الإثنين - الموافق 16 ديسمبر 2024م

سياسة التجويع من أخطر أسلحة الإبادة الجماعية ..بقلم الدكتور عادل عامر

استخدمت إسرائيل تجويع المدنيين المتعمّد وإعاقة وصول المساعدات الإنسانية – وهو أحد التكتيكات الحربية الفظيعة، إنّما المنتشرة– كسلاح لكسر المقاومة في قطاع غزّة. وهو يُستخدم أيضاً كورقة مساومة، لاسيّما في هذه المرحلة الحسّاسة من مفاوضات وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل. لكن ما الذي يمكن فعله حين يصدر حظر قانوني على جريمة دولية ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية وأمر قضائي بوقف الانتهاكات، إن لم يكن هناك آليات للتنفيذ؟

يشكّل الإنزال الجوّي للمساعدات فتاتاً أمام احتياجات الفلسطينيين المُحاصرين تحت القصف في قطاع غزّة، والذين يقفون على حافة مجاعة هي إلى حدّ بعيد من صنع إسرائيل. كما أنّه مثال صارخ على ضعف الولايات المتّحدة في مواجهة التعنّت الإسرائيلي، والخروقات الفظيعة لاتفاقية الإبادة الجماعية، والانتهاكات الصارخة للحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية في 26 يناير 2024. وفي الواقع، إنّ عملية إلقاء هذه المساعدات مهينة للولايات المتّحدة، وتهدف، بحسب أحد عمّال الإغاثة إلى «إراحة ضمائر» المسؤولين في واشنطن. وفي العموم، أظهرت هذه التدابير فشل الدول الأطراف الثالثة في تحمّل مسؤوليّاتها بموجب القانون الدولي.

صُدِم العالم بحجم جرائم الحرب الإسرائيلية وخطورتها في قطاع غزّة، فاستهدافها للمدنيين الفلسطينيين يُظهر ازدراءها بقواعد النظام الدولي. يُلزِم الأمر الصادر عن محكمة العدل الدولية في يناير 2024، إسرائيل بموجبات قانونية، ويلقي مسؤوليّات على الدول الأطراف الثالثة، خصوصاً الدول التي تسهّل الحملة العسكرية الإسرائيلية، التي قتلت أكثر من 30 ألف شخص – معظمهم من النساء والأطفال – وأصابت 72 ألفاً آخرين، ودمّرت قطاع غزة وهجّرت قسراً معظم سكّانه. ولم تكن هذه الفظائع مُمكنة لولا الدعم الثابت للولايات المتحدة وانخراطها العميق في الحرب.

بعد مرور أكثر من شهر على إصدار محكمة العدل الدولية، وبإجماع شبه مطلق، حكمها بخصوص التدابير المؤقتة لتطبيق اتفاقية الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، تستمرّ حملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية بكل عناد وقساوة. لقد أمرت المحكمة إسرائيل بـ «اتخاذ إجراءات فورية وفعّالة للسماح بتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تمسّ الحاجة إليها»، ومنحتها شهراً واحداً لتقديم تقرير بشأن التدابير التي اتخدتها للامتثال لهذا القرار.

رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية، وتوعّد بأنّ إسرائيل «سوف تواصل الدفاع عن نفسها وعن مواطنيها» بالتوازي مع التزامها بالقانون الدولي. ومع رفض التراجع عن المسار العدائي، قتل الجيش الإسرائيلي ما لا يقل عن 3,500 فلسطيني، بمعدّل 120 يومياً، منذ صدور حكم محكمة العدل الدولية. وأصيب ما لا يقل عن 5,250 فلسطينياً في الهجمات الإسرائيلية. وفي مفارقة قاسية، قُتِل 115 شخصاً وجُرِح 700 آخرون أثناء تجمّعهم حول قافلة مساعدات في مدينة غزّة في 29 فبراير. وفي حين اتّهم مسؤولو الصحّة الفلسطينيون إسرائيل بإطلاق النار على الحشود، زعمت إسرائيل أنّهم ماتوا بسبب التدافع.

يوضح القانون الدولي الإنساني – وهو مجموعة القواعد القانونية التي تحكم النزاعات المسلّحة – أن التجويع المتعمّد للسكّان المدنيين من أجل تحقيق مكاسب عسكرية هو جريمة حرب. لا يزال يعيش نحو 300 ألف فلسطيني، في المحافظات الشمالية من القطاع – المعزولة عن المحافظات الجنوبية والمدمّرة بالكامل – وهؤلاء يتضورون جوعاً، ويأكلون علف الحيوانات منذ شهرين بسبب القيود التي تفرضها إسرائيل على وصول المساعدات. ووفقاً لوزارة الصحّة الفلسطينية، توفي 15 طفلاً بسبب الجوع في مستشفى واحد فقط.

وذكر تقرير للأمم المتّحدة صادر في 18 مارس عن عدد من الوكالات المكلّفة بمراقبة المجاعة، أنّ 677 ألف شخص في قطاع غزّة يواجهون «أعلى مستوى من الجوع الكارثي». وحتى في مدينة رفح، التي يُفترض أنّها منطقة آمنة وتؤوي الآن نحو 1,5 مليون فلسطيني نزحت غالبيتهم في وقت سابق من الحرب، تسبّبت إسرائيل في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بين المدنيين. ولا يزال نتنياهو يصرّ على مواصلة إسرائيل خططها لغزو المدينة الجنوبية. ببساطة، لا مكان آمناً في قطاع غزّة.

بموجب القانون الدولي، تتحمّل إسرائيل، باعتبارها قوّة احتلال، مسؤوليّات وواجبات قانونية محدّدة تجاه السكّان المدنيين في قطاع غزّة. فهي ليست مُلزَمة بعدم الإضرار بهم فحسب، بل بحمايتهم أيضاً. وباعتبارها دولة موقّعة على اتفاقيات جنيف، فإنّ إسرائيل مُلزَمة دولياً بحماية السكّان المدنيين الواقعين تحت احتلالها وضمان رفاهيتهم وحقوق الإنسان الخاصّة بهم. وتنصّ المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة على حظر العقاب الجماعي، وتلزم المادة 59 المحتل بتسهيل جهود وخطط الإغاثة في حال عدم توفّر إمدادات كافية في المناطق الواقعة تحت سيطرته. لم تتقيّد إسرائيل بأي من هذه الالتزامات.

إنّ الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية في 26 يناير واضح: على إسرائيل وقف أعمال الإبادة الجماعية، والحفاظ على الأدلّة التي تثبت وقوعها، ومنع التحريض على أعمال الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وفي ضوء الأزمة الإنسانية المتفاقمة في القطاع، عادت جنوب أفريقيا إلى المحكمة في 6 مارس، لطلب اتّخاذ إجراءات طارئة إضافية ضدّ إسرائيل من أجل تجنّب «التجويع الجماعي» في قطاع غزّة، وقالت بريتوريا إنّ إسرائيل تنتهك الحكم الأولي الصادر عن المحكمة، وتهدّد الفلسطينيين في قطاع غزّة بمجاعة جماعية.

وبعد مرور أكثر من عام على الإبادة الجماعية، وبالرغم من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المتواصلة، التي تنتهك قواعد القانون الدولي على نحو لا يحتاج كثيراً من التمحيص، إذ يكفي الاطلاع على ما تنشره وسائل الإعلام، وما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي من تصريحات للقادة في دولة الاحتلال، وما ينشره أفراد قوات الاحتلال من فيديوهات توثق ما يرتكبونه من جرائم، لتشكل دليلاً قاطعاً على ارتكاب هذه الجرائم. ومن بَيْن الجرائم المروعة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي جريمة التجويع، التي راح ضحيتها حتى كتابة هذه الورقة نحو 33 شهيداً، وما زال أكثر من 3,500 طفل مُعَرضين للموت بسبب سوء التغذية ونقص الغِذاء.

وهذا وبالرغم من واجبات الأطراف الثالثة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وقرارا مجلس الأمن الدولي، التي تفرض على كل الدول الأطراف التحرك لوقف الجرائم إلا أن الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا الغربية تمارسان العكس، ويشاركون في الجرائم بشكل مباشر أو عبر مواصلة دعم قوات الاحتلال بالسلاح.

إن النظام الدولي اليوم مهدد بالانهيار في ظل تحلل الدول من التزاماتها، وعدم اتخاذها أي تدابير للوفاء بالتزاماتها القانونية، بما في ذلك تجاه رأي محكمة العدل الدولية القاضي بعدم شرعية الاحتلال، ما يفرض على كل دولة تدعي احترام سيادة القانون أن تبادر إلى إجراءات وتدابير فعالة لإنهاء احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية المحتلة. تنوعت أساليب التجويع الممنهج، التى تتبعها سلطات الاحتلال الإسرائيلى بحق الفلسطينيين. فهى من جهة، تتحكم فى حياتهم، إذ يعتمدون عليها فى إمدادهم بالكهرباء، معظم المياه، مشتقات البترول، المواد الغذائية والأدوية المستوردة من الخارج، عبر الموانئ الإسرائيلية. وحالة نشوب حرب إقليمية، أو تعرض إسرائيل لهجمات انتقامية من إيران ووكلائها، فسيتضرر الفلسطينيون فى الضفة وغزة بالتبعية، جراء اعتمادهم المفرط على إسرائيل فى جميع مناحى حياتهم، باعتبارها «القوة القائمة بالاحتلال».

تتفنن إسرائيل فى إعاقة دخول المساعدات للقطاع، حيث أغلقت المعابر، التى كانت تتيح دخول نحو600 شاحنة يوميًا، وباتت المتحكم الوحيد فى حركة القوافل والبضائع، عبر حاجز إيريز. ولا يكفى ما يدخل، حاليا، من السلع والبضائع، لتلبية احتياجات1% من سكان جنوب ووسط القطاع، بينما تعانى مناطق الشمال حرمانا مروعا. وهو ما أدى إلى تضاعف نسبة الوفيات الطبيعية، بنحو سبعة أضعاف ما كانت عليه قبل العدوان الحالى.

بدم بارد، وفى تحد صارخ للقانون الدولى، لا تتورع قوات الاحتلال عن استهداف موظفى وعمال الإغاثة الأمميين، بغية عرقلة وصول المساعدات إلى غزة، ما أفضى إلى وفاة ما يناهز 150 منهم. وبموازاة رفض سلطات الاحتلال غالبية طلبات البعثات الإنسانية بالوصول إلى مدينة غزة وشمال القطاع، تتعاظم التحديات والقيود على حركة العاملين فى المجال الإنسانى، بجريرة أوامر الإخلاء المتكررة، وإعلان بؤر عديدة مناطقَ عمليات. ولم يتوان الإسرائيليون عن التماس السبل الكفيلة بتقويض نشاط «الأونروا»، التى تلعب دورا مركزيا فى إنقاذ سكان غزة. ورغم الإدانات والتحذيرات، التى أطلقتها منظمات الإغاثة الدولية، تنحسر أعداد الشاحنات، التى تنقل المساعدات إلى القطاع، بشكل مقلق، مع اشتداد وطأة القصف، الحصار والإغلاق. فإلى جانب تدمير الطرق والبنى التحتية، بما يعرقل الوصول الآمن للمساعدات، تسيطر سلطات الاحتلال على قوافلها كافة عند معبر رفح، وتتفنن فى إعاقتها وتأخير وصولها. ناهيك عن عمليات النهب والتخريب، التى تتعرض لها القوافل القليلة المسموح بمرورها عبر المعابر الحدودية، من قبل اليمينيين المتطرفين الإسرائيليين.

تأبى قوات الاحتلال إلا ممارسة التدمير الشامل والممنهج للنظام الغذائى والبنية التحتية الفلسطينية، بما يعوق إيصال الغذاء للجوعى والمنكوبين، كما يقوض قدرتهم على إنتاجه. فلم ترعو عن تدمير البيئة الزراعية، وتجريف نحو22% من مساحاتها، بما فيها آبار المياه، المعدات الحيوية لإحياء الأرض، البساتين والصوبات الحرارية. فضلًا عن حرمان المزارعين من البذور، مياه الرى، وقطع الغيار للميكنة الزراعية. الأمر الذى أطاح بآمال أكثر من 200 ألف عامل فلسطينى، لجأوا إلى استصلاح أراضيهم لإنتاج غذائهم، بعدما ألغت سلطات الاحتلال تصاريح عملهم داخل إسرائيل، عقب «طوفان الأقصى». وعلاوة على منع الفلسطينيين من بلوغ البحر، دمرالاحتلال 70% من أسطول الصيد، و75% من منازل القطاع، بما يقوض قدرة قاطنيه على إدراك الطعام، أو حتى تدبيره.

 

 

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك