ونكمل الجزء الرابع مع حق الجار، وقد توقفنا عند منع الجار ما يحتاج إليه عادة، وذلك أن فى منعها دليل لؤم الطبيعة، ودناءة النفس، وكذلك قلة الاهتمام بإعادة المعار من الجيران إليهم، فمن الناس من يستعير بعض ما يحتاج إليه من جيرانه، ولكنه لا يأبه بإعادة ذلك المستعار، وربما كان الجيران يحتاجون إلى ما أعاروه، وأيضا قلة المبالاة بدعوة الجار إلى الولائم والمناسبات، إما نسيانا، أو تهاونا، أو نحو ذلك، وهذا الأمر لا يحسن، فهو مما يوغر الصدر، ويورث لدى الجار الشكوك في جاره، فقد يظن أنه محتقر له، غير مبال به، فحري بالجار أن يحرص على دعوة جيرانه، خصوصا في المناسبات العامة، خاصة وأن الجار يرى المدعوين يتوافدون إلى بيت جاره، وكذلك ترك الإجابة لدعوة الجار، فمن الناس من يدعوه جاره، ويستضيفه مرارا، ولكنه لا يجيب الدعوة، بل يكثر من الاعتذارات، ويحتج بكثرة المشاغل والارتباطات، وقد يكون صادقا فيما يقول، ولكن ذلك لا يعفيه من إجابة الجار في بعض الأحيان، وإلا فلا أقل من التلطف في الاعتذار حتى يقبل الجار، وكذلك قلة التناصح بين الجيران، فعن أبي رقية تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ” الدين النصيحة ثلاثا” قلنا لمن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم “لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم” فالنصيحة واجبة لعموم المسلمين، وهي في حق الجار أوجب وآكد، ومع ذلك قلَ من يحرص عليها ويسديها لجيرانه، مع أنه يوجد من بين الجيران من لا يشهد صلاة الجماعة، وقد يوجد فيهم من يتعاطى المسكرات.
وقد يوجد من يدخل آلات الفساد في بيته، وقد يوجد بينهم من يعق والديه، أو يقطع أرحامه، أو يؤذي جيرانه بأنواع من الأذى، وقد يوجد من بينهم من هو مُتلبس بكثير من المخالفات الشرعية، ومع ذلك يندر أن تجد من يُعنى بالنصيحة، ويقدرها قدرها، فيقوم بمناصحة جيرانه بالأسلوب الحكيم المناسب، ومن هنا تتزايد الشرور، وتترسخ، وتستمرا، فواجب على الجيران أن يتناصحوا فيما بينهم، وأن يكمل بعضهم بعضا، حتى تشيع فيهم المحبة، وترفع عنهم العقوبة، وكذلك من الظواهر المحزنه هو قلة التعاون على البر والتقوى، وهذا الأمر قريب مما قبله، فكثير من الناس لا يتعاون مع جيرانه على البر والتقوى، فلا يأبه بانحراف أبناء الجيران، ولا بشيوع المنكرات في الحي، ومن التعاون المطلوب تعاونهم واهتمامهم بحلق القرآن الكريم في المساجد، وتسهيل مهام القائمين عليها، وبذل ما يستطاع في سبيل الرقي بها، وكذلك كثرة الخصومة والملاحاة بين الجيران، فمن الناس من هو كثير الخصومة والملاحاة مع جيرانه، فتراه يتشاجر معهم عند كل صغيرة وكبيرة، وربما وصل الأمر إلى الاشتباك بالأيدي، وربما تطور الأمر، فوصل إلى الشرطه والمحاكم، ولكن خير من ذلك أن تأخذ الناس كما هم، فتسمو بنفسك، وتترفع عن السفاسف، وتكون واسع النفس عميقها، تتقبل شرور الناس وأعمالهم الصغيرة بصدر رحب ونفس مطمئنة، وقال طرفة بن العبد يمدح قومه” فضل أحلامهم عن جارهم، رحب الأذرع بالخير أمر” وأيضا من المظاهر المحزنه هو التهاجر والتقاطع بين الجيران عند أدنى سبب.
فهناك من الجيران من يتخاصم مع جيرانه، ولكنه يُبقي على حبال المودة، فلا يصرمها البتة، ولكن هناك من إذا خاصم جارا أو أحدا من الناس، فجر في الخصومة، فظلم، وتعدى، وهجر صاحبه، وقاطعه حتى بعد أن تنتهي الخصومة، بل ربما تربص به، وألب الجيران عليه، وأيضا من المظاهر المحزنه هو قلة الحرص على إصلاح ذات بين الجيران، فكثيرا ما تفسد ذات البين بين الجيران، إما بسبب خصومة كما مر، أو بسبب تافه حقير، وربما قامت سوق العداوة بين الجيران بدون سبب ظاهر، ومع ذلك قلّ من يحرص على الإصلاح، ورأْب الصدع، وجمع الكلمة، بل قد يوجد من حمّالة الحطب من يغري العداوة، ويذكي أوارها، فهذا الصنيع لا يجوز، بل اللائق بالجيران أن يهبوا لإصلاح ذات البين إذا فسدت بين بعضهم، ويعظم هذا الواجب في حق من له جاه ومكانة، وأيضا من المظاهر المحزنه هو ترك الإحسان للجار غير المسلم، فقد قال الله تعالى كما جاء فى سورة الممتحنة ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” وهذا ما فهمه الصحابي الجليل عبدالله بن عمرو بن العاص، حيث ذبح شاة فقال هل أهديتم منها لجارنا اليهودي؟ ثلاث مرات، ثم قال رضى الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول” ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورثه” وأيضا من المظاهر المحزنه هو قلة الوفاء للجار بعد الرحيل، فمن الناس من ينسى جيرانه بعد أن يرحل عنهم، أو بعد أن يرحلوا عنه.
والمروءة تقضي بأن تكون وفيّا لجارك، فمن الوفاء له ألا تنساه بعد رحيله عنك، أو رحيلك عنه، وأن تتواصل معه بالزيارة، والهدية، أو المهاتفة، أو نحو ذلك مما يبقي على حبال المودة، ومن الوفاء له ذكره بالخير، والثناء عليه بعد انقضاء مدة الجوار، خصوصا إذا كان من المحسنين، واعلموا أن خير الكلام كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأن كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم اعملوا بتقوى الله تعالى وهو بفعل أوامره واجتناب زواجره سامعين مطيعين لقوله في محكم التنزيل كما جاء فى سورة آل عمران ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون” واعلموا أن الأيام والليالي عِبر تتوالى لتربي الإنسان على الرشد، وتلقنه دروس الحكمة والنضج، ومن عبر الزمان ودروسه النافعة أن أصدقاء الإنسان أيام نعمته وأيام صحته وغناه وجاهه وقوته كثير، وأن أصدقاء محنته قليل، وأن الإنسان مهما علت منزلته في الدنيا بالجاه أو المال أو القوة محتاج إلى غيره، ولا يمكن أن يستغني بنفسه عن حاجته للآخرين، فالقريب محتاج إلى قريبه، والزميل إلى زميله، والصديق إلى صديقه، والجار إلى جاره، وإن حصل التفاوت بين هؤلاء في أعراض الدنيا وأسباب القوة فيها، وأن هذه الحياة ميدان فسيح، تربط بين ساكنيه أواصر وروابط، وصلات ووشائج، فهناك رابطة القرابة، ورابطة النسب والمصاهرة، وهناك رابطة الصداقة والزمالة، وهناك رابطة الجوار، وغيرها من الوشائج والعلائق.
وعلى هذه الروابط تقوم الأمم وبها تتكون الممالك والدول، ومتى ما قامت هذه الروابط على أساس من الدين، استمر بقاؤها وزاد نماؤها، وصارت تلك الأمة التي شيد بنيانها عليها منيعة الجانب، عزيزة المكانة، مهيبة القدر، وإن من بين تلك الروابط التي دعا الإسلام إلى الاعتناء بها، والوفاء بحقها هى رابطةَ الجوار، فقد اهتم الإسلام بها أيما اهتمام، وأولاها آدابا وحقوقا تضمن لها الديمومة والبقاء، وجعل الله تعالى حق الجوار من الحقوق العشرة التي أمر بالإحسان فيها، ومما يدل على اعتناء الإسلام بهذه الرابطة هو أن جبريل عليه السلام كان كثير الوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه” ولقد كانت هذه الرابطة مفخرة إنسانية عربية قبل أن تكون مفخرة إسلامية لأنها تنبع من التمسك بالأخلاق الكريمة التي كانت موجودة بين الناس في ذلك الوقت، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم” إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق” ولهذا كلما تلاشت الأخلاق الحسنة والقيم الحميدة في أي مجتمع ذهب أداء حق الجوار كما ينبغى، وإن المتأمل بيننا في عصرنا المتحضر يجد ذوبان هذه الرابطة يوما بعد يوم، خصوصا في المجتمعات المدنية والأحياء الراقية، حيث صار الجار لا يعرف من يسكن بجواره، ولا يدري عن أحواله، وقد يجاور جاره سنين طويلة ثم يموت، وجاره القريب منه لا يعلم، ولا شك أن الأوضاع القروية أحسن بكثير مما عليه الحواضر والمدن، ولقد كان العربي في الجاهلية يفتخر بإحسانه إلى جاره.
ويعتز بثناء جاره عليه، خصوصا إذا كان الجار ضعيفا، فيصير بهذه الرابطة قويا بعد الضعف، وعزيزا بعد الذلة، وغنيا بعد القلة، وكانوا يتمدحون بكف الأذى عن الجار، فإن من حقوق الجار هو إلقاء السلام ورده، لما في ذلك من ربط القلوب بعضها ببعض، وهو عمل صالح رفيع، وأبخل الناس من بخل بالسلام، ومن الأمور الحسنة هو السلام على أولاد الجيران، وتدريبهم على آداب الشريعة، ومن حق الجار على جاره أن يزوره إذا مرض ويسأل عن صحته، ويدعو له ويأمره بالصبر، ويستحب تخفيف الزيارة، لئلا يشق ذلك على المريض، وإذا مات الجار فإن له حقا على جيرانه، وهو أن يتبعوا جنازته، وأن ينظموا الأمر لإعداد الطعام لأهل الميت، لأنهم مشغولون بميتهم، ومن حق الجار على جاره أن يجيب دعوته إلى الوليمة إن دعاه، زيادة للمودة وصلات الصفاء، ومما يجدر بالمسلم أن يكون ستارا لعيوب جاره، وذلك ليستره الله في حياته الدنيا ويوم العرض الأكبر، ومن حقوق الجار على جاره، هو عدم التطاول عليه بالبنيان، وعدم إيذائه بالأصوات المرتفعة، وقد أوصت السنة النبوية بالإحسان إلى الجار، حتى لو كان غير مسلم، ما دام فردا يعيش في المجتمع الإسلامي، فالإسلام يريد للمجتمع أن يشمله التكافل ويعمه التراحم، فعن مجاهد قال كنت عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وغلام يسلخ له شاة، فقال يا غلام، إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مرارا، فقال له كم تقول هذا ؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم “لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه” رواه أبو داود والترمذى.
وإن أقرب الجيران بابا أحقهم بالإحسان، فعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت، قلت يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال “إلى أقربهما منك بابا” رواه البخاري، وكان محمد بن الجهم جارا لسعيد بن العاص، وقد عاش سنوات ينعم بجواره، فلما عرض محمد بن الجهم داره للبيع بخمسين ألف درهم، وحضر الشهود ليشهدوا، قال بكم تشترون مني جوار سعيد بن العاص؟ قالوا إن الجوار لا يباع، وما جئنا إلا لنشتري الدار، فقال وكيف لا يباع جوار من إذا سألته أعطاك، وإن سكت عنه بادرك بالسؤال، وإن أسأت إليه أحسن إليك، وإن هجته عطف عليك ؟ فبلغ ذلك الكلام جاره سعيد بن العاص فبعث إليه بمائة ألف درهم، وقال له “أمسك عليك دارك” وهذه هي الأخلاق الإسلامية التي ربى عليها الإسلام أبناءه، فكانوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، يحمل غنيهم فقيرهم، ويعين قويهم ضعيفهم،لا شحناء ولا أحقاد، ربط الود بين مشاعرهم، وجمع الإيمان بين أفئدهم، وما أجمل أن يأخذ المسلمون أنفسهم بهذه المبدأ الكريم، وإن من الأذى هو التعدي على أرض الجار وحدود بيته والسطو على ممتلكاته، وهذه صورة مشاهدة عند بعض الجيران أورثت أحقادا ومشكلات وصلت إلى آثار خطيرة، ولو تأمل الجار المتعدي وكان عنده إيمان في عقوبة ذلك لانكف عن هذا الأذى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم” من اقتطع شبراً من الأرض ظلما طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين” ومن الأذى أيضا هو وضع القاذورات في طريقه ومضايقته فيها، وتسليط الزوجة أو الأولاد لإيذائه أو إيذاء أهل بيته.
التعليقات