السبت - الموافق 27 يوليو 2024م

سفيرة فوق العادة (رواية) بقلم: محمد السني

-1-
“جمهورية الشمس”
اخترق الطائر العملاق خزان مياه، شاهق الارتفاع، وهي في طريقها لجمهورية الشمس. بعد مرورهما بسلام، هي والطائر؛ زالت عنها الرهبة رويدًا رويدًا، وبدأت تترقب، وتشاهد، اختراق الطائر لكل حاجز يقابلهما. اطمأنت بوها؛ لم تعد تبالي بما يقابلهما من حواجز.
في الساحة الخضراء الواسعة، المرتفعة؛ هَبَطَتْ بوها، اختفى الطائر العملاق، وَجَدَتْ مضيفة جميلة، رشيقة، متأنقة، في انتظارها.
مدينة ضي؛ مدينة ساحلية جميلة، تُوِجَت عاصمة لجمهورية الشمس لهذا العام؛ خلفًا لمدينة الفنار، عاصمة العام السابق.
اصطحبتها المضيفة إلى استراحة زجاجية جميلة، مخصصة لإقامة بوها، أثناء زيارتها لجمهورية الشمس، جنوب مدينة ضي.
أخبرتها المضيفة؛ أنها ستكون رفيقتها أثناء زيارتها لجمهورية الشمس، ويمكنها الاعتماد عليها في كل ما تحتاج إليه.
أثناء ذهابهما للاستراحة؛ لاحظت بوها أن الشوارع نظيفة جدًا، تعكس صور الأشياء، كأنها مرايا؛ أخبرتها الرفيقة بأن الطرق في بلاد الشمس ذكية، تنظف وتطهر نفسها بنفسها، بشكل مستدام. وأن سطح الأسفلت مُغطى بعازل للحرارة والبرودة، ويحتفظ بدرجة حرارة معتدلة طوال العام.
في كلا الجانبين؛ رصيف مُجزأ إلى حارات؛ حارة للمشاة، حارة للدراجات، حارة مزدوجة للتزلج والتزحلج، حارة للتَرَيُّض، حارة للجلوس على كراسي خشبية جميلة، يتقدمهم حارة لتوقف سيارات المرور، والإسعاف، والخدمة المدنية، عند الحاجة.
على جانبي الشوارع؛ يصطف النخيل، وشجر الزينة، والزهور، والوردات ذوات الروائح الطيبة.
الأشجار على جانبي الطرق مُشَذَّبة، متساوية الأطوال، تحتوي الشجرة الواحدة على باقة متعددة من فصائل وأنواع الأشجار، لا أوراق متساقطة على الأرض.
الزهور والوردات مُهَذَّبة الألوان، متناسقة الأنواع، في الساق الواحد. تهذيب وتنسيق مريح للنظر، يتنوع، ويتفرد، حسب كل منطقة. تهذيب وتنسيق فنانين.
الحدائق كثيرة، وكبيرة، وجميلة، كمعارض زهور وأشجار، تتناثر منها روائح عطرة، تمتزج بصخب الصغار، وضحكات الكبار، التي تملأ الفضاء بهجة وسعادة.
تصطف البيوت الجميلة خلف الأرصفة؛ بيوت ألوانها متناسقة، مكونة من دورين، تلتف حولها أوراق الأشجار المتسلقة، والمَزْهَرِيَّات الفخارية الملونة، تحيطها الأشجار من كل الجهات. لم ترَ بوها عمارات مرتفعة، أو منازل متلاصقة، كمنازلهم.
ينتج كل منزل احتياجاته من الطاقة النظيفة، باحتواء زجاج الشبابيك، والبلكونات، لشرائح الكترونية، لتوليد لطاقة المتجددة، الكافية للمنزل، وباحته، وحديقته. بينما يتكفل أسفلت الشوارع بتوليد الطاقة النظيفة المتجددة لباقي المجالات. أخبرتها بذلك الرفيقة الموسوعية.
لم تلحظ بوها وجود مدارس أو جامعات؛ فظنت أنها في أماكن أجمل من تلك. وعندما سألت الرفيقة عن أماكن المدارس والجامعات؛ أخبرتها بأنه لا توجد مدارس ولا جامعات في جمهورية الشمس، وأن التعليم يتم عن طريق تطبيقات يديرها الذكاء الاصطناعي.
أخبرتها؛ أن الذكاء الاصطناعي يتولى وضع، وتطوير، السياسات التربوية والتعليمية، وإدارة العملية التعليمية، من المهد إلى اللحد، دون تدخل العنصر البشري، لأن البشر أصبحوا محدودي المعرفة، بالقياس للمعرفة الهائلة، والمهارات الفائقة، للذكاء الاصطناعي، وخاصة بعد أن أصبح بارعًا في تحليل البيانات.
لاحظت بوها؛ أن السيارة الفارهة التي تقلهما، بدون سائق، وعندما سألت الرفيقة؛ أخبرتها بأن السيارات هنا ذاتية القيادة. كما لاحظت؛ أنه لا يوجد سوى سيارتين، أو ثلاث، تسير في كل شارع، وعندما سألت الرفيقة؛ أخبرتها بأن المترو الذكي، ذاتي القيادة، يمر أسفل البيوت والمرافق العامة، التي توجد بها فتحات أرضية تُفتح وتُغلق لأعلى، يركب وينزل منها الشمسيين، دون الحاجة للخروج إلى الشارع.
بوها: طيب!! .. يعني مفيش عندكم غير الكام عربية دول؟
الرفيقة: عندنا عربيات مجانية للسواح والزوار من خارج جمهورية الشمس؛ علشان يستمتعوا باللف هنا، ويتعرفوا على بلدنا وحضارتنا.
تباطأت السيارة التي تقل بوها والرفيقة؛ انبثق جناحان من جانبي السيارة؛ رن جرس بداخلها، تلاه تنبيه بأن السيارة ستصعد لأعلى بعد لحظات، سارعت الرفيقة بضبط حزام مقعد بوها، ثم حزام مقعدها، عن طريق لوحة تحكم أمام مقعدها، طارت السيارة لأعلى، انعطفت صوب بعض الحدائق الأنيقة.
هبطت السيارة الفارهة، في باحة خضراء أمام الاستراحة الزجاجية، انفتحا بابي السيارة بجانبي بوها والرفيقة، تزحلقا الكرسيان إلى الطريق، توجها الكرسيان صوب باب الاستراحة، قامت الرفيقة من فوق الكرسي، تبعتها بوها، وعادا الكرسيان إلى داخل السيارة، دخلتا الرفيقة وبوها داخل الاستراحة. ارتمت بوها على أقرب أريكة.
أخرجت بوها ورقة بقيمة خمسة جنيهات، من محفظة نقودها، طلبت من الرفيقة أن تشتري لها بعض الأطعمة، لأنها أحست بالجوع. اختطفت الرفيقة المحفظة، ركبت المترو الذي انبثق من ركن في أقصى يسار الاستراحة؛ وطارت!!. أُصيبت بوها بالدهشة، من الطريقة التي سرقت بها الرفيقة محفظة النقود!!.
“~~~ هو أول الآية كفر ولا إيه!!. الحمد لله اني متسرقتش في بلدنا، ومشوفتش الندالة دي هناك؛ رغم الفقر والعوز اللي هما فيه ~~~”.
“~~~ بقى انتي يا مفعوصه، يا حمرا، ياللي عاملة زي عروسة المولد، يا بنت امبارح؛ تسرقيني عيني عينك كده، ومش مكسوفه على طولك ~~~”.
“~~~ طب والنبي دي البت هيا، بنت بنتي، اللي لسه مكملتش تلات سنين؛ لقت خاتم دهب في الشارع، جابته على عندي، وفضلنا نسأل لحد ماعرفنا انه خاتم أم أمل اللي ساكنه في آخر الشارع. الوليه حاولت تدي هيا حلاوتها، بس هيا مردتش تاخد منها أي حاجة أبدًا. مع ان لو كان رمضان أبوها هو اللي لقي الخاتم؛ كان دكه في جيبه، ومحدش سمع عنه؛ بس هي طالعه لينا، مش لأبوها .. احنا منقبلش حاجة حد أبدا ~~~”.
بعد لحظات؛ انفتحت محطة مترو بوها مرة أخرى، خرجت الرفيقة بصحبة زعيمة المدينة في الصالة؛ قامت الزعيمة بتشغيل التلفاز، وجهت مقدمة خاتم يدها صوب شاشة التلفاز، أدارت بعض المفاتيح الدقيقة جدًا على مقدمة الخاتم. ظهرت الزعيمة وبوها وإنسان آلي على شاشة التلفاز، قامت الزعيمة بضبط الصورة وتوضيحها. ظهر مندوب التراث الشمسي على جانب من الشاشة؛ بينما ظهر الثلاثة في الجانب الآخر.
لاحظت بوها وجود إنسان آلي بجانبها في شاشة التلفاز، سألت الرفيقة عن سبب ظهوره؛ رغم عدم وجوده معهم. أجابتها الرفيقة بأنها صورتها، لأنها في الحقيقة إنسان آلي، ضمن دائرة تحكم الذكاء الاصطناعي.
أخبرتها بأن كل المرافقين في بلاد الشمس آليين؛ لأن ذاكرتهم تحمل معلومات اضعاف ما تحملة ذاكرة الإنسان البشري، كما أن قدرتهم الهائلة على تحليل البيانات، بواسطة الذكاء الاصطناعي؛ تكسبهم ميزة التفوق، في مجال الإرشاد السياحي.. صمتت بوها.
“~~ والنبي قلبي كان حاسس من ساعة ماشوفتك .. ونفسي كانت حمضانه منك .. صحيح؛ قلب المؤمن دليله ~~”
عرضت الزعيمة الأوراق النقدية، الموجودة بمحفظة نقود بوها، على الطاولة، سلطت عليها الخاتم، ظهرت على شاشة التلفاز، بعد أن قُسِمَت الشاشة لثلاث مربعات متساوية.. كان الفيلسوف فرحًا.
طلبت الزعيمة مناقشة الأمر داخل اجتماع المجلس الرئاسي، مع المندوبين النوعيين، الذي سيُعقد بعد لحظات، وطلبت منهم التوجه للاجتماع. سألتها الرفيقة عن أسلوب تنظيم الاجتماع؛ مباشر أم عن طريق الفيديو كونفرانس؛ أخبرتها الزعيمة بأنها تفضل أن يكون الاجتماع مباشر، حتى يتسنى للمندوبين التعرف على بوها عن قرب.
أدركت بوها أنها وقعت في أيدي عصابة؛ زال انبهارها بهم، لم تعد تهتم بتصرفاتهم بتشوق واندهاش.
من محطة المترو بداخل الصالة؛ توجهت بوها بصحبة الرفيقة، والزعيمة، إلى الاجتماع العاجل، داخل مقر الحكم، بمدينة ضي، اخذتها الزعيمة إلى قاعة الاجتماعات.
جلست بوها في مقدمة الركن المُخصص لمندوبي بلاد الصَبَّار؛ لتشاهد الجلسة اليومية، لمناقشة أحوال جمهورية الشمس، والاطلاع على التصويت الإلكتروني اليومي على قرارات المجلس الرئاسي، والاستماع لتقارير رؤساء اللجان النوعية؛ التعليم، الصحة، المواصلات، الثقافة، الفنون، وخلافه، ومراجعة احتياجات المسنين، والأطفال، ومراجعة تقارير مخصصات الإعاشة اليومية، وتوزيع مهام اليوم التالي.
تم تشغيل شاشة عرض كبيرة في مواجهة المجتمعين؛ ظهر أعداد كبيرة من الشمسيين، في الجانب الأيسر من الشاشة، يدلون ببعض الملاحظات، والمداخلات، والاقتراحات، والاستفسارات، المتعلقة بالقرارات المقترحة، وفي الجانب الأيمن من شاشة التلفاز؛ تظهر صورة المجتمعين.
لاحظت بوها؛ وجود عدد كبير من الأناس الآليين، في الركن الخاص بالمجتمعين على الشاشة، فأدركت أن غالبية المندوبين النوعيين من الآليين، باستثناء الفيلسوف مندوب التراث، وبعض المؤرخين والمفكرين.
سألت بوها الرفيقة، عن طبيعة وظيفة المندوبين النوعيين، في جمهورية الشمس؛ فأجابتها الرفيقه بأنهم يقومون بأعمال تضاهي أعمال الوزراء، أو المديرين التنفيذيين للشركات، في بلاد الصبار.. صمتت بوها.
حضرت بوها اجتماع لجنة التراث، في قاعة الاجتماعات، بصحبة الزعيمة، استعرض مندوب لجنة التراث الْوَاقِعَة، التي أمدَّتهم بالفئة الجديدة من النقود، عن الحقبة السوزانية المباركة، وهي بقيمة خمسة جنيهات. أوضح؛ أن هذا الحدث، سوف يمكنهم من استكمال جميع الفئات النقدية، عن تلك الفترة التاريخية الوسيطة المتأخرة.
عرض الفيلسوف على لجنة التراث؛ منح بوها وسام اللوتس؛ الذي يتيح لها امتيازات المتقاعدين، والمسنين، والأطفال، أثناء زياراتها لجمهورية الشمس. ولقب سفيرة فوق العادة؛ الذي يتيح لها حضور المؤتمرات اليومية، واجتماعات اللجان النوعية. والنظارة الذكية؛ التي تمكنها من التعرف على الأناس الآليين.
وافقت اللجنة على الاقتراح؛ تم رفعه للمجلس الرئاسي، لإدراجه ضمن جلسة التصويت الإلكتروني اليومي. أُحيل القرار إلى الذكاء الاصطناعي؛ لاتخاذ الإجراءات اللازمة نحو تنفيذه، وأرشفته.
دقت الطبول، صَدَحَ المطربون، جلس الناس حسب أطوالهم، غنى المحترفون، ثم الهواة، ثم العامة، أكلوا وشربوا حتى حلول وقت النوم؛ ذهب كل منهم لداره الخاص، أو لداره المؤقتة لحين استلام داره الخاص.
ذهبت بوها بصحبة الرفيقة إلى استراحتها، أوضحت لها الرفيقة بعض الأمور المتعلقة بالمعيشة داخل الاستراحة؛ عن كيفية التعامل مع الأجهزة الكهربائية، والالكترونية، ومعدات المطبخ، ونظام التبريد، والإضاءة.
قالت لبوها أنها قد لا تستعمل المطبخ؛ لأنها حاصلة على وسام اللوتس، وأن إعاشتها مثل إعاشة المسنين، والأطفال، تُعد داخل المطابخ العامة، ويتم تغليفها وتوصيلها إليهم بواسطة وصلات التوزيع الموجودة داخل المطابخ، كما أن شُعَب الخدمة المنزلية يقومون بمهمة تنظيف وترتيب مساكن المسنين، ودور الأطفال.
بوها: طيب! بس أنا مش كبيرة قوي يعني! وبعدين صحتي حلوة، ومش محتاجة مساعدة.
ضحكت الرفيقة، وقالت: مش عايزين نتعبك يا بوها.
“~~ وليكي عين تضحكي يابجحه، بعيونك اللي لون برسيم البهايم؛ مفنجلين كده، ويِطَّخ فيهم الرصاص ~~”.
بعد تناول وجبة العشاء؛ قامت بوها بتنظيف الأطباق، والمعالق، وكوب العصير، جميعهم من الفخار، وضعتهم على علاقة المواعين داخل المطبخ.
دق جرس الباب؛ دخلت سيدة بشوشة، أنيقة، سلمت على بوها، تقدمتها بوها لتجلسها على أحد المقاعد.
التفتت بوها خلفها لتجلس الضيفة الجميلة؛ وجدتها تدخل المطبخ، تأخذ الأطباق والمعالق وكوب العصير، تضعها في كيس زبالة موجود داخل المطبخ، تبتسم لبوها، تقول لها: أنتِ شبه موني، أنا ارتحتلك قوي. تخرج وتضع المخلفات داخل عربانة صغيرة، أمام الاستراحة، وتذهب.
“~~~ زَبَّالة! معقول دي بتاعة التنضيف! والنبي دي زي الممثلات عندنا ~~~”.
تذكرت بوها كلام الرفيقة عن شُعَب التنظيف؛ هرولت إلى غرفتها، ارتدت نظارتها الذكية، توجهت صوب الباب، نظرت ناحية الضيفة الراحلة، وجدتها إنسان آلي، عادت مترنحة كالسلحفاء.
أحكمت بوها غلق محفظتها جيدًا، وضعتها تحت المِخَدَّة؛ ولكنها لم تكن غاضبة، فقد حصلت على تعويض يفوق قيمة الخمسة جنيهات، بل ربما تحصل على أضعاف ما سُرِقَ منها؛ نتيجة لوضعها الجديد كسفيرة فوق العادة… أحكمت غلق باب البيت، ونامت….. ونستكمل.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك