الإثنين - الموافق 04 نوفمبر 2024م

طاولة المفاوضات واجتياح رفح ..بقلم الدكتور عادل عامر

اجتياح رفح أو معبرها، وإغلاق منافذها وإحكام الحصار عليها هي آخر فعلٍ يقوم به العدو ويلجأ إليه، وآخر الأوراق التي يستخدمها بعد يقينه بالعجز و إحساسه باليأس، فلم يبق في جعبته شيءٌ يقدمه، أو وسيلة يعد بها مستوطنيه ويمني بها نفسه، فلا أهداف لديه باقية يقدم عليها أو يقوم بها، إلا أن يكرر المكرر ويعيد تجربة المجرب، ويتمنى في كل مرة تغيير النتائج واختلاف المخرجات، فما بعد رفح ليس إلا الخسارة والخزي والندامة، ولن يكون أمامه إلا خيار لف جثامين قتلاه، وسحب آلياته والانسحاب من القطاع، والتوسل لاستعادة أسراه واستبدال جنوده، والمقايضة على قتلاه، وجر أذيال الخيبة بعيونٍ كسيرةٍ ونفوسٍ حسيرةٍ، والبحث عن صورة نصرٍ كاذبٍ وغلبةٍ موهومة يحفظ بها ما بقي من ماء وجهه. خطط العدو طويلاً لهذه الجولة التي يعلم أنها أخيرة،

وتردد في تنفيذها وهو يعلم أنها خاسرة، وأنه سيعود منها خائباً فاشلاً، فحشد قواته وجمع آلياته، ودخل إلى أطراف رفح الشرقية، وحمل معه أعلام كيانه التي جهزها وجاء بها معه، ليرفعها على البوابة والمعبر، وينصبها على الحدود والأطراف، وتعمد أن تكون كبيرةً لافتةً، لترفرف ويراها مستوطنوه، وتصورها كاميراته ويشاهدها جنوده، ليوهمهم ومستوطنيه أنه حقق النصر المراد، ونال الهدف المرام، ووصل إلى الغاية المرجوة والنتيجة المنشودة، وما علم أن أعلامه لا تصمد أمام الرياح الفلسطينية، وأنها ستتمزق وستهترئ قبل أن يفكر بالاحتفال بنصره والاحتفاء بفوزه.

يعلم نتنياهو وغالان أنهما وجيشهما يقفزان في الهواء ويقبضان عليه، ولا يجنيان من فعلتهما غير الخيبة والفشل، والخسة والندامة، وأن حملتهما الأخيرة اليائسة البائسة ليست إلا زبد بحرٍ لا يبقى، وسيذهب يقيناً لا شكاً جفاءً وهباءً، أما المقاومة وشعبها فهي التي ستنفع وستبقى وستمكث في الأرض، وهي التي ستمرغ أنوفهم وستبدد أحلامهم، وستصفع وجوههم، وستعيدهم إلى أوكارهم وثكناتهم.

فهذا شعبٌ لا يخضع ولا يغلب، وهذه قامةٌ لا تنحني ولا تكسر، وهذه مقاومة لا تهزم، ولا تسمح بصورة نصرٍ كاذبٍ، ولا تبقي علماً للعدو مهما كبر يرفرف، ولا تقبل بسواري خبيثة تنتصب فوق أرضنا الطاهرة الشريفة، إلا أن تحطم وتكسر، وكما باغتنا صباح يومٍ فإننا سنراه يجر أذيال الخيبة ذات مساء، وسيقبل مرغماً بما رفض، وسيخضع مجبراً لما عارض، وسيسوء وجهه وسنفرح، وسيذوق وبال أمره وسيحزن، وسيلملم أشياءه وسيرحل.

عجيبٌ ما تقوم به حكومة الكيان الصهيوني ورئيسها بنيامين نتنياهو، وغريبةٌ هي سياستها وتصريحات وزرائها، فهي إلى جانب أنها شاذة وعنصرية، ويمينية متطرفة، وتشي بالكراهية والعدوانية، وتنز بالسوء وتطفح بالشر، فهي تتحدى العالم مجتمعاً، وتقف في مواجهة الإرادة الدولية، وتتبجح في مواقفها وتتشدد في سياساتها، وتعلن معارضتها الرأي العام الدولي كله، ومخالفتها القوانين والأعراف، ورفضها للنظم والمواثيق، وانتهاكها الصارخ للاتفاقيات والمعاهدات، وكأن الأمر لا يعنيها، والعقاب لا يطالها، والسؤال لا يشملها، والقوانين لا تلزمها، والمخالفات لا تعيبها، فتراها تعيث فساداً كما تريد، وتدمر وتخرب كما تشاء، وتهدد وترغي وتزبد وكأنَّ أحداً لا يستطيع ردها، ولا يقوى على منعها، ولا يجرؤ على مخالفة أمرها.

يبدو العالم اليوم ولو ظاهرياً أو شكلياً وكأنه يعارض السياسات الإسرائيلية، ويرفض ما تقوم به الحكومة وجيشها ومستوطنوها، ويقف في وجه رئيسها، ويندد بسياسته ويستنكر تصريحاته، وكأن الدول الكبرى والغربية الأوروبية، التي اعتادت دعم الكيان الصهيوني وتأييده، ولم تتوقف يوماً عن حمايته والدفاع عنه، ولم تمتنع عن تقديم المساعدات والهبات له،

قد ضجت بالسياسة الإسرائيلية، ولم يعد لديها القدرة على تحملها أو الدفاع عنها، فقد باتت مكلفة لها وتهدد أمنها واستقرارها، وتعرض مصالحها للخطر وبلادها للتمزق والاختلاف، بعد أن باتت صور القتل والقصف والخراب والدمار التي يرتكبها جيش الكيان تنتشر في كل مكان، وتقتحم كل الأندية والصالونات، وتزاحم برامج الدول والحكومات، وتشير بوضوح إلى اشتراك الأنظمة الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في هذه الحرب وهذا العدوان.

فهذه المظاهرات باتت تجوب شوارع عواصم القرار الدولية، وغدت المسيرات الشعبية المعارضة نشاطاً يومياً ضد العدوان الإسرائيلي، واستنكاراً لتعاون الأنظمة والحكومات مع حكومة الكيان الصهيوني، وتعالت أصوات الطلاب في أكبر الجامعات الأمريكية وأشهرها، ومنها انتقلت إلى جامعات أسترالية وكندية وألمانية وفرنسية، ويبدو أن كرة اللهب الطلابية الاحتجاجية ستكبر مع الأيام، وستحذو حذوها مئات الجامعات العالمية، وستتضامن معها وربما تنسق جهودها وتنظم فعالياتها، وتتعاون فيما بينها لفرض تصوراتها، وإجبار حكومات بلادها على الإصغاء لها والاستجابة إلى طلباتها.

وفي الوقت نفسه لا تتوقف تصريحات قادة دول العالم وكبار مسؤوليه، بمن فيهم الرئيس الأمريكي جون بادين وأركان إدارته السياسية والعسكرية، وغيرهم من الرؤساء والوزراء في المنطقة والإقليم، التي يعلنون فيها وجوب وقف الحرب وإنهاء القتال، واستعادة الهدوء وعودة الأسرى والمعتقلين، وضرورة رفع الحصار وإدخال المؤن والمساعدات إلى الفلسطينيين المحاصرين والمتضررين بسبب عمليات جيش الاحتلال العدوانية، ويحذرون رئيس حكومة الكيان الصهيوني وقادة جيشه من مغبة اجتياح محافظة رفح، التي قد يترتب عليها مأساة إنسانية مهولة، قد لا يقوى الضمير العالمي على احتمالها وتجرع تداعياتها الآنية والمستقبلية.

إلا أن حكومة العدو لا تصغي السمع لأحد، ولا تستجيب لغير نداءات القتل والدمار، ولا تتردد في الرد على الانتقادات الدولية بالمزيد من الغارات والقصف، وبمضاعفة جرائمها ضد سكان غزة، وكأنها تتهكم بقادة العالم وتهزأ بهم، ولا تعيرهم اهتماماً ولا تأبه لانتقاداتهم، ولا تخاف من تهديداتهم، ولعلها تمارس ضدهم الترهيب والابتزاز، وتجبرهم على الخضوع لها والقبول بسياستها،

وتطلب منهم تفهم مخاوفها والقبول بإجراءاتها، وكأَنَّ لها كامل السلطة عليهم، فلا يقوون على معارضتها، ولا يجرؤون على إغضابها، ولا يستطيعون مخالفة سياساتها، وهي بذلك مطمئنة إلى أن الانتقادات الدولية لها ليست إلا مفرقعات صوتية، وفقاعات هوائية، لا قيمة لها ولا وزن، ولا نتيجة أو أثر، إلا امتصاص النقمة، وحرف الأنظار، وتحصين الكيان. اليوم أبلغت قيادة حركة المقاومة الإسلامية “حماس” الوسيطين المصري والقطري، موافقتها على المقترح الذي تقدما به، وأعلنت أنها ستلتزم بكافة بنود الاتفاق ما التزم العدو الإسرائيلي بها، وأنها ستتوقف عن القيام بأي عملياتٍ عسكريةٍ ضد قوات جيش الاحتلال المتواجدين داخل قطاع غزة خلال المهل الثلاث المحددة، على أن تنتهي المدة بانسحاب جيش الاحتلال وفتح المعابر ورفع الحصار، وعدم الاعتراض على عودة المواطنين الفلسطينيين إلى بيوتهم ومساكنهم في الشمال والجنوب، إلى جانب تحرير عددٍ من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، مقابل الإفراج المتدرج عن جنود العدو ومجنداته الأسرى لدى المقاومة.

فهل ستتمكن الإدارة الأمريكية وحلفاؤها من إلزام الحكومة الإسرائيلية باحترام الاتفاق وعدم خرقه، والالتزام بالتنفيذ الدقيق لجميع بنوده دون تلاعبٍ واحتيال، وهي التي كما تدعي قد سعت له وتوسطت من أجله، أم أنها ستصغي السمع لهم من جديد، وتوافقهم على الخرق والانتهاء، وستزودهم بالسلاح والعتاد، وستتفهم ادعاءاتهم وستقتنع بمبرراتهم، وستوافق على قرارهم في حال قرروا استئناف عملياتهم العدوانية ضد قطاع غزة وأهله، ويبدو أنهم قد نفذوا تهديداتهم وصفعوا الإدارة الأمريكية ورئيسها، ولطموه وغيره على وجهه، فهل يخضعون لها ويخنعون، أم أنهم سيغضبون عليها ويضغطون.

تدرك المقاومة الفلسطينية أن المعركة السياسية التي تخوضها ضد العدو الإسرائيلي وحلفائه على طاولة المفاوضات غير المباشرة في القاهرة والدوحة، هي أشد صعوبةً بكثيرٍ من المواجهة العسكرية التي تخوضها على الأرض وفي الميدان، فهي قد خبرت العدو في الحرب وعرفته، وجربته في القتال وعركته، وعرفت أنه لا يستطيع كسرها والقضاء عليها، ويعجز عن استئصالها والسيطرة عليها، وقد فشل مراراً في تحقيق أهدافه التي أعلن عنها، وعجز عن تحقيق أيٍ منها، رغم المجازر التي ارتكبها، والمذابح التي قام بها، والغارات التي نفذها، والأسلحة التي استخدمها، والطائرات الحديثة التي استعان بها، وبقي على مدى أكثر من مائتي يوم الحرب على بعد خطوةٍ واحدةٍ من أول الحرب وبداية العدوان.

ولعل المقاومة قد صمدت في وجه العدوان وأعيته، وأفشلت مخططاته وأحبطته، وبددت جهوده وأربكته، وكبدته خسائر وأوجعته، وأعلنت أنها قادرة على الصمود في وجهه لأشهرٍ أخرى قادمة، وقد أثبتت بالقوة والفعل، على الأرض وفي الميدان، أنها ما زالت تسيطر وتتحكم، وأنها تنظم وتنسق، وأنها قادرة على إعادة تنظيم صفوفها وترتيب أمورها، وترميم ما أصابها والنهوض من جديد بعد كل غارةٍ وجولة، وقد أطلقت من جديد صواريخها على الوسط ومستوطنات الغلاف، وقنصت جنود العدو ونالت منهم، وقصفت حشوداتهم وأصابت تجمعاتهم، واستهدفت مجمع نتساريم وبيت حانون، وكرم أبو سالم وغيرها من الأهداف العسكرية، التي ظن العدو أنه آمن فيها، وأن المقاومة عاجزة عن الوصول إليها وإصابتها.

أما على طاولة المفاوضات وخلال جلسات الحوار غير المباشرة، فإن المقاومة تدرك أن أطراف معسكر الأعداء يتحالفون مع الكيان الصهيوني، ويتآمرون معه عليها وعلى الشعب الفلسطيني وحقوقه، وأنهم جميعاً يتكالبون ضدهم ويتحدون في مواجهتهم، ويريدون أن يستفردوا بها على طاولة المفاوضات، وأن يأخذوا منها بالحيلة والخديعة ما عجزوا عن تحقيقه بقوة السلاح ووحشية العدوان، ويرون أنهم بالسياسة أقدر وبالحنكة أقوى، وأنهم يملكون ما يهددون به، وعندهم ما يخيفون المقاومة ويدفعونها إلى التراجع عن شروطها، والتنازل عن مواقفها، وإلا فإن الحرب ستستمر، والاحتلال سيبقى، ولن يتمكن الفلسطينيون من العودة إلى بيوتهم، وإعادة إعمار مناطقهم، وتحسين شروط عيشهم، وترميم ما أصاب مناطقهم ومنازلهم من خرابٍ ودمارٍ. إلا أن المقاومة المتمسكة بحقوقها والمصرة على شروطها، والثابتة على مواقفها، تدرك خطورة المعركة السياسية وخبث أطرافها، وتعلم يقيناً أنها مليئة بالفخاخ والشراك، وأنها وحدها في مواجهة الذئاب والثعالب، الذين يتربصون بها ويحاولون خداعها، ويتآمرون عليها ويريدون الفتك بها، وأنهم جميعاً يريدون كسرها وهزيمتها، ونزع أسلحتها وتقليم أظافرها، والقضاء على كل مظاهر قوتها، ويطمعون في إقصائها واجتثاثها من جذورها، والحيلولة دون عودتها إلى السلطة، أو التقاط أنفاسها والعودة إلى بناء قوتها وإعادة تنظيم صفوفها، والسيطرة على مقاليد الحكم في قطاع غزة.

وعليه فإنها لن تقبل على طاولة المفاوضات، مهما بلغت ضغوطات الوسطاء وتهديدات الوكلاء، وجعجة العدو وهرطقة قادته وجنرالاته، بغير إعلان إنهاء الحرب رسمياً، ووقف العدوان قولاً وفعلاً، وانسحاب جيش العدو من كل القطاع وتفكيك تجمعاته وإعادة وحداته، ولن توقع على اتفاقٍ مع العدو يرجئ القتل ويؤخر العدوان، ويتهيأ به بعد أيامٍ مهما طالت لمواصلة الحرب واستئناف القتال، فعهد المقاومة به أن يكذب ويخدع، ويناور ويحتال، ولولا أنه في مأزقٍ يعجر عن الخروج منه، وأنه وصل إلى طريقٍ مسدود لا منفذ فيه، ما لجأ إلى المفاوضات ووكل بشروطه الوكلاء.

 

 

.

 

 

 

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك