تنصيب الرئيس الأمريكي بايدن في يناير 2021، والتقارير الأخيرة التي تتحدث عن تحركات سعودية سعياً لوقف إطلاق النار، واتفاق تبادل الأسرى، واحراز بعض التقدم في ما يتعلق بالسماح للأمم المتحدة بالوصول إلى ناقلة النفط المنكوبة صافر، كل هذا يشير إلى أن الوقت أصبح مناسباً للدفع مجدداً لإنهاء الحرب في اليمن قبل أن تدخل عامها السابع في 26 مارس 2021. الخسائر والأضرار البشرية في هذه الحرب واضحة بشكل صارخ: وفاة أكثر من 230 ألف إنسان إما نتيجة للاقتتال، أو من تأثير الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية المادية والاجتماعية والصحية، نزوح الملايين و80% من اليمنيين يعانون الآن من انعدام الأمن الغذائي. وكالات الأمم المتحدة عادة ما تشير إلى هذه الأزمة باعتبارها أسوأ أزمة إنسانية في العالم، وتؤكد على وشك حدوث أسوأ مجاعة يشهدها العالم منذ عقود. لهذا فالسلام أصبح ضرورة ملحة.
عمل مبعوث الأمم المتحدة مارتن غريفيث وفريقه باجتهاد وصبر مع جميع المتحاربين، ومع مجموعة واسعة من القوى السياسية والمجتمع المدني لإيجاد خارطة طريق للسلام؛ لكنهم أصيبوا بالإحباط بسبب عدم رغبة القادة السياسيين اليمنيين، والإقليميين الداعمين، لتنفيذ حتى الاتفاقيات المحدودة، مثل اتفاقيات ستوكهولم المبرمة في ديسمبر 2018 والخاصة بالنفاذ إلى ميناء الحديدة. تفاقمت الصعوبات أكثر بسبب انقسام اليمن إلى كيانات سياسية محلية غالباً ما تكون مدعومة من اقتصاديات الحرب، وهو الأمر الذي تنشأ عنه مصالح كبيرة من استمرار الصراع، ويهدد بإفشال أي اتفاق سلام محتمل. هذا بالإضافة إلى أن المواقف من الحرب والسلام أصبحت ملوثة بالخطاب الطائفي المتزايد، وبالأحقاد التي تثيرها جميع الحروب.
خلال العامين الماضيين مال ميزان القوة العسكرية نحو الحوثيين، الذين لم يعد من الممكن هزيمتهم في ساحة المعركة، والذين يسيطرون على جزء كبير من الجمهورية العربية اليمنية سابقاً. ومع ذلك فهم يتعرضون لضغوط اقتصادية شديدة يمكن أن تقوض سيطرتهم على المدى المتوسط. صحيح أنه يتم قمع أي معارضة لهم بلا رحمة لكن يبدو أن هذه المعارضة تتزايد. يحتاج الحوثيون إلى اتفاق لكنهم يعتقدون أنهم مازالوا أقوياء بما يكفي للمطالبة بتنازلات وفرض شروط قبل أي محادثات.
لقد ضعف الموقف العسكري لحكومة الرئيس هادي المعترف بها دولياً وحلفائها. مدى هذا الضعف قد يعتمد أيضاً على نتيجة معركة كبرى للسيطرة على محافظة مأرب التي شهدت معارك مستعرة طوال معظم عام 2020، والتي تسببت في خسائر كبيرة للطرفين، ليس فقط في مأرب ولكن في المحافظات المجاورة مثل الجوف والبيضاء. إذا تمكن الحوثيون من السيطرة على مدينة مأرب، وعلى حقول النفط والغاز في المحافظة، فسوف يلحقون هزيمة كبيرة بالحكومة المعترف بها دولياً، وقد يهددون مناطق وسط وجنوب اليمن الواقعة تحت السيطرة الاسمية لهذه الحكومة.
أدت الضغوط العسكرية الحالية إلى تفاقم التوترات داخل الحكومة المعترف بها دولياً، بين هادي وأنصاره من بقايا المؤتمر الشعبي العام وحزب الإصلاح، وهو الحزب المتجذر في الهيكل السياسي في اليمن لكنه يضم جماعة الإخوان المسلمين. يعد الإصلاح قوة رئيسية في مدينتي مأرب وتعز اللتان تقعان تحت سيطر الحكومة، كما أن نفوذه في الجيش مهم بالنسبة للمملكة العربية السعودية في هذه الحرب.
يظهر التشرذم بشكل جلي في جنوب اليمن، حيث يطمح المجلس الانتقالي الجنوبي إلى استعادة دولة جنوبية مستقلة (كانت موجودة خلال 1967-1990)، وهو حالياً يسيطر على عدن والمناطق المحيطة بها لكنه أضعف في أبين وشبوة وحضرموت، وهي المناطق التي تحت سيطرة الجيش اليمني، ولا سيما العناصر المرتبطة بالإصلاح.
أكتسب القادة المحليون سلطات أكبر للسيطرة على شؤونهم الخاصة، وهم لا يرغبون في التنازل عن هذا السلطات لأية حكومة جديدة سواء في صنعاء أو في عدن. هناك مثلاً قوة كبيرة يقودها طارق، ابن شقيق الرئيس السابق صالح، وهي تسيطر على معظم مناطق تهامة الجنوبية وباب المندب. سيحتاج أي اتفاق سلام إلى القبول به من قبل مراكز القوى المحلية هذه. الإمارات العربية المتحدة، من خلال دعمها للمجلس الانتقالي الجنوبي ولطارق صالح، لها نفوذ كبير غير أنها، ومنذ بداية الحرب، رفضت التعاون مع الإصلاح بسبب صلته بالإخوان المسلمين، وهي بالتالي لا ترغب في رؤية الجنوب يقع تحت سيطرة الإصلاح.
في المقابل تبحث المملكة العربية السعودية على مخرج من هذه الحرب الباهظة الثمن في الوقت الذي تحتاج فيه إلى تكريس المزيد من الإنفاق على التنمية الاقتصادية الداخلية؛ لكن ليس بأي ثمن. فالرياض لا تريد مكافأة من تعتبره وكيلاً إيرانياً يشكل تهديداً مباشراً للأراضي السعودية من خلال التوغلات عبر الحدود وإطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة باتجاه المدن السعودية. لقد ازداد الدعم الإيراني للحوثيين منذ بداية الحرب، وهو الأمر الذي تثبته الصواريخ والطائرات بدون طيار الأكثر تقدماً التي يستخدمها الحوثيون، ويبدو أن إيران ترى في اليمن مسرحاً مهماً في تنافسها الإقليمي مع المملكة العربية السعودية، حيث يمكن لها باستثمار صغير نسبياً أن تضر بالمصالح السعودية؛ فالحوثيون هم عملاء لطهران وليسوا مجرد وكلاء.
منذ فترة والقادة السعوديون يتحدثون مع الحوثيين، ومؤخراً تم رفع مستوى التواصل إلى مستويات أعلى لكن دون أي نتيجة حتى الآن. يريد الحوثيون إجراء مفاوضات مباشرة مع السعودية تنسجم مع مقولتهم بأن الحرب هي حرب ضد معتدين أجانب، وهم بالتالي يسعون إلى استبعاد الحكومة المعترف بها دولياً. ومع ذلك فلا يمكن تهميش هادي وحكومته لأسباب ليس أقلها أن شرعيتهم، التي أقرتها الأمم المتحدة، تمنحهم أدوات قانونية وإدارية ومالية، إلى جانب الحصار الذي يفرضه التحالف العربي على البحر والمطارات، وهو ما يفضي إلى تفاقم الضغوط المالية التي يواجهها النظام الحوثي.
لقد تم سحب معظم القوات الإماراتية عام 2019 على الرغم من أن الإمارات ما تزال عضواً في التحالف العربي، وما تزال تقوم بتمويل المجلس الانتقالي الجنوبي، وتوفر الأسلحة للقوات المتحالفة معه، وهي القوات التي ساعدت الإماراتُ في تجنيدها وتدريبها وتجهيزها وتوجيهها، واستخدامها كحائط صد ضد القاعدة (التي وإن ضعفت قوتها إلا أنه لم يتم القضاء عليها) وربما لمواجهة نفوذ الإصلاح أيضاً.
تبعاً لذلك تحركت القوات السعودية إلى الجنوب بأعداد صغيرة، ويبدو أنها تدرك مدى قوة المجلس الانتقالي الجنوبي والحاجة إلى الأخذ بعين الاعتبار القوات المحلية المتواجدة في المناطق الأخرى من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقاً. ومع ذلك، وكما هو واضح من التأخير في تنفيذ اتفاق الرياض، فقد وجدت المملكة العربية السعودية صعوبة في إقناع المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة الشرعية بالعمل سوياً، وسيتعين عليها بذل المزيد من الجهد لضمان التنفيذ الكامل للالتزامات الواردة في الاتفاق.
يعتمد مارتن غريفيث في عمله على ثلاث مرجعيات، الأولى هي قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216 لعام 2015 الذي يدعوا إلى استعادة نظام هادي وانسحاب قوات الحوثيين من الأراضي التي استولوا عليها منذ 2014 وتسليم أسلحتهم الثقيلة. يصر الرئيس هادي والسعودية على وجوب تطبيق هذا القرار، لكن الحقائق على الأرض تغيرت لدرجة لم يعد ممكناً تطبيقه. والثانية هي مبادرة مجلس التعاون الخليجي التي حالت دون اندلاع حرب أهلية عام 2011، لكنها أفضت إلى انتقال سياسي همشَّ الحوثيين والحراك الجنوبي. أما المرجعية الأخيرة فهي الأخذ بعين الاعتبار مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، وإمكانية أن توفر هذه المخرجات أساساً لمزيد من المناقشات حول الشكل المستقبلي لليمن.
ضمن هذه المرجعيات والقيود ما كان لأحد أن يفعل أكثر مما فعله غريفيث في البحث عن حلول، والتشاور مع جميع الأصوات والمصالح اليمنية. ولو كان هناك أي مجال لاتفاق سلام لكان غريفيث قد وصل إليه بالتأكيد. هناك نقص أساسي في الإرادة من قبل جميع الأطراف لتقديم التنازلات الضرورية. هذا الأمر يمكن أن يتغير إذا حدثت تحولات كبيرة في الوضع الراهن، وهناك ثلاث احتمالات ممكنة لمثل هذه التحولات:
تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية: تدرس إدارة ترامب حالياً هذه الخطوة التي من الواضح أنها ستشكل ضغطاً كبيراً على اقتصاد الحوثيين، كما ستضعف حملتهم العسكرية، لكن مع خطر تفاقم الكارثة الإنسانية بشكل كبير. هذا الأمر يمكن أن يؤثر سلباً على قدرة المنظمات الإنسانية الدولية على العمل في مناطق الحوثيين، ويقوض الترتيبات التجارية التي بموجبها تقوم الشركات اليمنية بشراء واستيراد السلع الضرورية (يعيش حوالي 60 إلى 65 بالمائة من اليمنيين في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون). الدافع المفترض لاتخاذ مثل هذه الخطوة هو أن الحوثيين قد يكونون أكثر استعداداً لاتفاق سلام مقابل رفع هذا التصنيف، وهو ما سيفيد نظام هادي دون شك. إنها بمثابة عصا يمكن استخدامها، إلى جانب بعض الحوافز الأخرى، لإقناع الحوثيين بتقديم تنازلات. يمكن أن يستهدف التصنيف القادة الأفراد (كما حدث بالفعل) بدلاً من استهداف جماعة “أنصار الله” (المنظمة السياسية للحوثيين) أو المجلس السياسي الأعلى الذين يحكمون من خلاله. يمكن أيضاً أن يكون هناك نوع من الاستثناءات التي تسمح للمنظمات الإنسانية، ومستوردي الأغذية، بالعمل.
ضغوط أكبر على السعودية: من المرجح أن تقوم إدارة بايدن بمراجعة سياسة الولايات المتحدة بشأن السعودية، وتقليل الدعم الأمريكي لها في حرب اليمن، في الوقت الذي تسعى إلى حث إيران على توقيع الاتفاق النووي بصيغته المعدلة، أو ما يعرف بـ” خطة العمل الشاملة المشتركة” (JCPOA). من غير المعروف حتى الآن ما الذي يمكن أن يحدث في هذا الشأن، ولا أولويات الرئيس بايدن في هذه القضية، لكن من المرجح ألا تحظى باهتمام كبير في الأشهر الأولى من ولايته. قد يؤدي هذا الاحتمال إلى إضعاف عزيمة السعودية، وإضعاف الحكومة المعترف بها دولياً، لكن من خلال إضعاف أياً من الجانبين فأنه من غير المرجح أن يشجع هذا الطرف الآخر (الحوثيون) على تقديم تنازلات ما لم يكن ذلك ضمن حزمة من الاتفاقات.
انتصار الحوثيين في مأرب: من شأن هذا الانتصار أن يعزز معنويات الحوثيين مقابل إضعاف معنويات خصومهم؛ لكن هذا لن ينهي الحرب. ستقاتل قوات الحكومة المعترف بها دولياً في أماكن أخرى وستستخدم أدواتها كحكومة شرعية للضغط على الحوثيين. لن يكون مصنع الغاز الطبيعي المسال في مأرب مجدياً ما لم يكن بالإمكان ضخ الغاز عبر محافظة شبوة إلى محطة بلحاف، وهو ما يعطي الحوثيين حافزاً إضافياً إلى نقل المعارك إلى هذه المحافظة. يتحدث القادة الحوثيون عن السعي لتوحيد اليمن كله تحت سيطرتهم، ولهذا إذا استطاعت الحكومة الشرعية التمسك بمأرب فإن هذا سيقطع الطريق عليهم. من الممكن في هذه الحالة أن يستنتج الطرفان أنه ليس هناك ما يمكن جنيه من إطالة أمد الحرب.
خيارات الحكومة البريطانية
لن تنتهي الحرب حتى يصبح جميع المعنيين مستعدين لتقديم التنازلات الأساسية. ليس هناك خيارات متاحة لدى الحكومة البريطانية أكثر مما تقوم به حالياً من توفير أقصى دعم ممكن لمارتن غريفيث وفريقه، والتعامل مع مجموعة واسعة من القوى الفاعلة يمنية وإقليمية، وتقديم الدعم المالي الكبير عبر التبرعات لمنظمات الإغاثة الدولية.
تقوم المملكة المتحدة بشكل مستمر بالتشاور مع الولايات المتحدة، السعودية والإمارات بشأن اليمن، وتستخدم نفوذها الممكن لحث الأطراف على الاعتراف بحقائق الوضع على الأرض، وإدراك مواطن القوة والضعف في مواقفهم التفاوضية الفردية. تستطيع بريطانيا العمل بشكل وثيق مع إدارة بايدن للضغط على الأطراف المتصارعة للبدء في محادثات سلام جادة، واتخاذ المزيد من الإجراءات الضرورية لتخفيف المعاناة الإنسانية، وتتمثل الضرورة الملحة في التركيز على ما يمكن فعله لتمكين تدفق أكبر للمساعدات الإنسانية عبر ميناء الحديدة، والتأكد بعد ذلك من وصولها إلى من يحتاجون إليها داخل اليمن.
وبصفتها مسؤولة عن ملف اليمن في مجلس الأمن، يمكن للمملكة المتحدة أن تعمل من أجل دعم دولي أكبر لمارتن غريفيث، ووضع خطوط عامة لعملية قد تفضي إلى استبدال قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216 بقرار آخر يتناسب مع الوضع الحالي وميزان القوى في اليمن، لكن كجزء من حزمة من الترتيبات والاتفاقات التي تستلزم تنازلات من قبل الجميع.
يمكن للندن أن تنظر كيف يمكن استخدام العودة المحتملة للولايات المتحدة إلى اتفاقية البرنامج النووي الإيراني في إقناع إيران بتقليل دعمها للحوثيين، واستخدام أي نفوذ تمتلكه طهران على صنعاء (وهو الذي قد لا يكون بذلك القدر) لانخراط الحوثيين في مفاوضات ليس فقط مع التحالف العربي ولكن مع الحكومة الشرعية.
من المحتمل أن يتم النظر في اتخاذ إجراءات أكثر تشدداً، مثل تصنيف الحوثيين كإرهابيين أو ممارسة ضغط أكبر على السعودية، لكن مرة أخرى لن يكون هذا إلا جزءاً من عملية مساومة أوسع تهدف إلى دفع الأطراف المتصارعة إلى مفاوضات هادفة. سيحتاج اليمن دون شك إلى دعم اقتصادي مستدام، ومساعدات لسنوات طويلة لإعادة الإعمار، والدول الغنية المجاورة لليمن هي وحدها من يمتلك القدرة والدافع لتقديم الجزء الأكبر من تلك المساعدات. حتى الحوثيين يدركون هذا؛ فالأموال لن تتدفق ما لم يعتقد المانحون أن ذلك يخدم مصالحهم الأمنية على المدى الطويل.
أبعد من ذلك يمكن لبريطانيا وشركائها البدء في التفكير في كيفية مساعدة اليمنيين على تنفيذ أي أتفاق قد يتوصلون له، مع الأخذ بعين الاعتبار القوى والسلطات المنقسمة، ودراسة كيفية استيعاب مصالح القوى المحلية في أي تسوية سياسية في مرحلة ما بعد الصراع لمنع هذه القوى من تعطيل وإفشال مثل هذه التسوية.
يمكن لبريطانيا أيضاً أن تنظر في كيفية دعم العدد المتزايد من المبادرات المحلية، كما هو حاصل على سبيل المثال في تعز، حيث تقوم المجموعات المحلية، التي تدعم نظرياً أطرافاً مختلفة في النزاع، بالعمل سوياً لتقديم مواد الإغاثة والخدمات التي يحتاجها الجميع. وفي المقام الأول يجب على بريطانيا ضمان استمرار البحث عن تسوية شاملة. صحيح أن الصعوبات هائلة لكن عدم القيام بأي شيء ليس خياراً.
* ديبلوماسي بريطاني سابق، عضو الهيئة الاستشارية لمجموعة أصدقاء اليمن في حزب العمال.
التعليقات