المعلومات أصبحت من اهتمامات الإنسان وأصبح تداولها على أوسع نطاق بين الأفراد والمؤسسات والدول. ظهر ما أطلق عليه ثورة المعلومات وأنشئت مراكز المعلومات لكن المعلومات، وحدها لا تكفي، المهم هو وصول هذه المعلومات للفرد وإيضاحها وفهمها، ذلك الفهم هو الذى يؤدى إلى المعرفة ويجعلها جزءا من تفكيره وتساهم فى اتخاذ قراراته. المعلومات يتشربها الإنسان يقبلها أو يرفضها، يحاورها فى عقله أو مع الآخرين، باختصار تظل جامدة إلى أن يتعامل معها العقل، والعقل وظيفته الفكر والتفكير.
مصادر المعلومات متعددة منها ما يقرأه فى الكتب والصحف والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي (الصحيح منها والكاذب) ومختلف وسائل الاتصال يتأثر بكل ما حوله من كلمات وأفعال وأقوال وأحداث وحوادث. هذه المعلومات تصل إليه إما بإرادته عندما يبحث عنها أو تفرض عليه بطريقة أو أخري. المهم هنا أن يفهمها يستوعبها يدرك مدى صدقها. المعلومة لا تصبح مفيدة إلا إذا عرفها الإنسان والعلاقة وثيقة بين المعلومات والمعرفة.
هناك رأى بأن المعلومات أوسع وأكثر شمولا فكل شيء نراه نسمعه أو نقرأه يتضمن معلومة ما، وهناك رأى آخر أن المعرفة هي الأكثر شمولا فهي لا نهاية لها ودونها ليس للمعلومات قيمة، على أى حال وبغض النظر على هذا الجدل فإنه جدل نظري أكاديمي من الناحية العملية هما يتكاملان، والمعلومة تؤدى إلى المعرفة والاثنتان في نفس الأهمية ويأتي الفكر على مستوى كليهما.
بداية ينبغي الانتباه الي الخطأ الشائع من ان هناك عقل واعي و عقل لا واعي و الحقيقة هي أن للإنسان عقل واحد و أن الوعي و اللاوعي ما هما إلا مستويان من مستويات التفكير.
فلعقل الأنسان ثلاثة مستويات للتفكير: الوعي و اللاوعي و التفكير العالي. و من رحمة الله بعباده وجود هذه المستويات المختلفة للعقل البشري و إلا لتطلب الأمر أن كل نشاط في جسم الأنسان و كل حركة صغيرة و كبيرة فيه لا بد أن تتم بوعي كامل و لتعطلت حياة الإنسان بسبب عدم التمكن من الوعي بكل هذا الكم الهائل من النشاط في هذا الجسم الغريب العجيب ،فمثلا لو كان الأمر
كذلك عند تناول الإنسان شربة ماء بسيطة سيتوقف وعيه بكل ما حوله لان وعيه سيتجه كلية للأشراف على عملية الشرب .و تمرير الماء من جزء الي الذي يليه و ما هي ردة فعل كل جزء عند استقبال الماء و ….و لكن رحمة الله اقتضت ان يتم كل ذلك في اللاوعي.
فالوعي و الذي لا يخفى على احد يتعامل مع المعلومات الواردة اليه من محيطه بطريقة منطقية و تحليلية قبل إقرارها و القبول بها . هذه المعلومات بعد إقرارها تستقر في اللاوعي كخبرات على شكل مؤثرات و استجابات أي أنه عند وجود مؤثر خارجي تكون له استجابة محددة في اللاوعي تنطلق مباشرة دون أن ننتبه لها أبدا و على هذا فكل عاداتنا في الحياة ما هي إلا استجابات لمؤثرات فاذا وجد المؤثر أو المحفز انطلقت الاستجابة المقابلة له تلقائيا دون وعي منا .
هذه الاستجابات يمكن تغييرها للتخلص من العادات السيئة مثلا عن طريق إدخال استجابات مغايرة لنفس المؤثر عن طريق الوعي طبعا أي اذا توفر مؤثر لاستجابة سلبية نجاهد في وعينا على إظهار استجابة إيجابية غير ما هو مخزن في اللاوعي و نكرر ذلك حتى تترسخ الاستجابة الجديدة و هناك تمارين للقيام بذلك كالاسترخاء .
فعادات الإنسان ما هي إلا استجابات لمؤثرات نخزن هذه الاستجابات في اللاوعي كخبرات مندو مراحل مبكرة من طفولتنا بفعل محيطنا و ان كانت استجابات سلبية ليس لنا ذنب في اكتسابها ( كل مولود يولد على الفطرة و أبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) أو كما جاء في الحديث إذاً يمكن تغذية اللاوعي عن طريق الوعي .
المستوى الثالث و هو التفكير العالي و يتغذى عن طريق محتوى اللاوعي و هو الذي يتفاعل مع الأحداث من حولنا و مع مجريات القدر فيجذب للإنسان أحداث الخير أو الشر تبعا لظنوننا و عقائدنا في اللاوعي)أنا عند ظن عبدي بي فليظن ظان ما شاء) كما في الحديث القدسي و لمن أراد الاستزادة في هذه الجزئية فليتوسع في قانون الجذب
وقد جاء القانون لينظم ويحكم ويحاسب على أساس المرحلة الأخيرة، فلا عقاب على الأحاسيس والشعور ولا يجوز أن يكون هناك عقاب على الفكر. العقاب على مجرد الفكر انتهاك لحق من حقوق الإنسان. العقاب لا يجوز إلا على الفعل فهو الذى يخرج من الإنسان لينال من غيره ويصيب غيره خيرا أو شرا فيستحق العقاب أو الثواب…
والمحاسبة لا تكون على القول إلا إذا ألحق ضرراً بالغير. والمجتمع يتحدد شكله ومصيره حسب حركة الفكر، فهو الذى قد يدعو إلى أفضل الأفعال أو أسوئها، والمشاعر تتلمس التوجيه الصحيح من الفكر المتوازن، لذلك فإن الارتقاء والتقدم يكمنان في معرفة كيف يكون الفكر وسيلة لتهذيب وتطوير هذه المشاعر والقيم والارتقاء بها.
المعرفة عملية تأتى للإنسان عادة من خارجه، مما حوله، ومن حوله، ومن وسائل الاتصال والمعلومات وهى عديدة. أما الفكر فهو نابع، عملية تأتى للإنسان من داخله عندما تصبح المعرفة جزءا من بنية الإنسان وشخصيته.. تحدد أفعاله وتصبح عملية التفكير هى التي تملى الخطاب وتحدد العقل.
من هنا يجتهد الطرح الحالي في الإشارة إلى معنى تجديد العقل، وأدوات تجديده، والمخرجات المتوقعة لهذا التجديد.
أولا- معنى تجديد العقل
يمكن الإشارة إلى العقل باعتباره مجموعة الإدراكات القائمة على (والناجمة عن) المعرفة، والتفكير، والقدرة على التخيل والتمييز والتذكر والتنبؤ واتخاذ القرارات. وعليه، يكون التجديد العقلي، عند الأفراد والمجتمعات، هو الأساس في التجديد في كافة أوجه الحياة، وبدونه تظل جهود التجديد، في أي مجال، جامدة وقاصرة. ومع الزمن يبدو الماضي أكثر تقدما من الحاضر.
ثانيا- أدوات تجديد العقل
بالإضافة لكون التجديد العقلي أساس لكافة أنواع التجديد، فإن أهميته ترجع أيضا لبساطته، ووضوح جوهره، وشفافية أدواته، والتي يأتي على رأسها ما يلى:
1- المنهج العلمي في التفكير.
إنه الأساس في أي تناول لفهم الإشكاليات، ولاكتشاف وحل المشكلات، وقد عُرف باعتباره ثمرة التقدم الإنساني العالمي، حيث لا أحد يحتكره أو يتحصل على إتاوة من استخدامه.
من الجواهر العظيمة في هذا المنهج أنه يدعم القدرة على امتلاك جدلية تفكيك (وتحليل) المشكلات إلى أسباب وعوامل، ثم إعادة التعامل معها بالتركيب (والإبداع)، مما يجعله محور البناء السليم لأى رؤية، أو تغيير، أو تجديد.
ذلك يدفع إلى التساؤل بشأن مدى الالتزام بالمنهج العلمي في التفكير عند متخذي القرارات في الحكومة والبرلمان والمؤسسات… إلخ، فضلا عن عموم المواطنين.
2- البنية المعمارية للتجديد العقلي.
تكمن هذه البنية فى المنظومية، وفى متطلباتها ومخرجاتها. وعن المنظومة فهى تعنى مجموعة من الأجزاء التى لها فيما بينها روابط، بحيث تبدو هذه الأجزاء كوحدة واحدة، وذلك بفعل تنظيم لعلاقاتها ببعضها. وأما عن متطلبات المنظومية فهى تتعلق بخصائصها ووظائفها، والتى تُمَكّن من مجابهة التحديات واستشراف المستقبليات (ولمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى “التقدم الأسى – إدارة العبور من التخلف الى التقدم”، المكتبة الأكاديمية – القاهرة).
هنا تدعو الحاجة للانتباه الى أن “الحرية” متطلب رئيسى للمنظومية، حيث فى غيابها تتحول المنظومية- بالتدريج- إلى الاتباعية للتوجه السلطوى. وفى المقابل تقود الحرية، فى غياب المنظومية الصحيحة، إلى الفوضى والعشوءة والتخلف.
وعليه، تنشأ ماكينة التجديد من التآلفية بين “المنظومية” و”الحرية”. عندها تصل المنظومة إلى حالة “التنوع” في الرؤى والخبرات والإمكانات، مما يقود إلى “التجديد” والإبداع.
3- المعرفة العلمية “الجماعية” كأساس للتوصل الى القرارات الكبرى (أو المصيرية).
لأن هذه المعرفة تكون أقرب ما يمكن إلى الموضوعية (والنزاهة) فإن التوصل فى غيابها إلى قرارات كبرى، أو مصيرية، يقود إلى نتائج لا تُحمد عقباها. ذلك أن هذه المعرفة تحمى المنظومة (بجميع مكوناتها) من الإخفاق، والذى لا يمكن أن يتحمله (أو يعوضه) المتسبب فيه، صاحب الرأى الأوحد.
بمعنى أوضح، فى غياب المعرفة العلمية “الجماعية” يحدث تجاهل لما يمكن وصفه بالرؤى الذهبية عند الآخرين، فضلا عن التقزيم للإمكانات والفرص، مما يؤدى إلى إزمانية التخلف.
ثالثا- مخرجات تجديد العقل
تتمركز أهم المخرجات فيما يلى:
– التشارك المجتمعى فى التجديد المنظم للمعايير، والوسائل، والطرق، مما يعنى عقلنتها. وبالتالى، تجديد الوعى، وتطوير شكل الزمن، الأمر الذى نحس بأهميته عندما نتحسر على أوضاع قديمة كانت هى الأحسن مقارنة بالحاضر، كعموم أوضاع التعليم، والثقافة، والفن، والإنتاج، والمظهر المجتمعى العام. – تقليص التطرفات الأيديولوجية. عندها، كمثال، يتحول تقييم الزعماء السابقين، مثل “ناصر”، من القبول الكلى، أو الرفض التام، إلى استكشاف الدروس للانتفاع بها فى الزمن القادم.
– زيادة مساحة “النافذة المجتمعية Societal window” السامحة بالنقد والتباين فى الرؤى، مما يعمق التشاركية ويُعظّم الاستفادة من التنوع.
– تجديد للحركيات الذهنية، الفردية والمؤسساتية. ومن ثم، التجديد العقلي لمكوناتها من القمة إلى القاع، والعكس.
– قفزات في الأداءات وتحمل المسؤوليات، على كافة المستويات.
وهكذا، تتطور مسارات مصر بتجدد عقول أبنائها ومؤسساتها، وبتعميق الوعى المجتمعي وتعظيم جساراته.
طبقا لهكذا مخرجات، ينقلنا التجديد العقلى إلى زمن أكثر منهجية (وجدية) فى رصد الإشكاليات والمشكلات وفى التعامل معها.
عندها لن يكون التجديد الدينى مناسبة للاستقطاب، وستتضاءل الحاجة لتغليظ القانون، كما سترتفع كفاءة الممارسات الخاصة ببناء مصر، بحيث ستختفى الحاجة إلى الأجنبي كقاطرة لمواجهة المشكلات.
والآن يبدأ التساؤل: كيف؟
نظن أن نقطة البدء فى التحول إلى التجديد العقلى تتجسد فى صناعة مسارين متوازيين. فى المسار الأول تنشأ فعاليات مفتوحة وموثقة تجمع بين القيادات التنفيذية فى الوزارات الأقرب فى مهامها لعمليات دعم التفكير (مثل وزارات التعليم والثقافة والإعلام) مع القيادات الشعبية المقابلة لها فى الجمعيات الأهلية والأحزاب.
وأما المسار الثانى (الموازى) فيختص بالتحولات، فى الرؤى والتطبيقات، داخل كافة مستويات العمل فى الدولة.
فى المسارين، وتحت مظلة الدولة ككل، يقع على رئيس الحكومة عبء القيام بدور “المايسترو”، فى التنسيق والتكاملية والمخرجات، بشأن مختلف الجهود والخبرات والطموحات.
وبالطبع، مع تواصل غياب التجديد العقلى لا يكون فى الرجوع إلى الخلف أية مفاجأة، حيث ينشأ- بالتدريج- تحول إلى “العبودية لعقول الآخرين”.
—
التعليقات