السبت - الموافق 12 أكتوبر 2024م

الرأسمالية والمنافسة الاقتصادية ..بقلم الدكتور عادل عامر

تطورت الرأسمالية عبر ثلاث مراحل كبرى، هي: الرأسمالية التجارية والرأسمالية الصناعية والرأسمالية المالية. وقد ارتبط ظهور الرأسمالية بحركة الاكتشافات الجغرافية في القرن السادس عشر، التي فتحت طرقا تجارية جديدة أمام التجار الأوروبيين وفرصا لتحقيق الأرباح من خلال استقدام السلع المتنوعة ومراكمة الثروات.

كما أسهمت أفكار عصر الأنوار التي تمجد الثروة بدلا من إدانتها كما كان عليه الأمر في القرون الوسطى، في تحفيز الناس على التجارة وجمع المال.

ارتبطت الرأسمالية الحديثة بالنظام الاقتصادي الغربي، الذي يقوم على الأسواق المؤطرة بالمنافسة، العملية الاقتصادية يقوم بها القطاع الخاص بالأموال التحفيزي، وفي الوقت نفسه، تعيد الأسواق التوازن لذاتها تلقائيا عبر حركتي الفائدة والتضخم، ورغم التحديات .

فإن الرأسمالية الحديثة نجحت في دفع النمو الاقتصادي للعقود الماضية يؤمن النظام الاقتصادي الرأسمالي بالربح المادي محفزا للأفراد على المبادرة والمخاطرة واستثمار رؤوس الأموال لكسب المزيد من الأرباح ومضاعفة الثروات، كما يعتقد أنصاره أن قوة تراكم رأسمال هي السبيل إلى النمو والتنمية الاقتصادية، من خلال تمويل الاستثمارات الضخمة والمشاريع الكبرى.

إن المنافسة حين تكتسب هذه الشمولية، وتصبح القاسم المشترك بين المنتجين الفرديين أو أصحاب رؤوس الأموال الخاصة ، فإنها تفتح المجال للقوانين الاقتصادية لأن تقوم بفعلها و تأثيرها الخاص في آلية الاقتصاد السلعي. إن قانون المنافسة هو أحد قوانين الاقتصاد الرأسمالي وهو يكتسب صفة القانون الموضوعي الذي يمارس عمله وتأثيره بمعزل عن إدارة الأفراد الذين يزاولون عملية التبادل السلعي في السوق ، وكما سنرى فإن العمل العشوائي لهذا القانون يظهر بصورة خاصة في شروط المنافسة الرأسمالية الحرة .

وبغية التخفيف من التأثير العشوائي لقانون المنافسة ، فقد لجأ المنتجون الصغار أو الحرفيون والتجار في مرحلة العصر الوسيط التي سبقت ظهور الرأسمالية في أوروبا إلى تشكيل ما يسمى بالطرائق الحرفية أو المهنية التي كانت تسعى إلى ضمان مصالح أعضائها من الأضرار التي تنجم عن المنافسة العشوائية في السوق، وبهذا الشكل اتخذت المنافسة بين المنتجين والتجار في تلك المرحلة طابعاً خاصاً ومنظماً ومميزاً عن المنافسة الحرة التي ظهرت فيما بعد في النظام الرأسمالي.

إن السمة الأساسية للمنافسة الرأسمالية تبرز في هدف تحقيق أقصى ربح ممكن وهو الذي يسعى إليه كل من أصحاب رؤوس الأموال، وبهذا الشكل فإن المنافسة الرأسمالية تعبر عن المحتوى الحقيقي لطبيعة رأس المال .إن التنافس الرأسمالي حول الربح يتخذ لهذا السبب بالذات طابعاً أكثر حدة وأكثر تنوعاً واتساعاً مما قد تكون عليه المنافسة بين المنتجين الحرفيين الصغار.

إن التنافس بين عدد كبير من أصحاب رؤوس الأموال والتجار يشمل مجالات واسعة تتعدى الحدود الوطنية إلى السوق العالمي وتؤدي بالنتيجة إلى إزاحة بعض رؤوس الأموال التي تعجز عن الاستمرار في السوق وإلى القضاء تدريجياً على المنتجين الحرفيين الصغار بسبب ضآلة حجم الاستثمار لديهم والإمكانيات المحدودة والعاجزة عن مسايرة متطلبات وشروط المنافسة في السوق.

شهد الاقتصاد المصري، خلال القرنين المنصرمين، عدداً من التغيرات الهيكلية النوعية، فاقت في عمقها كل زيادة كمية في الإنتاج. ففي عام 1800، كان المجتمع المصري يتألف بالأساس من فلاحين ينتجون لاستهلاكهم الخاص ودفع الجباية، وهي نوعٌ من الضرائب كان يؤدَّى إلى سادة الريف. أما اليوم، فإن مصر تتمتع باقتصادٍ رأسمالي، حيث تقوم الشركات بتنظيم الإنتاج، وحيث تضطر الغالبية العظمى من السكان للعمل بأجر، وحيث السوق وليس المنزل هو مَصدر السلع الاستهلاكية ووجهة الإنتاج، وحيث الربح وليس إشباع الحاجات هو الهدف من الإنتاج.

تتلخص الفرضية المركزية في المقال الحالي، في أن تلك التغيرات التي طرأت على الاقتصاد المصري قد نتجت، أولاً وقبل كل شيء، عن المتطلبات المتغيرة للاقتصادات الرأسمالية المتقدمة. ومفاد نظريتنا أن بحث الصناعة الرأسمالية الأوربية عن المواد الخام، في القرن التاسع عشر، قد أدى إلى توجيه الإنتاج الزراعي المصري صوب السوق، عوضاً عن الاستهلاك المنزلي. لقد حَدّ سعي الرأسماليين الصناعيين الأوروبيين وراء الأسواق

وليس المنافسين مِن تطور الصناعة المصرية. إلا أن الرأسمال الصناعي قد أفسح المجال أمام الرأسمال المالي في أوروبا أوائل القرن العشرين. وباعتماده على الشركات الكبرى التي تتمتع بالتمويل اللازم للتوسع، القادرة على نشر المخاطر، والتي لا ترتبط بموقعٍ جغرافي محدد أو صناعة واحدة؛ ينظر الرأسمال المالي إلى العالم بأسره بإعتباره مجموعة من المواقع الممكنة للاستثمار في صناعة مربحة. لقد حفز الرأسمال المالي الإنتاج الصناعي في مصر منذ عشرينيات القرن الماضي.

والنظرية التي نصدر عنها هنا، تتناقض تماماً مع النظرية القائلة بأن التنمية في مصر كانت موازية للتجربة الأوروبية، وإن كانت تاليةً لها وأبطأ وتيرة منها

تُعيد النظرية الأخيرة محدودية النمو الاقتصادي إلى نقص المدخرات ونقص فرص الاستثمار (بفعل الأسواق المقيدة)، كما تفترض هذه النظرية أنه كلما زاد الدخل والمدخرات، كلما زادت فرص التنمية الشاملة، بما في ذلك التصنيع. وأما النظرية التي نصدر عنها، فتشير إلى أن ارتفاع الدخول في الفترة المبكرة من تدويل الرأسمال (فترة صادرات المواد الخام)

سوف يقود إلى زيادة الواردات من السلع المُصنَّعة، وستُحْظَر الصناعة المحلية في خضم المنافسة مع مُنتِجِي البلدان المتقدمة. وستتطور الصناعة المحلية والبنية التحتية الاقتصادية بمعزلٍ عن التغيرات في الدخل في فترةٍ لاحقة، وذلك بفضل الرأسمال الأجنبي. وسيُدفع بأن هذه النظرية تتسق تماماً مع التجربة المصرية. في مصر القرن التاسع عشر، أدى ارتفاع الدخل إلى زيادة الواردات، مع انصراف المدخرات إلى الخارج أو في استملاك الأراضي. بعد الحرب العالمية الأولى، توسعت الصناعة والبنية التحتية المحلية، واستمرت في التوسع حتى في الثلاثينيات عندما انهارت الدخول والمدخرات.

وتذهب نظرية الاقتصاديين المبتذلين، المتعلقة بالتنمية والتجارة، إلى أن الرأسمال يتدفق صوب المناطق الغنية بالموارد الطبيعية والعمالة، لكن المفتقرة إلى الرأسمال. أما نظريتنا فتبيّن أن الرأسمال الأجنبي لم يستثمر كثيراً في مصر (وسيقتصر لاحقاً على الاستثمار في إنتاج القطن ولا غير) خلال الفترة الباكرة من تدويل الرأسمال، في وقتٍ شُغل فيه رأسماليو البلدان المتقدمة بالسعي من أجل الحصول على المواد الخام والأسواق اللازمة لصناعتهم. فيما تلى ذلك، غدت الشركات أكبر من ذي قبل وأكثر قدرة، بالتالي، على تحمل المخاطر، وتكاليف الرأسمال الضخم الضروري من أجل الاستثمار الأجنبي في الصناعة العامة.

تتناول المقالة الحالية فرضية أخرى، تتلخص في أن التنمية الاقتصادية المصرية قد مرّت بمراحل متميزة، لكلٍ منها ديناميكياتها الخاصة.

في المرحلة الأولى، حل إنتاج السلع محل الإنتاج للاستهلاك المنزلي أو المحلي؛ في المرحلة الثانية، حل الإنتاج الرأسمالي محل الإنتاج السلعي غير الرأسمالي. وتتناقض وجهة النظر هذه مع نظريتين شائعتين. فطبقاً لأتباع والرشتاين،

كانت مصر أساساً دولة رأسمالية منذ أوائل القرن التاسع عشر، عندما كان الإنتاج الزراعي يتوجّه، أكثر فأكثر، صوب السوق العالمية. في المقابل، ستكشف الدراسة الحالية عن أن مصر، قبل الحرب العالمية الأولى، لم تكن رأسمالية قَطّ، وذلك من ناحيتين مهمتين:

الأولى، عدم اعتماد العملية الإنتاجية على العمل المأجور، وأما الثانية، فهي أن الإنتاج لم يكن موجهاً نحو تعظيم الربح (وإنما إلى إشباع الحاجات الاعتيادية). إن الاندماج في السوق العالمية لا يقود تلقائياً إلى قيام الرأسمالية. يُعرّف مصطلح الإمبريالية بمجموعة العلائق التي أنتجتها عملية التراكم الرأسمالي، ولا يُعرّف بالغزو الاستعماري والنهب القسري

أما النظرية الثانية، التي خضعت هنا للنقاش الموسع، فتذهب إلى أن مصر قد ظلت حتى عهد قريب، أو حتى أنها لا تزال إلى يومنا هذا مجتمعا لا رأسمالي، يمثل شكلاً من أشكال الاقطاعية الجديدة. مِن اليسار (سمير أمين، مثلاً)، مَن يجادل بأن الرأسمال الأجنبي قد حال دون تطور مصر، وأدى إلى استبقاء عناصر ما قبل الرأسمالية وتعزيز التخلف الاقتصادي. سوف تسلط الفقرات التالية الضوء على نمو الزراعة والصناعة الرأسمالية في مصر منذ الحرب العالمية الأولى، والدور المحوري الذي لعبه الرأسمال الأجنبي في هذا النمو.

خلال السنوات الستين الماضية، شدّد الكتاب الراديكاليون على الأثر السلبي العميق الذي تركته الرأسمالية الأوروبية (والأمريكية) على اقتصادات العالم الثالث. لسوء الطالع، يفترض المؤلفون الراديكاليون، في أغلب الأحيان، أن الأهداف التي سعى اليها رأسماليو البلدان المتقدمة في العالم الثالث، قد ظلت خلال القرون القليلة المنصرمة هي نفسها دون تغير. وعلى الرغم من إشادتهم بنظرية لينين عن الإمبريالية، ما لبث الكثيرون أن تخلوا عن مفهومه عن الإمبريالية كمرحلة من التطور الرأسمالي، محبذين النظريات التي تربط الإمبريالية بالبحث المستمر عن المواد الخام والأسواق. قِلةٌ هُمُ المؤلفون الذين سعوا إلى فهم كيف أدى ظهور الاحتكارات في الدول المتقدمة إلى تغيير طبيعة العلائق بين الدولة المتقدمة وبلدان العالم الثالث.

يُعرّف مصطلح الإمبريالية بمجموعة العلائق التي أنتجتها عملية التراكم الرأسمالي، ولا يُعرّف بالغزو الاستعماري والنهب القسري. تنطوي الدراسة الراهنة على أطروحة رئيسية، مفادها أن تراكم الرأسمال في الدول المتقدمة قد مر بمراحل متمايزة، استناداً على تركيز ومركزة الرأسمال. أماط ماركس اللثام عن الديناميكيات التي بواسطتها تنتصر الوحدات الكبيرة من الرأسمال على الوحدات الصغيرة. شكلت رأسمالية ريادة الأعمال (أو ما يدعى بالمنافسة) المرحلة الأولى من الرأسمالية الصناعية، تلك التي حللها ماركس. أما الرأسمالية الاحتكارية، فقد تبلورت حين أحرزت الشركات الغلبة على رواد الأعمال. وتُواصل الشركات متعددة الجنسيات ورأسمالية الدولة، في يومنا هذا، عملية تركيز ومركزة الرأسمال.

كان هناك جانبان لنمو السوق في مصر خلال القرن التاسع عشر: زيادة الاستهلاك للسلع المشتراة من السوق، وزيادة الإنتاج للأسواق. وقد نشأ نمو الطلب، جزئياً، عن حاجةٍ إلى السلع الاستهلاكية البسيطة مما لا يمكن تصنيعه بالمنزل، كالثقاب على سبيل المثال. تَمَثل العنصر الحاسم،

بادئ الأمر، في عزم محمد علي، خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر، على تعزيز قوته العسكرية. فنتيجة لمعاناة تجربة الغزو الفرنسي بقيادة نابليون، أحسّ محمد علي بأن الحفاظ على قوة الدولة المصرية إنما يقتضي تحديث الاقتصاد (بهدف إنتاج أسلحة على الطراز الأوروبي). لم يكن الإقبال المصري على البضائع الأوروبية هو العنصر الحاسم في نمو علائق السوق في مصر خلال القرن التاسع عشر، بل إن زيادة الطلب الأوروبي على المواد الخام الصناعية والمواد الغذائية، كان هو العامل الحاسم. قبل بزوغ الرأسمالية الصناعية الأوروبية مباشرة، كانت مصر تنعم بتجارة موسعة، بيد أن هذه التجارة لم تكن أكثر من مجرد مُناقلة (إعادة شحن) للسلع الكمالية

ولم تؤثر كثيرا في الإنتاج المحلي. أخذ طلب الصناعات الأوروبية الجديدة في أوروبا يزداد، أكثر فأكثر، على المواد الخام، كما على المواد الغذائية لسكان المدن. أما قبل العام 1800، فقد كان الطلب الأوروبي ينحصر تقريباً في حاجة فرنسا المتزايدة إلى القمح اللازم لإطعام سكان مدنها الآخذين في الازدياد. وإن المحرك الرئيسي لحملة نابليون على مصر، أنما يكمن في تطلعه إلى تأمين مخزن الغلال، الذي كان قد بدأ يزود الجنوب الفرنسي بالفعل

إلا أن الصادرات المصرية من القمح لم ترتفع قَطّ إلى نسبٍ كبيرة. كانت المنافسة مع فرنسا جد عنيفة، لا من جانب روسيا والولايات المتحدة فحسب، بل ومن الفلاحين المصريين أيضا، حيث كان تناول القمح ضمن عاداتهم الغذائية الراسخة.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك