لم تنل أى قضية من جملة القضايا القوميه بمصر حيزا واسع النطاق بمثل ما حظيت به قضية اصلاح وتطوير التعليم ، فلا يكاد يمر العام الواحد الا وتطرح فيه هذه القضية الشائكه بغير واحدة
من الطرق وبأنماط متعدده للوصول الى التوليفة السحريه التى تعالج هذه المعضله علاجا شافيا ، ورغم الجهود المضنيه التى يبذلها جهابذة الفكر والرأى ، ما بين أكاديميين متخصصين تاره ونخب سياسيين تارة أخرى ، الا أن محصلة هذه المجهودات الفكرية الضخمه مازالت راكده فى بؤرة الصفر ، بما يعطى دلالة قاطعه بأن الحلول المقترحه للنهوض بالمنظومة التعليميه فى مصر ، مستمدة من نسج الخيال ولم ترتقى بعد الى طور الفكر البرجماتى ، والذى يقتضى مزيدا من المرونة الشديده فى علاج أسباب القصور وتقنين أساليب التطوير ، كما هو الحال فى معظم الدول المتقدمه على مستوى العالم ، والتى بلغت فى ميادين العلوم المتشعبه مبلغا عظيما جدير بالدراسة والتطبيق ، وليس من المستغرب أن تصغى قضية التعليم باهتمام ورعاية أى دوله تسعى للنجاح وتنشد به تحقيق الريادة فى كافة مناحى العلوم دينية كانت أو بحثية وتجريبيه ، ولا شك أيضا فى كون التعليم يمثل خيطا رفيعا بين التقدم والتخلف وبين الريادة والتبعيه ، فكم من دول مغموره استطاعت بفضل التعليم أن تحلق فى سماء المجد ، وأن تقود دول الحضارة والتاريخ ، وكم من بلاد أخرى ظلت دهورا تعزف على أوتار العراقة والسياده ، ثم همشت التعليم وقوضت العلماء فهوى بها الى أسفل سافلين ، ومثالا الدول العربيه تضرب فى القدم بالعراقة والحضاره غير أن واقعها أليم حقا ومرير فعلا ، فى المقابل نجد بلدانا مثل أمريكا وكندا وأستراليا بالرغم من حداثة ظهورهم فى ميدان التاريخ ، الا أن حاضرهم مشرق فى ميدان العلم والتقدم ، ولكن اذا أردنا حقا أن ننهض بالتعليم فعلينا أن نقتدى بأعظم نموذجين فى العالم حاليا وهما المانيا واليابان ، وكيف نهضتا الدولتين معا من مستنقع الدمار الحربى الى قمة الميدان العلمى ، حدث هذا فى بحر ثلاثين عاما فقط ، فما تعرضت له كلتا الدولتين عشية الحرب العالمية الثانيه ، من انهيار شامل فى كل منحى ليس بعيدا على أحد ، ولكن سرعان ما تبنت الحكومه الألمانية واليابانية جرعة أمل جماعية فى نفوس شعبيهما بكد متواصل دون كلل ، حتى وصلتا الدولتان الى ما هما عليه اليوم ، لم تنجح ألمانيا ومعها اليابان برصد مليارات الدولارات على الفن والموسيقى والمهرجانات الفنية والألعاب الرياضية كما نفعل نحن ، ولكن كان الانفاق على التعليم ورعاية العلماء هو المحك الأساسى لدى الدولتين معا ، هكذا يكون دور التعليم فى نهضة الأمم الواعيه لا الأمم الغافله ، وتلك هى انجلترا التى احتفظت لنفسها بمقعد مرموق بين دول الصفوة فى المضمار العلمى ، فبعد نهاية الحرب العالمية الثانيه سأل تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وقتئذ الاعلام البريطانى ، ما بال التعليم والقضاء فى بلادنا فقالوا له بخير فقال فمازالت بريطانيا بخير ، ولا أخفى سرا بأن هدفى الأسمى من هذه المقاله ، انما يتبلور فى رصد حال التعليم فى مصر والذى يندى له الجبين ، وفى ضوء هذه العباره المؤسفه يلوح فى أفقى العديد من التساؤلات التى تدور جميعها فى فلك أسباب الفشل وأساليب العلاج ، سوف أختصر كل مسافات معوقات التعليم فى بلادنا فى عنصر واحد ، وهو الافتقار الشامل لآليات الجوده بكل ما تشتمل على عدة محاور وهى ( أولا ) الافتقار الى استراتيجية قويه فى الموازنة الماليه وفى الادارة العلميه ، وحدث ولا حرج كيف ترصد أموالا هزيله لمنظومة التعليم الكبرى ، قياسا بقطاعات أخرى تستأثر بالمليارات كالرياضه والفن والموسيقى وغيرها ، وهى لا تمت بصلة للقضايا القومية من قريب أو من بعيد ، فهى من صنيع القوانين الوضعيه التى لا وزن لها فى أعراف وميادين تقدم أو انتكاسة الأمم ( ثانيا -) وجود خلل عميق فى استراتيجية التوزيع الوظيفى اذ أن هناك كثيرون يدرسون مواد فى غير تخصصاتهم سواء فى التعليم المرحلى أو فى التعليم الجامعى نفسه ( ثالثا ) تفشى الجامعات الخاصه بدون ضوابط ولا روابط ، وكذا بدون معايير أكاديميه ولا قانونيه ولا أخلاقيه ان صح التعبير ، بهدف الربح السريع وينتج عن ذلك كوارث عضال منها عدم تأهيل الخريجيين علميا ولا مهنيا ، فيتحول سوق العمل الى غابة من الصراع على حيازة الربح بالدرجة الأولى على حساب الخدمات المتميزه وهذه النقطة من الأهميه بمكان ، حيث أن المصير المحتوم لأجيال الخريجين فى مختلف التخصصات بعدم وجود مأوى لهم فى التعيينات الحكوميه ، يولد حتمية راسخه عند أولياء الأمور بأن المنظومة التعليمية برمتها ما هى الا بيزنس تدر عوائده الدوله فقط ، ولا عزاء لمستقبل عشرات الألوف من الخريجين الذين كبدوا أسرهم آلاف الجنيهات ، فيكثر الهرج والمرج وتتنامى الجرائم على كل منحى ، واذا كانت هنالك ضرورة لاستمرار الجامعات الخاصه فالأفضل قصرها على الكليات النظريه فقط ، واستثناء الكليات العمليه وبالأخص الطب والهندسة والصيدله ( رابعا ) تدنى مرتبات وأجور العاملين فى منظومة التعليم كما ونوعا ، فكيف يتقاضى المعلم أو الدكتور الجامعى أجورا بخسه فى مقابل ذلك نجد بورصات الملايين تنهال على فئات الرياضيين والفنانيين والمطربين وما خفى كان أعظم (خامسا ) تقييم أو تقويم الطالب من منظور الكفاءة التعليميه والتحصيل الدراسى فقط ، وهذا أمر جد خطير اذ ليس بالضرورة أن يكون الطالب كيس فطن فى النواحى العلميه ، فقد تكون هذه هى قدراته الطبيعيه التى لا شأن له فيها وحسبك أنه قد يمتلك موهبة خاصه فى التأليف أو الرسم أو الرياضه دون أن يجد عونا من أحد فى تنميتها (سادسا ) تقنين أسلوب التلقين فى كافة المراحل التعليميه بدون استثناء ، وهذا يولد فى نفوس الدارسين قناعة راسخه بجدوى الحفظ فى تحقيق النجاح والتفوق بأيسر سبيل (سابعا ) عدم الاستفادة القصوى من امكانيات بعض المواهب البشريه فى مختلف التخصصات ، بادعاء دبلوماسى فاجر وهو عدم أهليتهم من الناحية الاجتماعيه ( ثامنا ) تهميش دور التعليم الفنى وبالتالى فلا أمل فى استقلال قاعدة صناعيه تكفل لنا الاكتفاء الذاتى وعدم التبعيه ( تاسعا ) المضى فى تكريس سياسة الكيل بمكيالين فى كافة مناحى المنظومة التعليميه ، وعلى سبيل المثال وليس الحصر توريث المناصب داخل النطاق الأكاديمى أو تمريره طبقا للمصالح النفعية التبادليه (عاشرا ) عدم تقنين مبدأ الثواب والعقاب على الهيكل التدريسى فى كل مراحل التعليم حتى تسير العملية التعليميه وفق النظام العالمى المتطور (وتلك عشرة كامله ) والحل باختصار شديد يكمن فى تعزيز الدور الاقتصادى كعنصر أصيل فى النهوض بالتعليم مع الاستفاده القصوى بخبرات النابهين فى مجالات علميه وبحثيه فى مصر وخارجها ، على غرار الدول الرائده فى ظل وجود ادارة علمية حكيمه متشبعه بالامكانيات والمهارات ، وان كان من الأمر بد ، فلنبحث فى أروقة العديد من التجارب النهضوية المعاصرة ، ولعل أقربها الى ذهنى ، تجربة التحول الماليزيه ،،، أيها السادة الجهابذه فى بلادنا ، يا من تتغنون بالعراقة وتبتغون السيادة بلا جهد ولا وسيله ، يا من ترغبون فى الرفعة وتدعون الى النهضه ، لن تأتى الرفعة بالتمنى ولا بالتغنى ، ولن تأتى النهضة بنيلا أبيضا ولا ذهبا أسودا ، ان النهضة تساوى مجدا ، وان المجد لن يتأتى بغير العلم والعمل ، وانكم لن تبلغوا المجد حتى تلعقوا الصبرا ، رفعت الأقلام وجفت الصحف
التعليقات