الإثنين - الموافق 30 ديسمبر 2024م

الحبس الاحتياطي بين حقوق البريء وحماية الأبرياء ..بقلم الدكتور عادل عامر

في ظل تطور ضمانات الحبس الاحتياطي في التشريعات المقارنة، وحتى لا يتحول الحبس الاحتياطي إلى اعتداء مستمر على الحريات المحمية دستوريًّا، يجب أن يواكب التشريع المصري الضمانات الخاصة بإجراء الحبس الاحتياطي.

فقد أصدر المشرِّع الفرنسي القانون رقم 1062 لسنة 1987، والذي عهد بسلطة إصدار الأمر بالحبس الاحتياطي إلى جهة قضائية مشكلة من ثلاثة من القضاة، ليس من بينهم قاضي التحقيق الذي يُجري التحقيق مع المتهم المعروض أمر حبسه احتياطيًّا. وتتولى محكمة النقض الفرنسية مراقبة مشروعية الحبس الاحتياطي.

وفي التشريع المصري، يعد الحبس الاحتياطي بمثابة عقوبة تصدر عن سلطة التحقيق لا المحكمة، قد يترتب عليه أذى شديد وصدمة عنيفة، إذ أنه يؤذي المتهم في شخصه وسمعته.

فهل المواد الحاكمة للحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية المصري تمثل توازن حقيقي بين حق الدولة في العقاب وحق المتهم في حريته الشخصية كمبدأ دستوري كونه مستمد من مبدأ أن الأصل في المتهم البراءة.

نظَّم قانون الإجراءات الجنائية المصري الحبس الاحتياطي عبر قانون تحقيق الجنايات الأهلي الصادر عام 1883 ليطبق على المحاكم الأهلية، ولن نسهب في ذلك القانون حيث عُطل العمل به حتى عام 1889 ثم تم تعديله عام 1904. وعقب إلغاء الامتيازات الأجنبية بموجب معاهدة 1936 صدر قانون تحقيق الجنايات عام 1949، والذي تضمن تنظيم الحبس الاحتياطي حيث منحه سلطة إصدار الأمر بالحبس الاحتياطي لقاضي التحقيق المنوط به مباشرة التحقيق لمدة شهر وذلك إذا كانت الجريمة التي يحقق فيها يعاقب عليها بالحبس دون وضع حد أدنى لمدة الحبس أو عقاب آخر أشد من الحبس.

وفي حالة مد الحبس الاحتياطي، تُعرض الأوراق قبل انقضاء مدة الشهر على غرفة المشورة دون إلزام قاضي التحقيق بتسبيب الأمر بالحبس الاحتياطي. ولغرفة المشورة سلطة تمديد الحبس شهرًا فشهرًا حتى الانتهاء من التحقيق، على أن تختص محكمة الموضوع سواء الجنح أو الجنايات بأمر الحبس الاحتياطي دون التقيد بحد أقصى.

ثم صدر قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950، والذي فرض مزيدًا من الضمانات على الإجراءات المنظِّمة للحبس الاحتياطي، وهو ما ستتطرق إليه الورقة تفصيلًا عند الحديث عن غاية الحبس الاحتياطي وشروطه. ومع إصدار دستور 1971، تم إضافة مزيد من الضمانات إلى الحبس الاحتياطي، تتمثل في مبرراته ووجوب توقيته. ولكن ظلت تلك الضمانات حبيسة وغير مطبقة، حتى صدر القانون رقم 145 لسنة 2006، بشأن تعديل قانون الإجراءات الجنائية، فيما يخص الحبس الاحتياطي.

أوردت المادة (54) من الدستور المصري في تعديلات عام 2014 الحالات التي يجوز فيها المساس بالحرية الشخصية للفرد وتقييد حريته، واشتراط صدورها عن جهة قضائية، على أن يكون الأمر بالحبس يستلزمه التحقيق. ويعني ذلك أن الأمر بالحبس الاحتياطي لا بد أن يكون لمصلحة التحقيق فقط، وأحال الدستور في تنظيم أحكام الحبس الاحتياطي ومدته وأسبابه والتظلم منه وحالات التعويض عنه إلى القانون والمقصود بالقانون هنا هو قانون الإجراءات الجنائية أو القوانين الخاصة بالحبس الاحتياطي، مثل القانون رقم 94 لسنة 2015 بشأن مكافحة الإرهاب، أو قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958.

لذلك وجب على المشرع عند تقرير الحبس الاحتياطي، وكونه إجراء ماسًّا بجوهر الحرية الشخصية التي قد حظيت بالحماية الدستورية، أن يلتزم بالمشروعية الدستورية من خلال مراعاة الضمانات التي وردت على الحبس الاحتياطي وأن يوازن القانون بين الحرية الشخصية للمتهم ومصلحة التحقيق.

وهنا يدق ميزان التوازن بين مصلحة المجتمع وحرية التنقل في مسألة الحبس الاحتياطي بوصفه إجراء بالغ المساس بهذه الحرية وقد كان له ماضٍ ملوث شهد إساءة استخدامه في كثير من الدول، خاصة في النظم التسلطية التي تتفوق فيها حقوق السلطة على حقوق الفرد.

لذلك نستعرض مبررات وأسباب الحبس الاحتياطي الواردة بالمادة 134 من قانون الإجراءات الجنائية وما بها من عوار وتوسع يخالف الدستور، ما يتطلب تدخلًا تشريعيًّا حتى تتماشى مع الغرض من الحبس الاحتياطي وذلك من خلال النقاط التالية:

باستعراض نص المادة 134 من قانون الإجراءات الجنائية نجد أنها توسعت في الهدف من الحبس الاحتياطي كما ورد في الدستور الحالي، وفيها افتئات على حق المتهم في الحرية الشخصية وتدحض قرينة البراءة، فتنحرف تلك المبررات عن الغرض الذي شرع من أجله الحبس الاحتياطي وهو مصلحة التحقيق حيث عنيت المادة 134 من قانون الإجراءات الجنائية بإيراد دواعي ومبررات الحبس الاحتياطي وحصرها المشرع في أربع حالات:

1 – إذا كانت الجريمة في حالة تلبس، ويجب تنفيذ الحكم فيها فور صدوره.

2 – الخشية من هروب المتهم.

3 – خشية الإضرار بمصلحة التحقيق سواء بالتأثير على المجنى عليه أو الشهود، أو بالعبث في الأدلة أو القرائن المادية، أو بإجراء اتفاقات مع باقي الجناة لتغيير الحقيقة أو طمس معالمها.

4 – توقي الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام الذي قد يترتب على جسامة الجريمة.

والبيِّن من البند الرابع من المادة 134 من قانون الإجراءات الجنائية أنه يخالف المادة 54 من الدستور الحالي التي تنص على: “الحرية الشخصية حق طبيعي، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق …”.

وكانت هذه المادة في دستور 1971 تتيح الحبس بأمر قضائي لما تستلزمه مصلحة التحقيق وصيانة أمن المجتمع، ولما كانت عبارة “صيانة أمن المجتمع” قد تم حذفها من النص الدستوري الحالي، فلا بد للقانون أن يتقيد بحكم المادة 54.(4)

أما فيما يخص البندين الأول والثاني من المادة 134 من القانون فيما تضمَّنا من مبررات للحبس الاحتياطي تتعلق بشخص المتهم وجسامة الجريمة لا التحقيق أو ما يتعلق به، فواقع الأمر أنه لا يجوز التوسع في الهدف من الحبس الاحتياطي واعتباره تدبيرًا احترازيًّا، لأن ذلك يجعله في مصاف العقوبات، الأمر الذي يتعارض مع طبيعته المؤقتة – أما مراعاة الشعور العام للناس بسبب جسامة الجريمة فلا يجوز مواجهته بحبس الأبرياء، والخوف من هروب المتهم عند الحكم عليه لا يجوز أن يكون سندًا لحبسه وإلا كان ذلك مصادرة على المطلوب، وهو التأكد من إدانته، ما يتعارض تمامًا مع أصل البراءة.

ب – التوسع في أسباب الحبس الاحتياطي

في ظل مناقشة الورقة البحثية لإشكاليات الحبس الاحتياطي في التشريع المصري، يمكن تناول السبب الآتي لما به من توسع في إصدار الأمر بالحبس الاحتياطي، والمتمثل في وجود دلائل كافية على نسبة الجريمة إلى المتهم:

حيث ورد بصدر المادة 134 إجراءات جنائية: “يجوز لقاضي التحقيق، بعد استجواب المتهم أو في حالة هربه، إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة معاقبًا عليها بالحبس لمدة لا تقل عن سنة، والدلائل عليها كافية، أن يصدر أمرًا بحبس المتهم احتياطيًّا،…”.

البين من نص المادة المشار إليها أنه اعتمد على مصطلح “دلائل” وهو وصف واسع النطاق وغير كاف للإدانة، حيث يمكن للنيابة العامة اعتبار التحريات مثلًا من ضمن الدلائل، وهو ما نشهده في أوامر الحبس الاحتياطي المتكررة خلال الآونة الأخيرة. بينما يجب أن يستند الحبس الاحتياطي إلى “دليل”، حسب توجهات الأحكام الصادرة عن محاكم الجنايات ومحكمة النقض، مثل: التقرير الفني، أو الاعتراف، أو شهادة الشهود. وهو ما يستتبع تدخل تشريعي لعدم صدور قرار بالحبس الاحتياطي إلا بناء على وجود دليل، إذ أن الأمر بالحبس الاحتياطي سالبًا لحرية المتهم مثل العقوبة.

ومن شروط سلامة الأمر بالحبس الاحتياطي أن تكون أمام المحقق أدلة كافية على نسبة الجريمة إلى المتهم سواء بوصفه فاعلًا أصليًّا أو شريكًا (مادة 134 إجراءات جنائية) وقد استعمل المشرِّع كلمة “الدلائل الكافية” دون الإفصاح عن مقصده منها، بمعنى هل تكفي الشبهات أو الدلائل أم يجب أن تكون هناك أدلة قوية على نسبة الجريمة إلى المتهم.

ويتجه الفقه إلي أنه إذا تبينت محكمة الموضوع عدم توافر الدلائل الكافية على الاتهام لتبرير الأمر بحبس المتهم احتياطيًّا كان هذا الأمر باطلًا ويتعين بطلان ما يترتب عليه من إجراءات واستبعاد الدليل المستمد منها، وحيث أن الأمر بالحبس الاحتياطي في غاية الخطورة لذلك يجب أن تكون هناك أدلة واضحة.

استخدم المشرِّع الفرنسي تعبير “الحبس المؤقت” بدلًا من “الحبس الوقائي” ويكون طبقًا للمادة 144/1،2 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي “للمحافظة على الأدلة أو الأمارات المادية أو لمنع الضغط على الشهود أو التدبير السيئ مع الشركاء، أو المحافظة على النظام العام من الإضراب الذي أحدثته الجريمة، أو لحماية المتهم أو لوضع حد للجريمة أو منع العودة إلى ارتكابها، أو لضمان بقاء المتهم تحت تصرف القضاء”.

ورغم توسع المشرع الفرنسي في مبررات الحبس الاحتياطي لا سيما فيما يخرج عن مصلحة التحقيق، فإنه جعل بدائل الحبس الاحتياطي (الرقابة القضائية) هي الأصل والحبس الاحتياطي بديلًا، حيث نصت المادة 144 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي على “لا يؤمر بالحبس الاحتياطي أو بإطالة مدته إلا إذا تبين من عناصر وظروف واضحة أنه يعد الوسيلة الوحيدة لتحقيق هدف أو أكثر من أهداف الحبس الاحتياطي، وأن هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها في حالة الخضوع للرقابة القضائية والالتزام بالبقاء في المسكن مع الخضوع للرقابة الإلكترونية”.

وقد نصت المادة 138 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي على أنه “يجوز أن يؤمر بالرقابة القضائية إذا كان المتهم معرضًا لعقوبة الحبس أو عقوبة أشد جسامة”، وقد حددت تلك المادة تدابير الرقابة القضائية.

أكد الدستور المصري الصادر في 2014 في المادة 54 على أمرين أو شرطين لتقييد حرية الأشخاص، أولًا: وجوب صدور الأمر بالحبس الاحتياطي عن جهة قضائية متمثلة في جهات التحقيق الابتدائي (قاضي التحقيق، أو النيابة العامة) أو التحقيق النهائي محكمة الموضوع عقب اتصالها بالدعوى، وكونه من إجراءات التحقيق الماسة بالحرية الشخصية فلا يجوز ندب مأمور الضبط القضائي في إصداره. وثانيًا: تحديد حد أقصى للحبس الاحتياطي نظرًا إلى طبيعته المؤقتة، فلا يجوز مطلقًا بغير قيد زمني، وقد أكد الدستور على تنظيم القانون مدة الحبس الاحتياطي.

 

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك