الخميس - الموافق 13 نوفمبر 2025م

الثورة والحرية… الجزء الثامن “تطور مفهوم الحرية – 7”

٢٠١٥٠٩١٧_٠٧٥٢٣٣

(7) الحضارة المصرية القديمة والحرية
ألقينا الضوء سابقًا على بريق شعار الحرية إبان الثورة المصرية (25 ـ 30)، ثم ولادة مصطلح الحرية تاريخيًا، ثم تطور مفهوم الحرية في إطار تطور الحضارة الإغريقية باعتبارها أحد أهم روافد التفكير العقلاني الحر، ثم الحضارة الرومانية باعتبارها الجسر التاريخي والحضاري الأساسي الذي عبرت منه أوربا إلى مستنقعات العصور الوسطى، ثم المفهوم الإيماني للحرية في إطار الديانة المسيحية في طورها الأول، ثم أوضاع الحريات في العصور الوسطى (قرون الظلام الأوروبية)، ثم أوضاع الحريات في إطار الحضارة الإسلامية، ومقالتي هذه لإلقاء الضوء بشكل موجز ومختصر على أهم محطات الحضارة المصرية القديمة، التي أوجدت مبكرًا مجتمع مركزي تطور عبر مراحل متعددة حتى أصبح حجر الزاوية في تاريخ الحضارة الإنسانية.
فمنذ فجر التاريخ الإنساني، في نحو 5000 ق.م، عاشت قبائل صغيرة في وادي النيل، ونمت وطورت سلسلة من الثقافات التي كانت الزراعة وتربية الحيوانات تسيطر عليها، وسميت بحضارة (البداري) في مصر العليا، واشتهرت تلك الحضارة بصناعة واستخدام السيراميك عالي الجودة، والأدوات الحجرية، واستخدامها للنحاس، ثم تبع حضارة البداري حضارتا “أمراتيان” و “غيرزيان” اللتان أظهرتا عددًا من التطورات التكنولوجية، وخاصة حضارة “الغيرزيان”، وفي الجنوب وجدت حضارة “النقادة”، التي توسعت على طول النيل نحو 4000 ق.م، وتوسعت في التواصل مع جيرانها في الجنوب حتى إثيوبيا، وتطورت حضارة النقادة إلى حضارة قوية سيطر قادتها على وادي النيل، وسعوا لبسط سيطرتهم على مصر العليا شمالًا، وأنشأوا حضارة خصبة، وبدأوا في استخدام رموز الكتابة التي تطورت بعد ذلك إلى اللغة الهيروغليفية القديمة.
ثم بدأ عصر الأسر الفرعونية والذي صنف خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة قبل الميلاد إلى 30 أسرة، بدأت عام 3150 ق.م، عندما استطاع الملك “مينا” توحيد القطرين (مصر العليا ومصر السفلى)، وإنشأ عاصمتها في “ممفيس” شمال مصر السفلى، وهي الآن منطقة “ميت رهينة” التابعة لمركز البدرشين بمحاظة الجيزة، وأمكن من خلالها السيطرة على القوة العاملة، والزراعة، وحركة التجارة المتجهة إلى الشام، وبعد إنتهاء فترة مجد الحكومة المركزية في مصر في نهاية عصر المملكة القديمة، ضعفت السلطة المركزية، ونقص الغذاء، وأدت النزاعات والخلافات السياسية إلى زيادة حدة المجاعات والحروب الأهلية صغيرة الحجم، رغم أن ذلك أدى إلى توفير استقلال نسبي للمحافظات، مما إدى إلى زيادة مواردهم الاقتصادية، وبالتالي لبعض الرفاهية لكافة فئات المجتمع والتي تؤكده الزخارف والآثار المكتشفه عن تلك الفترة، وعرفت بالمرحلة الانتقالية الأولى، دار خلالها صراع بين العشائر المحلية الشمالية والجنوبية أي بين حكام “هيراكليوبولس” في مصر السفلى عام2160م، و “الأنتيف” في مصر العليا، وسيطر “الإنتيف” في الشمال على طيبة واستطاعوا في النهاية هزيمة حاكم هيراكليوبولس واعادة توحيد القطرين، كان ذلك بداية عصر نهضة ثقافية واقتصادية جديدة عرفت باسم “الدولة الوسطى”، واستعاد فراعنة الدولة الوسطى رخاء البلاد واستقرارها، مما أدى إلى تحفيز الفن والأدب ومشاريع البناء الضخمة، كما شهدت الدولة الوسطى زيادة في التعبير عن (التقوى الشخصية)، أي (ديمقراطية الحياة الآخرة) التي تعطي لكل فرد روحًا من الممكن أن تكون مرحبًا بها بجوار الآلهة بعد الموت، وسمح آخر حكام الدولة الوسطى (أمنمحات الثالث)، للمستوطنين الآسيويين بالعيش في منطقة الدلتا، لتوفير قوة عاملة كافية لا سيما في التعدين النشط وبناء المدن، ولكن بعد حدوث عدم كفاية فيضانات النيل، حدث توتر اقتصادي عجل باضمحلال الدولة الوسطى، وعندها بدأت الطائفة الأجنبية الآسيوية في السيطرة على منطقة الدلتا، مما أدى في النهاية إلى بسط سيطرتهم على مصر، وعرفوا بإسم (الهكسوس)، واتسم حكم الهكسوس بالتراخي والخمول الثقافي، وبعد عدة حروب تمكن الفرعون أحمس الأول في النهاية من القضاء على الهكسوس نهائيًا، وبذلك كانت بداية الدولة الفرعونية الحديثة، حيث أصبحت العسكرية أولوية رئيسية إلى الفراعنة الذين سعوا إلى توسيع حدود مصر لتأمين هيمنة كاملة في الشرق الأدنى، وازدهرت الدولة الفرعونية الحديثة بشكل غير مسبوق بسبب توفر الأمن وحماية الحدود، وشهد صعود أول ملكة (أنثى) لعرش مصر وهي الملكة (حتشبسوت)، وكان عصرها ناجح ومزدهر وفي عام 1350 ق.م، وصل إلى السلطة الملك الثائر (أخناتون)، أي (عبد آتون)، وحاول توحيد الآلهة في شخص الإله (آتون)، ومنع عبادة ألهة أخرى غير آتون، وهاجم سلطة المؤسسة الكهنوتية في ذلك الوقت، ولكن بمجرد وفاته تم التخلى سريعًا عن عبادة آتون، كما شهدت الدولة الحديثة ولادة أول وأقدم معاهدة سلام مكتوبة عرفها التاريخ بين الفراعنة و”الحيثيين” وذلك عام 1258 ق.م.
وبذلك عرفت مصر مبكرًا الوحدة الجغرافية والسياسية، وعرفت السلطة المركزية التي أوجدتها الهيمنة الفرعونية على البلاد، وضرورة وجود تلك السلطة لتنظيم وإدارة شؤون الزراعة والري، المعتمد على وحدة المصدر والمصب، وشموله للقطر كله أو الرقعة الزراعية، وبذلك قامت السلطة المركزية ووكلائها بتنظيم البناء الجماعي والمشاريع الزراعية وتنظيم التجارة مع المناطق المجاورة المحيطة بالقطر المصري، كما استوجب ذلك تعزيز القوى العسكرية الموحدة، للدفاع عن الوادي، وتشكل مبكرًا نخبة من البيروقراطيين والزعماء الدينيين والإداريين تحت سيطرة السلطة المركزية، ممثلة في الفرعون، وتوحد المصريين بذلك في سياق نظام محكم للمعتقدات الدينية، وكان لقدرة المصريين على التكيف مع ظروف وادي النيل أثر في التنمية الاجتماعية والثقافية، وساهم توافر مقومات الزراعة من تربة خصبة ومياه ومناخ ملائم والتنبؤ بالفيضانات والسيطرة على أضرارها، على إنتاج كمية وافرة من الغذاء، والتي سمحت للسكان بتكريس مزيد من الوقت والموارد للأنشطة الثقافية والتكنولوجية والفنية، كما أدى وجود سلطة مركزية قوية إلى الاستغلال الجيد للمعادن الموجودة في الوادي والمناطق الصحراوية المحيطة به، وتجلت تلك الحضارة في بناء الأهرامات الضخمة والمعابد والمسلات، وتقدم في العلوم مثل الرياضيات والطب، وأنظمة للري وتقنيات الإنتاج الزراعي، وعرفت مصر أول بناء للسفن والقيشاني المصري وتكنولوجيا الرسم على الزجاج، كما تم وضع نظام كتابة مستقل، وتصنف اللغة المصرية القديمة كلغة شمال أفرو آسيوية، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالبربرية واللغات السامية، وهي أقدم لغة على وجه الأرض، حيث كتبت من 3200 ق.م، وأدت اكتشافات في مطلع العصر الحديث عن آثار وحفريات مصرية، إلى أبحاث علمية للحضارة المصرية تجلت في علم أطلق عليه (علم المصريات)، تقديرًا لتراثها الثقافي العظيم.
حافظ المصريون القدماء على تراثًا ثقافيًا غنيًا بالكامل مع الأعياد والمهرجانات المصحوبة بالموسيقى والرقص، وتطورت مجالات الأدب والفنون، وسكن معظم المصريين المزارعين المرتبطين بالأرض في منازل وبيوت شديدة الخصوصية، تقتصر فقط على أفراد الأسرة الواحدة، وبنيت من الطوب اللبن من أجل الإبقاء عليها باردة في حرارة النهار، وإهتم المصريون القدماء بدرجة كبيرة بالمظهر والنظافة، مستخدمين صابونًا مصنع من الدهن الحيواني والتباشير، واعتاد الرجال حلق كل أجسادهم بغرض النظافة، واستخدموا الزيوت العطرية، وصنعوا الملابس من الكتان البسيط، وكانت الموسيقى والرقص ترفيهًا شعبيًا ومنتشرًا لأفراد الطبقة المتوسطة وما فوقها، وشملت الأدوات الموسيقية في البداية المزامير والعيدان، ثم تطورت إلى الأبواق وأنابيب القرع، وفي الدولة الفرعونية الحديثة استخدموا الجرس والصنج والدف والطبلة والعود في العزف واستوردوا القيثارة من آسيا.
كان المجتمع المصري مجتمعًا طبقيًا بدرجة عالية، وكانت الفئة الاجتماعية عنصر مهم في كيان وشخصية المرء، واحتل المزارعون النصيب الأكبر من السكان في ذلك الوقت، إلا أن المنتجات والأراضي الزراعية كانت مملوكة من قبل الدولة أو المعبد أو من قبل أحد الأسر النبيلة، كما خضع المزارعون لضريبة العمل بنظام السخرة، وكانوا يعملون لدى الإقطاعيين الذين يتقاسمون معهم المحاصيل ويخضعونهم لأعمال السخرة، ثم طبقة العمال، وكانت أوضاعهم صعبة نتيجة لأعمالهم الشاقة باستثناء الحرفيين الذين كان وضعهم الاجتماعي أحسن بسبب حاجة البلاط والطبقات الميسورة لخدماتهم، ثم الجنود وهما شقان، الشق الأول جنود الصف( و هم من المرتزقة) وكان الفرعون يمنحهم أراضي صغيرة من أجل زراعتها واستثمارها ويجوز لهم توارثها مع أبنائهم، والشق الثاني هم الضباط وينتسبون إلى الأسر العريقة ويتمتعون بوضع اجتماعي جيد، ثم الكتبة والمسؤولون، ويحتلون مكانة مرموقة في الدولة والمجتمع، أما الكهنة والأطباء والمهندسون والمدربون على اختصاصات معينة فقد احتلوا مرتبة ما قبل النبلاء، ثم طبقة النبلاء.
ساوى قدماء المصريين قانونيًا بين جميع الطبقات الاجتماعية، من الرجال والنساء إلا العبيد، حيث كان لأقل الفلاحين التقدم بالالتماس إلى الوزير وحاشيته طلبًا للعدل، وجعل لكل من الرجال والنساء الحق في امتلاك وبيع الممتلكات، وتنظيم العقود في الزواج والطلاق، بالإضافة للحق في الميراث وإنشاء محاكم للفض في المنازعات القانونية، وقد أمكن للمتزوجين التملك معًا، وبصورة مشتركة، بالإضافة إلى حماية المرأة عند الطلاق، حيث تنص عقود الزواج على الالتزامات المالية للزوج على زوجته وأولاده حتى بعد الطلاق، وبمقارنة النساء مع نظرائهم في اليونان القديمة، كانت للمرأة المصرية في ذلك الوقت حرية اختيار، وفرص متاحة للتحقق أكثر من أي امرأة أخرى في تلك الحقبة، فأصبحت نساء مثل “حتشبسوت” و”كيلوباترا” من الفراعنة، أما الأسرة فحظيت بنصيب من التنظيم حيث ارتكزت آنذاك على أعراف وتقاليد أعطت للمرأة حقوقًا، فرغم تعدد الزوجات إلا أنها منحت حق الإحتفاظ بملكية ما تقدمه بموجب عقد الزواج، وفي حال وفاة الزوج تنتقل السلطة العائلية مباشرة إلى الأم التي تدير شؤون الأسرة داخل وخارج البيت باستثناء وجود ابن بلغ سن الرشد والذي يقوم بدور رب الأسرة تجاه أمه وأخواته، كما وجد الأطفال نصيبهم من الإهتمام عن طريق إحاطتهم بعناية خاصة وعطف كبير، رغم أن المرأة عمومًا لم تشارك في الأدوار الرسمية الرئيسية، وخدمت كعنصر ثانوي في المعابد، ولم تكن تحصل على نفس القدر من التعليم مقارنة مع الرجال.
ظل الفرعون من الناحية النظرية على الأقل العاهل المطلق للبلاد، وكان مسؤولًا عن سن القوانين وتحقيق العدالة، والحفاظ على القانون والنظام، وهو مفهوم لدى المصريين القدماء ويشار إليه بالإله (ماعت) ويملك السيطرة الكاملة على الأرض ومواردها، ومثلت المعابد العمود الفقري والبنية الأساسية للاقتصاد، لإنها كانت مسؤولة عن جمع وتخزين الثروة الوطنية في نظام من مخازن الحبوب والخزانات التي يديرها المشرفون ويقومون باعادة توزيعها، وساد الإعتقاد لدى المصريين القدماء بأن الفرعون ( أعلى هرم في الدولة) كان مفوضًا من قبل الآلهة ليعبر عن وجودها على وجه الأرض، مما منحه سلطة مطلقة، إذ اعتبر الفرعون إلهًا واعتبرت إرادته قانونًا، حيث كان يتصرف بالطريقة التي يريدها و يرغبها وما على الشعب إلا الخضوع، وبما أن الفرعون ممثل للآلهة التي تتصرف ضمن إطار الحق فكل ما يتفوه به يجب أن يتم ويتحقق فورًا، وقد كان للفرعون وظائف متعددة في مجالات مختلفة، فأما الوظيفة الدينية فتمثلت في تعيين مراتب ودرجات الكهنة الذين يقومون على خدمة الآلهة في المعابد، وأما وظيفته العسكرية فتلخصت في حماية شعبه و بلاده من الأخطار الخارجية فضلًا عن الوظيفة السياسية التي ارتكزت على نقطتين هامتين تمثلتا في نشر وتطبيق العدالة بشكل دقيق و صارم بين الرعية، وثانيها توفير الأمن و صيانة النظام في البلاد، وبذلك سير الفرعون شؤون البلاد بصورة مباشرة وبمساعدة وزراء يعينهم ويقيلهم متى أراد وشاء، وعلى الصعيد الإقليمي كانت البلاد مقسمة إلى ما يصل إلى 42 منطقة إدارية تسمى قطاعات، ويحكم كل منها رئيس القطاع، الذي كان مسؤولًا أمام الوزير عن نطاق سلطته، فلم يكن هناك مجال لممارسة الحرية الفردية الاجتماعية أو الاقتصادية أمام الفرعون فهو الذي يحدد دور الأفراد و الفئات في المجتمع ويعين لكل عامل نوعية العمل الذي عليه القيام به، والأجر الذي يجب أن يتقاضاه، ويفرض القيام بأعمال السخرة في مراقبة أقنية الري وإنشاء السدود وغيرها، ولم يكن بوسع أحد القيام بمبادلات خارجية، إذ كان الملك صاحب الاحتكار في التصدير والاستيراد فهو وحده يملك وسائل ممارسة التجارة الخارجية من أساطيل بحرية أو قوات عسكرية.
وتبين وثائق إحدى المحاكم أن القانون المصري كان قائمًا على نظرة عامة حسية بالصواب والخطأ، حيث كان يشدد على ضرورة التوصل إلى اتفاقات وتسويات سلمية للنزاعات والصراعات، وكان مجلس الشيوخ المحلي، المعروف باسم (الكينبيت) في الدولة الحديثة، المسؤول عن البت في القضايا والخلافات الصغيرة التي تعرض على المحكمة، أما النزاعات والصراعات الأشد خطورة مثل القتل واختلاس أراضي الدولة والسطو على المقابر فكانت تحال إلى ما يسمى (الكينبيت الكبير) الذي يترأسه الوزير أو الفرعون نفسه في بعض الحالات، وفي بعض الحالات أخذت الدولة دور كل من المدعي العام والقاضي، وكان تعذيب المتهم بالضرب للحصول على اعتراف واسماء أي من المتآمرين أمر لا بأس به، ولا يهم إذا كانت التهم تافهة أو خطيرة، حيث يقوم كتبة المحكمة بتوثيق الشكوى، والشهادة، والحكم الصادر في القضية للرجوع إليها في المستقبل عند الحاجة، وينطوي العقاب في الجرائم البسيطة إما على فرض الغرامات، أو الضرب، أو التشويه في الوجه، أو النفي، وهذا يتوقف على شدة الجريمة، أما الجرائم الخطيرة مثل القتل وسرقة المقابر فكانت عقوبتها الإعدام، والذي يتم بقطع الرأس، أو الإغراق، وقد تمتد الجريمة لتشمل عائلة الجاني، وابتداءًا من المملكة الجديدة، لعب الأوراكل (أشخاص على إتصال بالآلهة) دورًا رئيسيًا في النظام القانوني، وإقامة العدل في القضايا المدنية والجنائية، حيث يقومون بسؤال الآلهة سؤول يكون جوابه “نعم” أو “لا” بشأن صحة وحقيقة قضية ما، ثم تصدر الآلهة الحكم، ويقوم به عدد من الكهنة عن طريق اختيار واحدة أو أخرى مباشرة، أو التحرك إلى الأمام أو الخلف، أو الإشارة إلى واحدة من الأجوبة المكتوبة، على قصاصة من ورق البردي أو قطعة حجر.
وبذلك نجد أن الحضارة المصرية القديمة استطاعت تحقيق انجازات هائلة وعظيمة في كافة المجالات، إلا أن مركزية السلطة (الموضوعية) في مصر الفرعونية، لم تسمح بتشكل طبقات اجتماعية مستقلة اقتصاديًا، وخاصة الطبقى الوسطى، وارتبطت كافة الطبقات الاجتماعية بالسلطة، حيث وجدت في الأساس لخدمة السلطة والطبقات العليا في المجتمع بزعامة الفرعون، وتنشأ بإرادة الفرعون، وتعيش على رواتب السلطة، وتكتسب كل حقوقها وامتيازاتها من السلطة، وتختفي أيضًا بإرادة السلطة، مما أدى إلى عدم تطور تلك الطبقات، وانعدام الحراك الاجتماعي، الذي انعدمت معه مظاهر الديمقراطية التي وجدت في الحضارات التي اتسمت بحرية اقتصادية ومرونة وحرية في التملك وحركة التجارة، مثل الحضارة الإغريقية التي أوجدت نوع من الديمقراطية التي تمتع بها الأحرار في الامبراطورية اليونانية، والتي سميت بحضارات الشواطيء المتعددة الثقافات والديانات واللغات والمشارب، التي كانت الديمقراطية السياسية (النسبية) انعكاسًا موضوعيًا لها.
كانت ثروت مصر ونمائها الاقتصادي وموقعها الجغرافي الفريد سببًا في جعل مصر وأرضها مغرية للغزو من القوى الأجنبية، وعندما تنازع الكهنة على الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأرض والثروة، وزادت قوتهم، ضعفت مصر وفقدت نفوذها في سوريا وفلسطين، بالتزامن مع غزوات الليبيين من الغرب، ودخلت البلاد في إنشقاق واضمحلال جديد (هو الاضمحلال الثالث)، واستقر الليبيون في غرب الدلتا، وزادت سلتطهم وسيطروا على الدلتا تحت امارة “شيشنق الأول” 945 ق.م، وأسس ما سمي (أسرة باوباستيس) التي حكمت لنحو 200 عام، ثم هاجم الآشوريين مصر بحلول عام 671 ـ 667 ق.م، واحتلوا “ممفيس” وغزوا معابد “طيبة”، ثم غزا الفرس مصر عام 525 ق.م، ثم في عام 332 ق.م، قام الحاكم الفارسي “مازاسبس” بتسليم مصر إلى الإسكندر الأكبر دون قتال، ورحب المصريون بالإسكندر الأكبر باعتباره المخلص من الحكم الفارسي، واستندت الإدارة اليونانية التي أنشأها البطالمة خلفاء الإسكندر الأكبر على النموذج المصري للحكم في الإسكندرية وأصبحت الإسكندرية مقرًا للتعليم والثقافة، والتي تركزت في مكتبة الإسكندرية الشهيرة، ولم تحل الثقافة اليونانية محل الثقافة المصرية بالكامل، بل أيد البطالمة التقاليد الاجتماعية والدينية المتبعة على مر الزمان لضمان ولاء السكان، حيث اندمجت بعض التقاليد المصرية واليونانية معاً، وفي القرن الأول الميلادي بدأت اللغة القبطية تستخدم بجانب الكتابة الشعبية، والقبطية هي أبجدية إغريقية مع إضافة بعض العلامات والرموز الديموطيقية، ثم سادت بعد إغلاق دور العبادة الشعبية.
ولكن بسبب تمردات المصريين وخاصة الأسر المنافسة المحلية، واستمرار الثورات المصرية، وازدياد اعتماد روما على واردات الحبوب من مصر، اضطرت روما إلى ارسال قوات لتأمين البلاد باعتبارها مقاطعة من الإمبراطورية، واصبحت مصر محافظة من الإمبراطورية الرومانية عام 30 ق.م، في معركة “أكتوم”، وتم قمع التمرد والمتمردين وأصبح الرومان أكثر عداءًا للمصريين من اليونانيين، واصبحت الإدارة رومانية ومغلقة أمام المصريين، ومنذ منتصف القرن الأول الميلادي ترسخت وانتشرت الديانة المسيحية في الإسكندرية، إلا إنها لم تكن تقبل الوثنية، وهددت التقاليد الدينية الشعبية، مما أدى إلى إضطهادهم بعض الوقت والذي وصل زروته في عصر (ديوكلتيانوس) بدءًا من عام 303م، ولكنها في النهاية استطاعت أن تنتشر بعد اعتناق إمبراطور مصر لها، وفي عام 391م أصدر الإمبراطور المسيحي “ثيودوسيوي الأول” تشريعًا يحظر الطقوس الوثنية وأغلق المعابد، وشهدت الإسكندرية أعمال شغب مناهضة للوثنية وتدمير الرموز الدينية الخاصة والعامة، ولكن واصل السكان الأصليين التحدث بلغتهم، ومع الوقت اختفت ببطء الكتابات الهيروغليفية، وذلك بسبب تضائل دور كهنة وكاهنات المعابد المصرية، وتم تحويل بعض المعابد إلى كنائس وتهجير الأخرى، واستمرت مصر مقاطعة رومانية حتى دخول العرب مصر، والذي تزامن مع العصور الوسطى، وهو موضوع مقالنا القادم.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك