تضطلع المؤسسات الدينية وغيرها من المكوّنات المتقاطعة مع المجال الديني بأدوار رئيسية وذات فعاليّة كبيرة في تنفيذ السياسات الدينية للدولة ومقارباتها الأيديولوجية المتعلقة بالإسلام الرسمي، مثلما يحدث حالياً في دولة الإمارات العربية المتحدة.
تشارك دولة الإمارات باقي دول الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عملية التحكّم في هذه الكيانات المؤسساتية ذات الطابع البيروقراطي، وإن كانت تتمايز بعضها عن بعض في الاهتمام الممنهج بتدعيم التصوّف.
ولا يقتصر الاختلاف بين هذه الدول على تباين أهداف ومستويات التحكم في المجال الديني، بل إنها تختلف في مقارباتها الأيديولوجية للإسلام “الحقيقي” أو “الرسمي”، ومن ثم تُعلمنا حالة التشابك المعقدة بين المؤسسات الدينية والأنظمة الحاكمة لإنتاج هذا الإسلام الرسمي، على مدار الصيرورة التاريخية لتشكّل الدولة الحديثة في المنطقة، عن التوجهات الأيديولوجية والأجندات ذات الأبعاد الأمنيّة والاستراتيجيّة المتجاوزة للطبيعة الروحية للتديّن، لكن ما يضيف كثيراً من التعقيد ويؤكد ضرورة الدراسة البحثية هو سعي دولة الإمارات العربية المتحدة الحثيث لتدعيم التيار الصوفي، في نطاق مقاربة شاملة تتعلق بما يُسمى بالإسلام المعتدل، بالرغم من أن أنماط التديّن الشعبية لصيقة للغاية بمبادئ العقيدة الإسلامية السنيّة.
أولاً: التصوّف الإسلامي.. المفهوم والأهمية
من خلال تسليط الضوء على الصيرورة التاريخيّة لظهور التصوّف وتغلغله في الممارسات الدينيّة والاجتماعيّة لكثير من المجتمعات الإسلامية نجد أن الخلفيات المفاهيمية لهذه الظاهرة أو نمط التديّن ما تزال مثيرة للجدل في كلا العالمين الغربي والإسلامي. ثمّة اتفاق واسع النطاق بين الباحثين أن مصطلح التصوّف يشير إلى مجموعة متنوّعة ومتشابكة من المعتقدات والممارسات الروحانية-التعبّدية المتجذّرة ضمن علاقات تراتبيّة متوارثة للطرق الصوفيّة (أولياء الله الصالحين/ مشايخ الطرق/ المريدون). ويطلق مصطلح التصوف/الصوفية في اللغة العربية على الروحانية الإسلامية، وهو يعني حرفياً: “لبس ثياب من الصوف”، وقد بدأ استخدامه في الغرب منذ بداية القرن التاسع عشر.
يعرّف علماء الإسلام البارزون مصطلح التصوف أو الصوفية بوصفه دلالة على البعد الباطني للإسلام الذي تقوم الممارسات التعبّدية الإسلامية بتثبيته وإتمامه متكاملاً مع القوانين الإسلامية التي تعرف بالشريعة لكن التصق مدلول الصوفية- في الغالب- بقيم مثالية مثل الحب والسلام والتسامح والوسطية. من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذا المصطلح أصبح مُستبطناً لأفكار معقدة الأبعاد تتمثل تحديداً في فكرة وجود إسلام آخر مختلف تماماً عن الإسلام المتعارف عليه، ومن ثم فلا عجب أنه أصبح ذا حمولات لفكرة مفادها أن الفضائل الجوهرية التي يجسدها هذا التيار الروحاني الموحية بالطمأنينة يمكن أن تمثل بديلاً مناسباً لأكثر أشكال التعبير الدينيّة تعصّباً في مجال السياسة الإسلامية
. ويمكن القول هنا إن كثيراً من الفاعلين الدينيين والسياسيين يحرصون على إظهار الصوفية بصفتها تمثل الإسلام الحقيقي الذي يجب تبنيه من أجل مواجهة الإرهاب،المتمثّل في مقولات التيارات الإسلامويّة وسلوكياتها، ونزع شرعيته وهزيمته
. وتمثل الصّوفية والإسلامويّة الراديكالية مفهومين متعارضين منذ نشأتهما، ويُنظر إليهما على أنهما كيانان متضادان يحارب أحدهما الآخر في سبيل ترسيخ جوهر الإسلام، بمعنى أن أنصار/أتباع الصوفية يروّجون لها على أنها تجسيد للقيم الدينيّة الإيجابية التي يحتاج إليها العالم من أجل القضاء على الإرهاب.
وفي هذا السياق يقول الباحث بجامعة السوربون عادل لطيفي: “المتصوفة مكون مهم من مكونات الثقافة العربية والإسلامية عموماً عبر تاريخها، وذلك على الرغم من المحاصرة التي فرضها الفقهاء وعلماء النص. وحده التصوف تمكن من منافسة العقل الفقهي الإجرائي بعد تراجع تأثير الكلام المعتزلي، وقد تمكن حتى من التفوق عليه في البلاد المغاربية منذ القرن الرابع عشر بانتشار «تصوف العوام»، أو ما يسمى بالإسلام الولائي (أولياء الله)، وذلك منذ القرن الرابع عشر الميلادي”
. ويرى جوناثان غرانوف، العضو السابق في لجنة المنظمات غير الحكومية المعنية بنزع السلاح والسلام والأمن التابعة للأمم المتحدة، خلال المنتدى العالمي للصوفية عام 2016، أن “على العالم أجمع، شرقاً وغرباً، إعادة التفكير في الخطط القائمة لمواجهة الإرهاب الجهادي، والعمل على تعديلها“، ويضيف أن “الصوفية هي حل مُلهم؛ إذ إنها تحفز قدرة الإنسان على الحب وخدمة الآخرين والتعاطف والسلام
ثانياً: التصوّف مدار للاشتغال البحثي- السياسي داخلياً وخارجياً
في خضم تعدد المقاربات والتفسيرات لظاهرة التصوّف يقدم الباحث إرنست ترامب (Ernest)، وهو مستشرق مختص في الدراسات الإسلامية، وله كتابات عدّة عن الصوفية، تعريفاً للمصطلح بوصفه محاكاة مشوّهة لظاهرة متداولة وذات أصول أوروبية. عموماً، يحتل نمط التديّن الصوفي مكانة مرموقة في الدراسات الإسلامية والاستشراق بالدول الغربية، فضلاً عن الاهتمام المتزايد به من المراكز البحثيّة والإعلام والحكومات
وينبثق هذا الاهتمام الأكاديمي والاستراتيجي للتصوّف الإسلامي من حيثيّات الأهميّة التاريخيّة للتيار الصوفي ومساراته في النسيج الاجتماعي والثقافي بصفته أبرز أنماط التديّن الشعبي والنخبوي في الآن ذاته.
من هذه الزاوية، يمكن الاستئناس بمقاربة إرنست لفهم المكانة المهمّة للتصوّف ومستويات ارتباط مكوّناته بالمتغيّرات السياسية والاجتماعية في المنطقة العربية-الإسلامية. إذ يؤكد إرنست أن مصطلح “الصوفية” ابتُكِر في أواخر القرن الثامن عشر، حيث يشمل عناصر الثقافة “الشرقية” التي تتلاءم مع ميولات الأوروبيين
. صحيح أن التصوّف متغلغل في الوعي والثقافة الشعبية لعدد كبير من المجتمعات الإسلامية، كما سبق أن بيّنا، إلا أن التوظيف والتركيز المتزايد عليه يخضع لسياسات الدول الغربية ومواقفها الاستراتيجية من قضايا الدين والتديّن داخل هذه السياقات الراهنة، لذلك من المهم البحث في التطور التاريخي للدراسة الأوروبية لهذا المصطلح من أجل استخلاص القضايا الكامنة وراء المشاريع الاستراتيجية والجدالات القائمة. وتعدّ الصوفية منهجاً روحياً يحاكي التجربة الإسلامية الأساسية التي تجسدها النبوءة ويشمله قانون الشريعة واللاهوت.
كما أنها قد أصبحت مفهوماً مثيراً للجدل في كل من العالمين الغربي والإسلامي. وحسب إرنست فإن ابتكار المصطلح السائد للصوفية يعود لمصادر أوروبية، ترى بعض هذه المصادر أن التصوّف الإسلامي الحديث (الذي تروّج له الدول حالياً) ذو تصوّرات ودلالات مستشرقة للصوفية، وهو ما طمس علاقته المتأصلة بالإسلام.
عموماً، يمكن القول إن الصيرورة التاريخية لتطوّر التيار الصوفي وتغلغله داخل المجتمعات الإسلامية تبرهن على العلاقة الوثيقة (المراوحة بين التوافق والتصادم) والترابطيّة بين الصوفيين والأنظمة الحاكمة. تاريخياً، تدور الفكرة الجوهريّة حول أن سلطات الدولة مدركة تماماً للنفوذ والإمكانيات التي يملكها المشايخ الصوفيون ومريدوهم؛ إذ لم يكتفوا بالتمرّد على السلطات القائمة وفرض شروطهم الخاصة عليهم، بل كان بمقدورهم أيضاً التدخل في أي وقت وبصفة مباشرة في شؤون الدولة (الدولة العثمانية/ المغرب/ الجزائر..)[10]. هكذا، لطالما حظيت بعض الطرق الصوفيّة على مدار خمسة قرون من الزمن تقريباً بمكانة مرموقة داخل دوائر صناعة القرار السياسي، فقد سعت السلطات إلى المراقبة والتنسيق واستمالة القادة الصوفيين عوضاً عن قمعهم
خلقت هذه العلاقة القائمة بين الصوفيين والحكام بعض الالتباسات؛ حيث كان هنالك مفارقات صارخة بين الفقر المدقع الذي يعيش فيه الصوفيون، وأساليب الحياة المريحة والمترفة للحكام. وقد تبين للقادة الصوفيين فضائل امتلاك النفوذ للتأثير في الدوائر السياسية، تأسيساً على منطق الوساطة، إذ يمكنهم من التدخل لمصلحة الفقراء في الشؤون المهمة التي تخصّ المجتمع
. ويرى كثير من الدارسين لأنماط التديّن الإسلامي أنّ هذا المنطق للوساطة بين الحكام والرعيّة (المواطنين حالياً)، أو للتعبئة الشعبية لخيارات الحكام أيضاً، أسهم بدرجة ما في تفعيل وترسيخ مبادئ الإسلام (التكافل/ الشورى/ التعايش/ العدل والإنصاف/ المناصحة..)
بالإضافة إلى ذلك، برز دور القادة الصوفيين في الدفاع عن الإسلام ضد المخاطر الخارجية التي واجهها خلال الحروب الصليبية على سبيل المثال خلال القرن التاسع عشر، إذ كانت أوامر القادة حاضرة تنعكس من خلال ردة فعل المسلمين لتوسّع قوات الاحتلال
ثالثاً: مسارات التحديث على التيار الصوفي
خلق تغلغل التصوّف في التقاليد الاجتماعيّة والثقافية، بوصفه التديّن الشعبي، تمظهرات جديدة وأكثر تأقلماً مع تحوّلات ومتغيّرات السياق الراهن. وبعد انتهاء عقود من ركود الصوفيّة وتراجعها، وتحديداً مع بدايات القرن الحالي، بدأ الباحثون بإعادة إنتاج مصطلح “الصوفية الجديدة” التي لطالما استُعملت لوصف مجموعة التيارات الإسلامية المتجددة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. لا شكّ في أن تكثيف حضور الطرق الصوفية قد ساعد على تطوير مستويات النزوع نحو التجديد والإصلاح، وهو ما أنتج فاعلية نشطة لهذه الصوفية الجديدة في نطاقات النشاط السياسي والمدني والاجتماعي[15].
وأصبح المصطلح يستخدم لوصف مجموعة من التطوّرات والتنظيمات التي تشتغل بمعزل عن علاقات التبعيّة أو التقارب مع باقي التيارات الإسلامية (المتطرفة/ الإسلام السياسي) معتبرة نفسها “الصوفية العصرية” أو ما يُعرف بـ”الصوفية العملية”
يجدر بالذكر أنه قد ظهرت عدة تأويلات لهذا المصطلح دون التوصل إلى أي اتفاق حول استخداماته[17]. وحسب ألكسندر كنيش، ابتكر المستعمر الغربي مصطلح الصوفية الجديدة للدلالة على التعديلات التي خضعت لها الصوفية، حيث أصبحت تشدّد على النشاط السياسي وتطبيق الشريعة
. لقد تحرّر هذا المفهوم المعدّل للصوفية من عناصر النشوة الروحية التي كانت تقترن بالمفهوم القديم للمصطلح، وأصبح يحيل غالباً على مجموعة من الممارسات الأخلاقية والعملية. وعلى عكس المفهوم التقليدي للصوفية، تتميز الصوفية الجديدة بنزعة إيجابية إزاء المشاركة “المباشرة” في الشؤون الدنيوية
وما ميّز الصوفيين الجدد عن الصوفيين التقليديين كذلك حرصهم على إعادة بناء المجتمع المسلم على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي، واهتمامهم بإعادة دراسة وتفسير الحديث النبوي والنص القرآني. الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك؛ فخلال الفترة التي سبقت العصر الحديث، مثلت الصوفية القائمة على الشريعة قوة بارزة في سياق مجهودات تقريب الإسلام ونشره، بيد أن الصوفية قد قامت في الواقع بتحديث نفسها (إعادة تطوير وصياغة مقولاتها).
رابعاً: مكانة التصوّف في سياقاته التاريخية الراهنة
منذ عقدين من الزمن، تحديداً ما بعد الضربات الإرهابية 11 سبتمبر 2001، استقطبت الصوفيّة الاهتمام الدولي والوطني بصفتها مشروعاً لتجديد الإسلام وتكييفه مع القيم الكونيّة للتعايش والتسامح، بالإضافة إلى تلاؤمه مع القيم الغربيّة للحداثة كما روّجت لذلك عدّة حكوماتومراكز أبحاث غربيّة في إطار الحرب الدوليّة على الإرهاب. ومضمون هذا المشروع الأيديولوجي الدوليّ يتعلّق بإحياء البعد الروحاني للتديّن الإسلامي لاستيعابه لعلاقة التواشج بين الجوانب الدينيّة والمبادئ العلمانيّة في الآن ذاته، بمعنى أن تمظهرات التصوّف (ممارسات تعبّدية/ الموسيقى الصوفيّة/ الرقص..) ترسخ نمط تديّن ذا بعد انسيابي يسعى فقط إلى معايشة التجربة الروحانيّة الصرفة عكس باقي التيارات الإسلامية
بعبارة أكثر وضوحاً، بالنسبة إلى منتقدي التوظيف السياسي للتصوّف أو طرحه بوصفه الإسلام الحقيقي، فإن التصوف يفتقد البعد الثوري والقدرة على إحداث التغيير والإصلاح المجتمعي أو إدارة الشأن العام، وهو ما “يسهل أمر تسويقه داخليّاً وخارجيّاً” بسبب إفراغه من كل المفاهيم الإسلامية وانسحابه من التنافسيّة على السلطة
. ولعلّ أهمّ ما يلفت الانتباه انتشار الاعتقاد أو التمسّك بفكرة نمطيّة مفادها أن الصوفيّة خالية من الأيديولوجيا السياسية إلى درجة تبني كثير من الخطاب الوطني (مثل المغرب، والإمارات، وتونس، والجزائر..)، بدرجات متفاوتة، أن الصوفيّة هي أحد تمظهرات الإسلام المعتدل والبديل الأمثل والأكثر إيجابيّة عن الإسلام “الراديكالي”، مؤكدين التجذّر التاريخي للموروث الصوفي في مجتمعاتها. باختصار، بات يروّج للصوفيّة، بالأخصّ من المكوّنات السياسية أو المثقفة ذات المرجعيات العلمانية، بوصفها المذهب الروحاني الذي يقاطع السرديات “العنيفة” أو “المتشددة” لباقي التيارات الإسلاميّة
إن البناء على هذا التأثير السياسي والاجتماعي للتصوّف، بوصفه نمط تديّن مرغوباً ومتناسقاً مع المشاريع الاستراتيجية لكثير من الأنظمة، قد تبناه كثير من الحكومات؛ لأن هذا التفضيل نتاج لمتغيّرات سياسيّة ودينيّة، وكذلك يُعزى إلى التوجسات المتزايدة من انحراف كثير من التيارات الإسلاميّة نحو التطرف واستعمال السلاح.
أصبح التركيز على التصوّف في كثير من البلدان تقريباً، ومن بينها الإمارات، ليس نابعاً من الإيمان بآرائه أو قدراته على الاستقطاب الاجتماعي بقدر ما يمثّل البديل المستوحى من التراث الحضاري والديني، وهو ما يضفي عليه الشرعيّة لتقديمه مناهضاً للسلفيّة أو باقي التيارات الإسلامية المتطرفة أو السياسية.
في السنوات العشر الأخيرة، عندما ارتخت القبضة البوليسية الكابحة لنشاطات الجماعات المتطرفة والتيار السياسي الإسلامي المسيطرة بقوة على المساجد والخطاب الديني، أصبح التصوّف من أكثر أنماط التديّن التي تلتزم النخب العلمانيّة بالدفاع عنها ومساندتها، لا لمناهضة انتشار الفكر التكفيري والدموي للجماعات المتطرفة فحسب؛ بل لكبح التأثير المتزايد لأحزاب الإسلام السياسي وهيمنتها على المشهد السياسي الانتقالي والفضاء العام والمجال الديني تبلور من خلال مساعي تماهي الفاعلين العلمانيين مع التصوّف نزوع نحو خلق فجوات وعلاقات تصادم بينها وبين السلفيّة في عموميتها؛ فقد شكّلت السلفيّة (غالباً ما يُطلق عليها الإسلام الأصولي من طرف العلمانيين) نمط تديّن غير مفضل ومتنافر مع هويّة الدولة المدنيّة من ناحية أولى، ومغاير للتراث الإسلامي من ناحية أخرى. ثمّة هوّة واسعة، موجودة وأعيد إنتاجها، بين التصوّف وبقية التيارات الإسلامية، إلى درجة أن كثيراً من الدول الشرق أوسطيّة قد أحدثت تعديلات هيكليّة على مجالها الديني (توجه نحو مزيد من التحديث، وما يطلق عليه الإسلام المعتدل مثل الإمارات وكذلك المملكة العربية السعودية) حتى تعيق انتشار الفكر الديني “المتشدد”
مُجدداً؛ من المهم التأكيد أن التوصيات الغربيّة (مؤسسة راند الأمريكية مثلاً) بإحياء الفكر الصوفي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحقيقة مفادها أن الإسلام “السلفي”، أو باقي التمظهرات الراديكاليّة أو القادرة على التنافس السياسي، أصبحت محلّ نقد ومهددة للأهداف الاستراتيجية طويلة الأمد لمختلف القوى الداخلية أو الأجنبية الوازنة في المنطقة العربية-الإسلامية
لا شك أن التراث الصوفي متجذّر ومتلاحم مع السرديات السلفيّة، من حيث استمرار الاقتداء بسلوكيات السلف الصالح التعبّدية، رغم وجود الالتباس القائم حول طبيعة كلتا الظاهرتين/التيارين، وحول المساحة الزمانية والمكانية التي تغطيها، وكذلك حول المفكرين والتيارات الإسلامية الذين تشملهم دون سواهم. ما يهمّنا في سياق هذه الورقة أنه لطالما كان للصوفية بعد سياسي “دنيوي”، ولطالما امتزجت في علاقات باطنيّة مع صيرورة تحوّل التديّن الإسلامي إلى نمط تديّن منتشر في كل العالم، وتغلغلت تعاليمها في تعاليم الإسلام. بناء عليه، قد يكون الوصف أوضح إذا ما اعتمدنا التعريف التالي أن التيارين “الإسلام السلفي” و”الإسلام الصوفي/الطرائقي” يحيلان على الخطاب الديني والسياسي المعاصر الذي ينصّ على العودة إلى أسس الكتب الدينية التي ألفها علماء الإسلام والصوفيون، ومن ثم بصفة متزايدة الأشخاص والتيارات الذين يعيدون تأويل هذه الأسس بالاعتماد على التقاليد القائمة من أجل تطبيقها بصفة تحاكي الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي لعالمنا المعاصر. ويؤكد ويسمان (Weismann Itzchak) أن الإسلام السلفي والصوفية المعاصرة بصفتهما ظاهرتين حديثتين، قد أسهما في بناء بعضهما بعضاً من ناحية، ومن ناحية أخرى في مواراة إحداهما للأخرى
انطلاقاً مما ذكر، يمكن القول إن العلاقة التي تربط الصوفية بالسلفية تتشابه تماماً مع علاقة الإسلام بالغرب، وتتأرجح ما بين تجاذب وتنافر. وبالرغم من تجاهلها، تتعرض السلفية لتأثير كبير من الطريقة الصوفية، حيث شارك عدد من السلفيين في الطقوس الصوفية، ومارسوا تعاليمها
]. ومع ذلك، فقد رفض السلفيون تبني الصوفية من جراء الاتهامات المتبادلة بتحميل مسؤوليات تداعي الإسلام، بالأخصّ أنه دائماً ما يُنظر إلى الصوفيين على أنهم زائغون عن مسار الإسلام الحقيقي، ويصورون على أنهم يمثلون عقبة أمام إعلاء مكانة التديّن الإسلامي من جهة أولى، والمشاركة السياسية والمدنية الفعالة للجماعات الدينية من جهة أخرى.
التعليقات