا ليكفر عنهم سيائتهم، اما الظالمون يمتعهم في الدنيا ويمد لهم في ظلمهم ويدخر لهم العقاب في الآخرة، والظالم هو كل من تعدى على حق الأخرين بدون وجه حق، وهذا بين في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبـــه حتى يوافيه به يوم القيامة ” (رواه الترمذي). قال تعالى: ” وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ” (إبراهيم: 42).

بقلم: هند درويش
ماجستير في التفكر في القرآن الكريم وعلاقته بالتفكير الإبداعي

 

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك