السبت - الموافق 27 يوليو 2024م

غُربةُ الأدَب العَربي :: بقلم أحمد العش

لم يَعزُب عن ذهني قيدُ أُنملة أنها سُنونٌ خَدّاعَات ، رُفع فيها التُحوت إلى مصاف التوقير والتفخيم وقلادة الأوسمة، ووضع فيها الوُعول موضع البضائع المُزجّاة الكّاسدة …
سُنونٌ عفّت فيها ديار العرب من خصائصها الإرثية المكنونة خاوية على عروشها، وانزوت مكامن الإبداع ونكِصَت على أعقابها، وبأفول نجم اللغة عن فلك إشعاعها، ذهبت الفضائل كلها، وكان محيقُ رحيقِ الأدبِ وفناءِ أهله أمّرُ الآفلين…
أنعتُ الأدبَ العَربي بالنَعي ، لرؤيتي إياه ضميرُ اللغَة الحَي، فإن أُصيبت اللغة في أي من أحشائها بنبال الركّاكة، فاعلم أن واحة الأدب قد اغتالتها الفَاقّه….
والأدبُ العَربي المَرثي هو ذلكم النثر المحبوك بأسقف المفردات العربية بأوانيها الزخرفية، والجدار المسبوك بمباني التركيبات اللفظية بلبنة من ذهب وأخرى من فضة…
والأدب العربي في زمنه المطوي ، لا ينتطح في فرادته عنزان، ولا يتمّارى في عبقريته خصمّان، كأنه مُنطلقٌ أحاديٌ للاصطلاح والتصالح مع سائر المِللِ والنِحلِ، فيأخذ بمجامع القُلوب كُتاباً من مهن متعددة، وقراءً أرتالاً على جميع الأصعدة، فيتفَيأُ منه ظلال الأدب الإسلامي، ليأسرَ فريقاً، ويتعملق منه تلال الأدب الروائي، فيطربَ طيفاً، وتنضح منه القصة القصيرة فتُخلب لبَادات وزُرافات، وتُنسج منه الخطب والمأثورات ، فتشرّءب لها الرقاب في الندوات والمؤتمرات….
ذلكم الأدب العربي رقيق الديباجة بديع العبارة، الذي لمّا اهتدى واقتفى بأثر القرآن ، علا بتناص نثره وبتراتب سجعه على ما سواه من فروع العلم بقوة سحر البيان.. ..
وعلى حين غرة عزُبَ مجد الأدب العربي على إجماله، وصار مآله اليوم ضغثاً على إباله .. بعد أن كان أنموذجاً فريداً، له قصب السبق والقدح المُعلى، في قيادة زمام الأدب العالمي، عبر بُرهة فسيحة من الزمن ، يُصوب نواصيه الشّاردة، ويُبوب حواشيه المُتلعثمة، بإيعاز العض على صَك الآليات، ولئن تضادت بينهما اللغات، فظلت نمطية الأدب العربي أمثولة، تناهت فيها صهوته وسطوته، قوته ومنعته، سنا برقه وصفا بريقه، ويكفي مصر بين معشر العرب والعجم، أنها أم العقاد والرافعي والمنفلوطي ، وكلهم في بوتقة واحدة بمقاييس الأدب الحق أمة وحدهم ، موطأة الأكناف لن تُمحى أعمالهم ريب المنون…
أمةٌ وحدهم على قدر ما استماتت أقلامهم تحرص على تبجيل اللغة، وعدم التفريط في جناب كلماتها المقدسة، فلما تهندموا بغيض من فيض جوامع كلماتها، خرجت منتجاتهم في أثواب قشيبة، تزينت بها منابر المدارس والجامعات ، وتوهجت بها دور النشر والمكتبات، واكتُرث بها في المراجع العلمية وعُولَ عليها في الرسائل البحثية ..
لقد اختلّ ميزان الأدب العربي ، فضلاً عن المصري، وتقزم دوره من صاحب ريادة ورسالة، إلى صاخب شهرة ودعاية..
وأكثر ما أصاب هذا الكيان الممشوق بالتبلد والتقزم، مجافاة اللغة التي هي مُخ الأدب وفلذة كبده، وقلبه الضخّاخ، فوسدّ أمره إلى أناس يهرفون بما لا يعرفون، ليدنسوا ثياب الأدب برجس سطحيتهم اللغوية، وفقرهم المُدقع بنواصيها وشعابها وأسوارها العتيقة….
الأدب في جنسه وصفاته، إسهابه وإطنابه، هو حجر الزاوية في بناء أي أمة تبتغي لذاتيتها رفعة حضارية دائبة وومضة ثقافية واظبة….
فكما وسمه العقاد يوماً بالابتكار المخلوق، حبذا ما وصفه به العقاد إنه بحق الابتكار المخلوق والمنطوق ، الذي لا يخضع لواسطة كي تُحبر مبانيه ومغازيه، أو تُغبر معانيه ومراميه، فهو عنوان السليقة الظاهرة والمستترة، إنه الأدب ، الذي يُعزى إليه الفضل في كيت وكيت، ولولا الأدب وأهله وأشياعه، ما استقامت للأمم ألسنة، وحسبك من عطر أقلامهم المسطورة على القرطاس ، وكفى بالقلم على القرطاس شهيدان لكل أديب أريب حاذق سامق…
ومافتيء الأدب العربي يَستَقبح غربته في داره وقراره، بعد أن حلت به ثالثة الأثافي بضراوة..
فالفتك به وبتقويض أركانه، وتقزيم رموزه باستحثاث أمجاده، جعله في درك سفلي يُنظر إليه بامتعاض واعتباط، لعدم لياقته ومضارعته أعاظم المجتمع ، أطباء ومهندسون ومحاميون وشرطيون وممثلون ورياضيون وراقصون….
وإنّ من عظمة الأدب الغائبة الحاضرة، أن يولد في كل بلد عربي أديباً كل مائة عام، قياساً بمولد عشرات الآلاف سنوياً من الأطباء والمهندسين والمدرسين والمحاميين والشرطيين والعسكريين والرياضيين والممثلين إلخ…..
قد يغني الأديب ويشفي داء أمة اعترتها آفات التلعثم وركاكة المضمون، نيابة عن مئات الأدباء، وقد لا يغني آلاف أصحاب المهن الأخرى إذا حل بامريء واحد داءً عضالاً في إحدى نواحيه….

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك