(8) العصور الوسطى المصرية والحرية
ألقينا الضوء سابقًا على بريق شعار الحرية إبان الثورة المصرية (25 ـ 30) في مقال منفصل، ثم تطرقنا إلى الجذور التاريخية للحرية في سبع مقالات منفصلة، عن ولادة مصطلح الحرية تاريخيًا، وتطور مفهوم الحرية في إطار تطور الحضارة الإغريقية باعتبارها أحد أهم روافد التفكير العقلاني الحر، والحضارة الرومانية باعتبارها الجسر التاريخي والحضاري الأساسي الذي انتقلت منه أوربا إلى مستنقعات العصور الوسطى، والمفهوم الإيماني للحرية في إطار الديانة المسيحية في طورها الأول، وأوضاع الحريات في العصور الوسطى (قرون الظلام الأوروبية)، وأوضاع الحريات في إطار الحضارة الإسلامية، والحضارة المصرية القديمة والحرية، ومقالتي هذه لإلقاء الضوء بشكل موجز ومختصر على أوضاع الحريات في مصر خلال العصور الوسطى.
اعتبر سقوط الإمبراطورية الرومانية عام 476م بداية العصور الوسطى تاريخيًا، وكما أسلفنا استمرت مصر مقاطعة رومانية منذ عام 30 ق.م، حتى دخول العرب مصر واستيلائهم على الإسكندرية عاصمة مصر آنذاك عام 642م، باستثناء فترة عشرة سنوات تمكن فيها الساسانيون (الفرس) من هزيمة الدولة البيزنطية الشرقية وإحتلال الإسكندرية وحكم مصر بين عامي 618 ـ 629م، وذلك بسبب الصراعات الداخلية في الدولة البيزنطية، ولكن استطاعت الدولة البيزنطية في النهاية طرد الفرس عن مصر عام 629م، وكان مسيحيو مصر قد اعتنقوا مذهب يعقوب البردعي، الذي يقوم على مبدأ وحدة طبيعة المسيح الإلاهية، وهو يتعارض مع المذهب السائد في الدولة الرومانية آنذاك وهو المذهب الملكاني الذي يقوم على مبدأ ثنائية طبيعة المسيح، مما أدى إلى اضطهاد مسيحيي مصر لفترات كثيرة، علاوة على عدائية الرومان تجاه الشعب المصري، واقتصار الحكم والإدارة على الرومان، مما أوجد العزلة بين الشعب والحكام، ومهد الطريق لدخول العرب إلى مصر، حيث اعتبر ذلك نقلة نوعية في التاريخ المصري، بعد أن ظلت لفترات طويلة حضارة متفردة، وأمة بذاتها، ثم جزءًا أساسيًا من الحضارة المتوسطية اليونانية ثم الرومانية.
دخل العرب مصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وبعد معارك متفرقة استطاع الجيش العربي بقيادة عمرو بن العاص هزيمة الجيش الروماني والاستيلاء على الإسكندرية عام 642م، وبذلك انتهى حكم الدولة البيزنطية لمصر، وتم جلاء الروم عنها، بعد معاهدة الاستسلام، التي نصت على دفع الجزية دينارين في السنة عن كل شخص، وإعفاء النساء والأطفال والشيوخ، وكان تعداد مصر مابين 6ـ 8 ملايين قبطي، وعدد من تجب عليهم الجزية من مليون إلى إثنين مليون قبطي، وولي عمرو بن العاص أربع سنوات حتى عزله عثمان بن عفان، ولكنه عاد لولاية مصر في عهد الخليفة الأموي معاوية بن إبي سفيان، وظلت مصر ولاية أو إمارة تابعة للخلافة الإسلامية‘ وظل الخلفاء هم الذين يعينون ويرسلون الولاة إلى مصر، وكان اعتماد الخلفاء على الولاة لجمع خراج مصر وتحصيل الضرائب من المصريين، حيث كانت تمثل الجزء الأكبر من دخل بيت المال، ولم يكن هناك إجبار على التحول إلى الدين الإسلامي في تلك الحقبة، وكانت الجزية تفرض على الجميع حتى المتحولين إلى الإسلام، وظل هذا الوضع قائمًا حتى عصر أحمد بن طولون، ونشأة الدولة الطولونية.
قامت الدولة الطولونية خلال زمن تعاظم فيه قوة الترك (ليسوا أتراك من تركيا) في الدولة العباسية، وسيطرة الحرس التركي على مقاليد الأمور، وهو ذاته العصر الذي كان يشهد نموًا في النزعة الشعوبية وتغليب نزعة الإنفصال على شعوب وولاة الدولة مترامية الأطراف، فكان قيام الدولة الطولونية إحدى النتائج الحتمية في هذا الفكر، وهي دولة مستقلة متحضرة أسسها أحمد بن طولون التركي في مصر عام 868م إلى 904م، وحكم هو وأولاده مصر لمدة 38 عامًا بطريقة مستقلة عن دولة الخلافة العباسية، وأوقف دفع الجزية للخليفة العباسي، وبقيت التبعية للخلافة العباسية أسمية فقط، وبنى ابن طولون مدينة القطائع عاصمة لمصر، وعاشت مصر عصرًا مزدهرًا تميز بالتحضر والرخاء وتوسع العمران وبناء الحدائق وغيره، كما أنشأ ابن طولون بمارستانا (مستشفى) عام 873م لمعالجة المرضى مجانًا، وإهتم بالزراعة والصناعة وخاصة صناعة النسيج التي كانت أهم الصناعات في عصره، وتقدمت صناعة الفخار، وصناعة المعادن لإنتاج الآنية الخاصة بالطعام والشراب، وصناعة العملة، ونشطت صناعة السفن البحرية والنيلية لتلبية حاجة الأسطول المصري، وتطورت الحرف، ولم يكره أحد على دخول الإسلام، وحققت الحركة العلمية والأدبية تطورًا ملموسًا في مصر في العصر الطولوني، كما شهد العصر الطولوني عددًا من المؤرخين الذين اتجهوا إلى التأريخ الإقليمي أو المحلي وبدأ بالتأريخ بدخول العرب مصر وما تبعه من أخبار وحوادث، مثل المؤرخ “عبدالرحمن بن عبدالحكم”، وابن الداية “عبدالله بن محمد عير البلوي”، ويعتبر جيش أحمد بن طولون أول جيش مستقل بمصر في العصور الوسطى، وساعده في ذلك مقدرة مصر المالية ونمائها الاقتصادي، كما أدى ثراء مصر في عهد أحمد بن طولون إلى ظهور طبقة اجتماعية جديدة تميزت بالثراء الفاحش هي طبقة الجند والقواد من الحاشية والغلمان وزعمائهم ورجال البلاط، ولكنها لم تكن تتمتع بأي استقلال في مواجهة سلطة الحاكم، وظلت وظيفتها هي خدمة الحاكم، وتستمد قوتها ومركزها الاجتماعي من السلطة الحاكمة، وتنتهي بمجرد استغناء الحاكم عن خدماتها، مما انعدمت معه أي فرصة لنمائها أو تطورها كما حدث للطبقة الوسطى الأوروبية كما سنأتي لاحقًا، وبعد وفاة أحمد بن طولون عام 884م، أوصى لابنه (خماروية) بولاية مصر، وبايعه الجند ووافقه الخليفة العباسي على ذلك، وهذا يعني توارث الحكم، وهو ما كان يتميز به الحكم في الدويلات المستقلة عن نظام حكم الولاية، وظلت مدينة القطائع مزدهرة حتى هاجمها العباسيون على يد “محمد بن سليمان” قائد الخليفة المكتفي بالله وأحرقوها، ونهبوا كل ما فيها من ثروات.
أكدت تجربة الدولة الطولونية على أن مصر قاعدة اقتصادية وعسكرية كبرى، ومن يحكمها يستطيع أن يستقل بها ويؤسس دولة قوية قادرة على تحدي الخلافة، ولذلك حاول الولاة الذين يرسلهم العباسيون أن يثبتوا أقدامهم في مصر، حتى استطاع أحد هؤلاء الولاة وهو الإخشيد أن يكرر تجربة أحمد بن طولون، فأسس في مصر دولة شبه مستقلة لها قوة لا يستهان بها، حكمت من عام 935 إلى 969م، وورثها لأربعة من أولاده، وبلغت قوة “محمد بن طغج الإخشيدي” أن أخذ موافقة الخليفة العباسي على أن تكون ولاية مصر والشام والحجاز متوارثة في أسرته، وبذلك تكون أسرة إخشيد هي ثاني أسرة مستقلة في مصر بعد أسرة بن طولون، ولكن شهدت دولة الإخشيد في نهايتها كوارث كثيرة، فقد تعرضت لزلزال قوي أتى على حوالي ألفي منزل في الفسطاط، كما انخفض منسوب النيل بشكل كبير مما أصاب البلاد بالقحط ووباء شديد يعد الأسوأ في تاريخ مصر، وساءت أحوال البلاد واستبد “حسين بن عبيد” الذي كان وصيًا على السلطان الإخشيدي الصغير السن (أحمد بن علي الإخشيدي)، فمهدت تلك العوامل الطريق لنجاح الحملة الفاطمية الثالثة بقيادة “جوهر الصقلي” الذي استطاع هذه المرة أن يسقط الدولة الإخشيدية وتصبح مصر فاطمية عام 969م، وسميت تلك الحقبة بعهد (الدويلات المستقلة).
الدولة الفاطمية هي إحدى دول الخلافة الإسلامية، ومؤسس سلالة الفاطمية هو “الإمام عبيدالله المهدي بالله”، وهي الخلافة الوحيدة التي اتخذت من المذهب الشيعي (ضمن فرعه الإسماعيلي) مذهبًا رسميًا لها، وبسبب مطاردة العباسيين لهم واضطهادهم في المشرق العربي، انتقلوا إلى المغرب حيث تمكنوا من استقطاب الجماهير وخصوصًا وسط قبيلة كتامه البربرية، وأسس الفاطميون مدينة المهدية في ولاية إفريقية سنة 912 ـ 913م، واتخذوها عاصمة لدولتهم الناشئة، وفي عام 948م نقلوا مركز الحكم إلى مدينة المنصورية، وعندما دخل الفاطميون مصر عام 969م، أسسوا مدينة القاهرة شمال مدينة الفسطاط وجعلوها عاصمة لهم، فأصبحت المركز الروحي والثقافي والسياسي للدولة الفاطمية، وأعلنوا قيام الخلافة الفاطمية التي شملت مناطق وأقاليم واسعة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فإمتد نطاقها على طول الساحل المتوسطي من المغرب إلى مصر، ثم توسع الخلفاء الفاطميون أكثر فضموا إلى ممتلكاتهم جزيرة صقلية، والشام، والحجاز فأصبحت دولتهم أكبر دولة استقلت عن الدولة العباسية، والمنافس الرئيسي لها على زعامة الأراضي المقدسة وزعامة المسلمين.
قامت الدولة الفاطمية في مصر، والحركة العقلية المصرية تشكل طورًا من أطوار قوتها، ذلك لأن الدولة الإخشيدية التي استخلص الفاطميون منها تراث مصر، كانت نصيرة للعلوم والآداب، وفي ظلها ازدهرت الحركة الفكرية والأدبية، ونبغ عدة من المفكرين والكتاب الممتازين، مثل ابن يونس المحدث والمؤرخ، والفقيه أبو بكر الحداد، وأبو عمر الكندي المؤرخ، والأديبين الشاعرين أبو جعفر النحاس وأبو القاسم بن طباطبا الحسيني، والحسن بن زولاق الفقيه والمؤرخ، والكثير غيرهم.
ولما قامت الدولة الفاطمية بمصر ما لبثت الحركة العقلية أن لقيت ملاذًا في قيام الجامعة الفاطمية الكبرى، ممثلة في (الجامع الأزهر)، الذي تحول فيما بعد إلى جامعة حقة، وأنشئت (دار الحكمة) الشهيرة في عهد “الحاكم بأمر الله”، كما تم تزويدهما بخزائن الكتب الجليلة، وأجزل لهم النفقة، وقرب إليه أقطاب المفكرين والأدباء، أمثال المؤرخ الكبير محمد بن القاسم بن عاصم شاعر الحاكم وجليسه، وأبي الحسن علي بن محمد الشابشتي الكاتب صاحب الديارات، وابن يونس العلامة والرياضي والفلكي الشهير وغيرهم، كما نبغ في الطب عدد كبير من الأطباء مثل محمد بن أحمد التميمي طبيب العزيز بالله، وأبو الفتح منصور بن مقشر النصراني، ولعل أشهر عالم رياضي شهدته مصر الفاطمية هو الفيلسوف أبو علي محمد بن الحسن الهيثم الذي تضاهي مرتبته العلمية وقتها مرتبة اينشتاين في العصر الحديث، ولكن الحركة الفكرية ضعفت في النصف الثاني من الدولة الفاطمية.
ورغم إظهار بعض الخلفاء الفاطميين تعصبهم للمذهب الإسماعيلي، مما أدى إلى معاناة أتباع المذاهب والديانات الأخرى خلال عهدهم، إلا أن أغلبهم اتسم بالتسامح الشديد والمرونة مع سائر المذاهب الإسلامية تمثلت في استمالة أهل السنة والجماعة، وتمكينهم من إظهار شعائرهم على اختلاف مذاهبهم، وكانت المذاهب السنية المعروفة، الشافعي، ومالك، وأحمد بن حمبل، (بخلاف أبي حنيفة) ظاهرة الشعائر في مملكتهم، وكان مذهب مالك بالأخص ذائعًا، ومن سأل الحكم به أجيب طلبه، وكذا مع غير المسلمين من اليهود والنصارى (الأقباط واللاتين والشوام والروم والسريان والموارنة)، واشتهر الفاطميون أيضًا بقدراتهم على الاستفادة من كافة المكونات البشرية لدولتهم المنتمية لتكتلات عنصرية متنوعة، فاستعانوا بالبربر والترك والأحباش والأرمن إلى جانب العرب في تسيير شؤون الدولة، ومن المميزات التي تميزت بها الدولة الفاطمية صبغتها المدنية العميقة، كما كانت تمتاز بطرافة نظمها السياسية، وقد كانت الدولة الفاطمية مبتكرة ومجددة في كثير من قواعد الحكم والإدارة، وفي كثير من الرسوم والنظم، وكانت هذه الرسوم والنظم فوق طرافتها الدستورية تطبعها نفس الصبغة الباذخة، التي تطبع الدولة الفاطمية وسائر مظاهرها.
كان نظام الحكم في ظل الخلافة الفاطمية، كما كان في سائر البلاد الإسلامية الأخرى، في العصور الوسطى، نظامًا مطلقًا يستأثر فيه الخليفة بجميع السلطات الروحية والزمنية، وقد سارت الخلافة الفاطمية على هذا النحو منذ قيامها بالمغرب، ثم بعد ذلك منذ قيامها بمصر، وكان الخليفة الفاطمي، هو الدولة وهو صاحب السلطات المطلق، وضمت صورة الأمور السلطانية الشروح الآتية: “إن طاعة الإمام جامعة للملوك والرعايا، والرعاية تجمع الاعطاء والطاعة، وأن الوزير يجمع السياسة، والجاية، والجباية جامعة للوزارة والعمال، وأن الملك يجمع الطاعة والسياسة، والعامل يجمع الجباية والاعطاء وإن الاعطاء جامع للعمال والرعايا، وأن السياسة مشتركة”، ومن هذه الشروح الفلسفية لنظرية الحكم الفاطمية يتضح أن الإمام هو رئيس الدولة الأعلى، وقد يكون هو الإمام الروحي والملك الزمنى معًا، وقد يكون تحت رئاسته ملوك آخرون، يدينون له بالطاعة الدينية والدنيوية، وهو الحاكم المطلق ومن تحته تتدرج السلطات من أعلى إلى أسفل، وأول مايليه من أهل السلطات هو الوزير، وباسمه وبتوجيهه يزاول سلطاته في الحكم، ويلي الوزير العمال أو حكام الولايات والثغور، وهؤلاء يزاولون سلطات الحكم على من دونهم من الرعايا، وليس للرعايا شأن ولا قول ولا رأي، وليس لها أن تتصل بالعامل أو الوزير أو الملك، إلا بالطاعة المطلقة، وهو ما يسمى دستوريًا (نظرية الحكم المطلق) بل هي تمتاز فوق ذلك، بأن رئيس الدولة الأعلى فيها وهو الإمام يمتاز بصفات العصمة والقداسة، باعتباره قائم الزمان، وأن قيامه يرجع إلى مشيئة الله.
أخذت الدولة الفاطمية تتراجع في النصف الثاني من عصرها عندما استبد الوزراء بالسلطة وأصبح اختيار الخلفاء بأيديهم، وكان هؤلاء الخلفاء غالبًا من الأطفال أو الفتيان، واختلف عدد كبير من الوزراء مع قادة الجيش وولاة الأمصار ورجال القصر، فعاشوا في جو من الفتن والدسائس، تاركين الناس يموتون من المجاعة والأوبئة المتفشية، وخلال ذلك الوقت كانت الخلافة العباسية قد أصبحت في حماية السلاجقة، الذين أخذوا على عاتقهم استرجاع الأراضي التي خسرها العباسيون لصالح الفاطميين، ففتحوا شمال الشام وسواحلها وسيطروا عليها لفترة من الزمن قبل أن يستردها الفاطميون، ولكنها لم تلبث بأيديهم طويلًا، إذ كانت الحملة الصليبية الأولى قد بلغت المشرق، وفتح الملوك والأمراء الإفرنج المدن والقلاع الشامية الواحدة تلو الأخرى، وبلغ أحد هؤلاء الملوك، وهو “عموري الأول” أبواب القاهرة وهددها بالسقوط، واستمرت الدولة الفاطمية تنازع حتى عام 1171م، عندما استقل صلاح الدين الأيوبي بمصر بعد وفاة آخر الخلفاء الفاطميين، وهو أبو محمد عبدالله العاضد لدين الله، وأزال سلتطهم الاسمية بعد أن كانت سلتطهم الفعلية قد زالت منذ عهد الوزير العسكري “بدر الدين الجمالي”.
حكمت الأسرة الأيوبية أجزاء واسعة من المشرق العربي خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد، وتأسست الدولة الأيوبية على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي في مصر ثم امتد حكم الدولة الأيوبية إلى الشام والحجاز وشمال العراق وديار بكر بجنوب تركيا، وإلى شرق ووسط وجنوب اليمن في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، قاد بعدها الجهاد ضد الصليبيين واستطاع أن يسترد القدس عام 1187 م، وظل الحكم وراثيًا في عصر الأيوبيين، كان الأيوبيون يكثروا من شراء المماليك البيض من بعض دول آسيا وأوربا ثم من جورجيا وبلاد الشركس، والذين تكونت منهم فيما بعد دولة المماليك البحرية، وزوال الدولة الأيوبية، وكان المماليك يشترون كصبيان قبل البلوغ من أسواق العبيد، ويعزلون في معسكرات خاصة عن المجتمع، ويتلقون التدريبات العسكرية، وعندما يصلون إلى سن الحلم (البلوغ) كانوا يتحرروا، ويجهز كل منهم بحصان والأسلحة، ويلحق في قوات استاذة الذي اشتراه والذي كان منصبه أمير، وكان ولائه له حتى وفاته، ويتفانى في خدمته والدفاع عنه، وكلما كبر بعد سن الشباب قل أجره، وأسس المماليك دولتين متعاقبتين كانت عاصمتهما هي القاهرة، الأولى دولة المماليك البحرية التي حكمت حوالي 144 سنة، وحكم خلالها 29 سلطان، بمتوسط 5 سنوات لكل سلطان رغم وجود من مكث طويلًا إلا أن بعضهم لم يمكث أكثر من عام أو عامين، وكانت وسيلة التغيير هي القوة العسكرية، على قاعدة (الحكم لمن غلب)، ومن أبرز سلاطينها عز الدين أيبك، وقطز، والظاهر بيبرس، والمنصور، وقلاوون، والناصر محمد بن قلاوون، ودولة المماليك الثانية هي دولة المماليك البرجية، وقامت بانقلاب عسكري على يد السلطان الشركسي برقوق، وعرف في عهدهم أقصى اتساع لدولة المماليك في القرن الخامس عشر الميلادي، وكان من أبرز سلاطينهم برقوق وابنه فرج واينال وابنه الأشرف سيف الدين برسباي، وظهر في زمان دولة المماليك الكثير من علماء المسلمين الأفذاذ أمثال العز بن عبدالسلام والنووي وابن تيمية وابن الجوزي وابن مجرالعسقلاني وابن كثير والمقريزي وابن جماعة وابن قدامة والمقدسي، كما أحدث النظام المملوكي تطوير كبير في نظم الحكم على مستوى العالم، حيث أن النظام لم يكن قائم على التوريث لكن على اختيار الحاكم، وتلك كانت شيء جديد ليس فقط على مستوى مصر والشرق الأوسط ولكن على مستوى العالم في العصور الوسطى، وعندما انتهى عصر المماليك في مصر كتب المؤرخ ابن إياس قصيدة شعر بدايتها تقول “نوحوا على مصر لأمر قد جرى.. من حادث عمت مصيبته الورى”، ولم تقتصر ظاهرة المماليك على مصر وحدها بل كانت ظاهرة عالمية، واستمرت طويلًا خلال القرون الوسطى وما بعدها، حتى أن نابليون شكل لواءًا من المماليك أثناء الحملة الفرنسية على مصر والشام في مطلع القرن التاسع عشر، وكانت آخر قوة مملوكية عسكرية في التاريخ.
ومما تقدم نرى أنه بينما كانت أوربا في العصور الوسطى مقسمة إلى مملكات ومقاطعات وإمارات كثيرة ومتناحرة، وتخضع لسيطرة الكنائس البيزنطية واللاتينية (الكاثوليكية)، كما أوضحنا في مقال سابق بعنوان “العصور الوسطى.. قرون الظلام الأوروبية”، كانت مصر موحدة جغرافيًا وسياسيًا، رغم إنها كانت تخضع للإحتلال الروماني البيزنطي، وكانت المسيحية هي الديانة السائدة، مع وجود عناصر من الثقافة الفرعونية القديمة، ويمكن اعتبار الحكم الأموي (662م) بداية العصور الوسطى في مصر من الناحية الزمنية، أي التزامن مع العصور الوسطى الأوروبية، ولكنها لم تدخل العصور الوسطى بالمفهوم التاريخي الاجتماعي والاقتصادي سوى في الفترة من عام 1250 حتى 1517م، بسبب ظهور الإقطاع والقلاع والفرسان، وظلت مصر أكثر تقدمًا وتحضرًا من أوربا حتى الإحتلال التركي العثماني لمصر، وتشكل المجتمع المصري في العصور الوسطى من الأمراء وهي الطبقة الأرسطقراطية وطبقة رجال الدين (المعممين)، وطبقة التجار والصنايعية والفلاحين، وبينما كانت طبقة رجال الدين في أوربا أصحاب نفوذ قوي وسلطة نافذة ويتحكون في حياة الناس العامة والخاصة، كان رجال الدين في مصر تحت سيطرة السلطة السياسية، واقتصر دورهم على خدمة السلطة السياسية ويتقاضون رواتبهم من الدولة، وإتسم النظام السياسي في مصر بالطابع الإقطاعي العسكري، حيث سيطرت طبقة الأمراء الأرسطقراطيين على الإقطاعات والأراضي الزراعية، واحتكار التجارة الخارجية، ووجدت بعض الحرف البسيطة المرتبطة بالاحتياجات اليومية للمجتمع المصري، مثل الحرف المرتبطة بالمأكولات كالجزارة والطبخ وصناعة الحلويات، والتي أوجدت انتشار الأسواق وتخصصاتها التي توضح مدى ازدهار المجتمع المصري وخاصة في النصف الثاني من العصر المملوكي، وكان الاستهلاك الترفي سمة اجتماعية واضحة في مصر، وازدهرت في تلك الفترة صناعة الموبيليا والأقمشة والملابس، وحرف المزين والحلاق، وانتشرت الحمامات العامة بشكل كبير، ورغم انتشار الفكر الغيبي الديني في مصر في تلك الفترة إلا إنه لم يكن بالدرجة التي التي وجد بها في العصور الوسطى الأوروبية، حيث وجدت السلطة السياسية القوية، ففي العصر الفاطمي مثل الحاكم السلطة المدنية والدينية في نفس الوقت، رغم اضطرارهم في بعض الأحيان لاسترضاء القيادات الدينية، واقتصر دور ممثل الخليفة العباسي في رعاية بعض المراسيم والشؤون الدينية، دون أن يسمح له بالتدخل في السلطة المدنية في البلاد، وإذا تم ذلك كانوا يعاقبوا، وأحيانا كثيرة يتم القبض عليهم ونفيهم أو ترحيلهم، وتمتعت الطوائف الدينية بقدر معقول من حرية التعبد وخاصة المسيحيين سواء طائفة اليعاقبة أو طائفة الملكانية، وهما الطائفتان المسيحيتان الرئسيتان، وكان لكل منهما بطريرك، ولم يتأثرا بالصراعات الطائفية الدامية في أوربا آنذاك، واعتبر المسيحيين رعايا الدولة كالمسلمين، وتولوا مناصب عالية في دواوين الدولة، وكانت الأديرة منتشرة في مصر، واقتصرت مهمة البطريرك على تنظيم حياة المسحيين وتنظيم علاقتهم بالدولة، في الوقت الذي ساد فيه الإضطهاد الديني في أوربا بشكل كبير، وفي حين كان مؤرخو أوربا (سواء من المفكرين أو الكتاب) في العصور الوسطى قساوسة، وتناولوا الأحداث بدوافع دينية وخلطوا بين الحقائق والغيبيات، نجد مؤرخين مصر مثل “ابن تغرى” المسلم و “ابن العميد” المسيحي وغيرهم لم يكونوا كذلك، فلم يكونوا مشايخ ولا قساوسة، ولم يخلطوا بين الأحداث الحقيقية والخرافات كما كان يحدث في أوربا.
وفي عام 1517م وقعت مصر تحت الأحتلال التركي العثماني، وانتقلت لمرحلة منحطة ثقافيًا وحضاريًا، والذي يعد أسوء حكم شهدته مصر في تاريخها الإسلامي، وأطول فترة اضمحلال حيث استمر قرابة 300 عام، نهبت فيها موارد مصر الاقتصادية، واستنزفت قوتها العاملة الحرفية الماهرة ونزحت إلى الإستانه، وجرفت الحياة الثقافية والفكرية والفنية، وهمشت وقزمت القاهرة، وعزلت مصر وباقي الدول العربية عن العالم الخارجي، الذي واكب مراحل نشأة الرأسمالية وتطورها، وما صاحب مراحلها الأولى والوسطى من تطور اقتصادي وتكنولوجي وحضاري لم تشهد له البشرية مثيل طيلة التاريخ البشري، وحصلت تغييرات جوهرية خلقت مجتمع جديد يتمتع بكافة أنواع الحريات العامة والخاصة، والتي أخذت في الاتساع يوما بعد الآخر، وزادت معها بشكل مطرد الفجوة الحضارية الهائلة بيننا وبين المجتمعات الغربية، وذلك بعد أن استطاعت أوربا الخروج من سيطرة الكنيسة والسلطة المستبدة، والذي عرف بعصر النهضة، وهو موضوع مقالنا القادم.


التعليقات