ألقينا الضوء سابقاً على شعار “الحرية” كأحد أهم أهداف الثورة المصرية، وهي العدالة الاجتماعية، والحرية، والاستقلال الوطني، وذلك في مقالنا الأول بعنوان (الحرية وبريق الشعار)، وأوضحنا كيف كان غياب الحرية سبباً أساسياً من أسباب بريق الشعار وجاذبيته لدى جموع الثوار، وأحد أهم أسباب إندلاع الثورة المصرية، وخاصة في موجاتها الكبرى في 25 يناير 2011م، و30 يونيو2013م، وتطرقنا لمسيرة هذا الشعار منذ إندلاع الثورة حتى وقتنا هذا، أي عشية البدء في اجراءات الانتخابات البرلمانية، واتمام خارطة المستقبل، ومقالنا هذا عن ولادة مصطلح الحرية، وتشكل مفهوم الحرية تاريخياً، بقصد تتبع مسيرة الحرية تاريخياً واجتماعياً، واستشراف مسقبل الحرية في وطننا، باعتباره عاملاً اساسياً لتنمية وتقدم وتطور الدولة والمجتمع، وخاصة فيما يتعلق باتمام قضية التنوير، وإنجاز الثورة الثقافية المنشودة، عن طريق الثورة السياسية التي قام على أساسها تحالف الموجة الثانية الكبرى للثورة المصرية في 30 يونيو 2013م، باعتبارها ثورة سياسية في المقام الأول.
تظهر المفاهيم في العادة بعد بروز الظواهر لغرض الدلالة عليها, وقد ظهر مصطلح الحرية بعد وجود ظاهرة العبودية، وولادة أول مجتمع طبقي قائم على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، والإفادة منه لتحقيق رفاه أو منافع اقتصادية، أو في الأعمال الخطرة والشاقة، وبذلك سمي شخص ما “حر” وآخر “عبد”، أي ليس حراً، بعد أن كان الناس جميعاً أحراراً ويشتركون في صفة الحرية، ولم يكن هناك مبرر لوجود مصطلح الحرية، كما ظهرت العبودية أيضاً عن طريق امتلاك أمة لأمة، وقد استقت كلمة ملك من لفظة تملك لإنها غالباً ما تعني امتلاك الملك لشعبه لكونه الإله وهم العبيد.
كان البشر كلهم في المجتمع المشاعي البدائي سواء، حيث أنهم يعملون جميعاً لأجل التقاط أو جني أو صيد ما يأكلون، حتى يستمروا في الحياة، فالحرية هنا كانت مرادفة للمساواة الكاملة بين البشر، من حيث الحقوق والواجبات، لانتفاء الاستغلال، ومن ثم انتفاء مصطلح وشعار “الحرية” أيضاً، والنظام المشاعي البدائي هو أول نظام اجتماعي وجد منذ عدة آلاف من السنين، وكان مشتركاً بين كل الشعوب في المرحلة الأولى من تطورها، وتميز ببدائية أدوات العمل، والتقسيم الطبيعي للعمل حسب الجنس والسن، وكان أساس علاقات الإنتاج الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج (الأدوات الزراعية، والأرض، والمساكن، وأدوات العمل)، وفي إطار الملكية المشتركة كانت هناك أيضاً ملكية خاصة للأسلحة والملابس و الأواني المنزلية.. الخ، وكان الإنتاج في النظام المشاعي يتم جماعياً بواسطة كافة أفراد العشائر، وكان الناتج يقسم إلى أجزاء متساوية ويستهلك جماعياً، ولم يكن البدائيون يستطيعون بغير العمل معاً أن يؤمنوا وسائل معيشتهم، وأن يحموا أنفسهم من هجمات الحيوانات المفترسة والجماعات المجاورة، والتناقض بين الإنسان والطبيعة في المجتمعات المشاعية هو ما أدى الي تطور فكر الإنسان، وأن الصراع على البقاء كان دافع الإنسان ليخترع أدواته الخاصة، ليطور ظروف حياته، لحماية الجنس البشري من باقي الكائنات، التى كان هو أضعفها جسدياً، وظلت الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والناتج من العملية الإنتاجية، وعمل الجميع في كل الأعمال، سائداً في المجتمعات المشاعية في مراحله الأولى، وساد “النظام الأموي” خلال المرحلة البدائية من مراحل تطور المجتمع المشاعي البدائي، حيث كانت الأم تمثل الدور المسيطر في النواحي الاقتصادية والاجتماعية بعد اكتشاف الزراعة، وقد وجد النظام الأموي بين جميع البشر بلا استثناء في تلك المرحلة، فخلال المرحلة الدنيا من التطور الاجتماعي عندما كان الزواج الجماعي هو القاعدة، لم يكن معروفاً من هو أبو الأطفال، فكانت الأم وحدها معروفة، ولهذا لم يكن من الممكن أن ينسب النسل إلا إلى جانب الأم وكان الاعتراف فقط بالصلة الأنثوية، وتركز الاقتصاد القبلي كله في أيدي النساء، فلم يكن الصيد وهو حرفة الرجال يوفر وسيلة للعيش يعول عليها، وفي البداية كانت النساء عموماً هي اللاتي يقمن بالعمل الزراعي المنتج، وكانت رعاية الأطفال والبيت وتوفير الزاد والعمل في الحقل والطهي.. الخ، من وظائف النساء، ومع ظهور تربية المواشي بدأ دور المرأة في الهبوط، وأصبح الرجل القوة المنتجة الرئيسية في المجتمع، ومالك وسائل الإنتاج والماشية، ومثل ذلك المستوى الاجتماعي الثاني في تطور النظام المشاعي البدائي، وكانت السمة النوعية المميزة له سيطرة الرجل على الاقتصاد في كل طرق الحياة في مجتمع العشيرة، ونشأ النظام الأبوي في الفترة التي أدى فيها أول تقسيم اجتماعي للعمل على نطاق واسع، أي فصل الرعي عن الزراعة، إلى التطور السريع نسبياً للقوى الإنتاجية والتبادل المنظم والملكية الخاصة، ومع تطور الرعي والزراعة بدأ الناس تدريجياً في ممارسة ملكية الماشية، وفي ظل النظام الأبوي حل الزواج الثنائي محل الزواج الجماعي (الزمرة) وصار الزوج يعترف به كأب للأطفال، والزوجة والأطفال ينتمون إليه بحق الملكية، وكانت العائلة الأبوية التي يصل عددها إلى مائة شخص أو أكثر وحدة اقتصادية فوق كل شيء، وقد أدى المزيد من تطور القوى الإنتاجية والملكية الخاصة والتبادل إلى انقسام العائلة الأبوية إلى عائلات صغيرة تقوم على الزواج الواحدي.
وظلت وسائل الإنتاج ملكية جماعية خلال المرحلتين السابقتين من المجتمع المشاعي البدائي، وكان المجتمع يخضع لقيادة الزعماء والمجالس المنتخبة من جانب أعضاء المجتمع معتمدة على الخبرة والمهارات والتجربة والحكمة، ولم تكن السلطة وراثية بل كانت تقوم على الرأي الاجتماعي ولا يتميز الزعيم بالملكية عن أفراد جمهور العشيرة أو القبيلة، ولعدم وجود أية مؤسسات على شاكلة الدولة فقد أتبع في النظام المشاعي البدائي مبدأ اشتراك جميع أعضاء المجتمع على قدم المساواة في تصريف شؤون الجماعة وتطور تربية الماشية، وأخذت القبائل تتنقل بالتدرج إلى تربيتها مما حمل بعضها على ترك الزراعة والانصراف إلى تربية المواشي بينما بقيت القبائل الزراعية تنتج كميات كبيرة من المحاصيل، ومتنوعة حسب المواسم، وبهذا حصل أول تقسيم اجتماعي للعمل أدخل التخصص في اقتصاد القبائل وقد أفضى التخصص إلى ضرورة تعزيز الصلات بين مختلف المشاعيات.
بعد أن تطورت القوى المنتجة داخل رحم مجتمع المشاعية البدائية في مراحلة النهائية، كان نظام الرق (نظام العبودية) قد بدأ يتكون فعلاً، وكان في البداية مجرد مؤسسة مشاعية بدائية قائمة على استثمار قوة عمل العبيد من أسرى الحروب أو وفاء لدين أو تنفيذ لعقوبة، لكن دورها كان ثانوياً في الاقتصاد المشاعي الذي يستهدف تأمين حاجات الأسرة الأبوية، خصوصا بعد أن تركت الأدوات الخشبية والحجرية مكانها نهائياً للأدوات المعدنية، وأصبح أسرى الحروب بين القرى والقبائل يتحولون إلى قوى منتجة تحت منظومة علاقات جديدة، وبدأ نظام التملك يأخذ حيزاً في العلاقات الاجتماعية، وتتأسس وفقاً له منظومة علاقات فوقية قائمة على وجود فئة لها حق التصرف بين الجماعة، وتنظيم حياتها، ومن ثم انفصالها كطبقة اجتماعية تتمتع بحقوق على المجتمع تفوق حقوق أي فرد في هذه الجماعة، ثم جاءت ضرورة خلق مؤسسة جديدة لحماية مصالح المالكين المتحدين، فكان أن وجدوا في اختراع الدولة هدفاً لابد منه.
إن تطور قوى الإنتاج هو مصدر أساسي لهذه التغيرات ولكنه ليس المصدر الوحيد، ففي تطور قوى الإنتاج، جاء المحراث الحديدي والمنجل المعدني اللذان أعطيا إمكانية زيادة إنتاجية العمل الزراعي، خصوصاً الحبوب، إلى جانب ذلك ظهرت زراعة البساتين والخضروات، وكانت قد بنيت وسائل صناعية لري المحاصيل مثل القنوات والمنشآت المائية.. الخ. وبنيت المطاحن لطحن الحبوب بدلاً من الرحى، وتطور استثمار مكامن المعادن حيث بدأ استثمار العمل اليدوي يأخذ شكلاً جديداً، وصار استخدام الخامات وطحنها وصهرها ممكناً بفعل استثمار العمل اليدوي، وعلى أثر ذلك تطورت المنتجات وتنوعت، مثل صنع الأسلحة والملابس والفخار والحياكة والجلود… الخ، فكان لزاماً أن تتطور القرى لتؤسس المدن وتصبح المكان لتجمع بشري من نوع جديد، وصار حينها لابد من وجود قوانين لتنظيم الحياة الاجتماعية الجديدة.
وبذلك نجد أن المجتمع العبودي مر بثلاث مراحل لا تختلف نوعياً عن بعضها في جميع البلدان، بل تختلف كمياً ومن حيث الدرجة فقط، ورغم أن الدراسات الحديثة تؤيد عمومية النظام العبودي في العصور القديمة، إلا أن النظام العبودي الذي ساد في الشرق القديم يتميز ببعض المميزات الخاصة، نتيجة استمرار وجود بقايا ومخلفات من المجتمعات البدائية في تكويناته الاقتصادية والاجتماعية اللاحقة، حيث مثلت (المرحلة الأبوية) السابق الإشارة إليها، المرحلة الأولى للمجتمع العبودي الطبقي الأول.. ثم أتت المرحلة الإنتقالية بين المجتمع البدائي والمجتمع العبودي المتطور، وتتميز هذه المرحلة بظهور تقسيم العمل بشكل واضح وظهور الملكية الخاصة القائمة على الاستثمار، وتطور التمايز الاجتماعي، وظهور بوادر تكون الطبقات الاجتماعية والدولة، إلا أن العلاقات العبودية (أو تملك واستثمار العبيد) لم تصبح هي السائدة بعد، ويعتقد الكثيرون أن بابل ومصر والصين والهند القديمة بقيت في هذه المرحلة طويلاً جداً قبل أن تتجاوزها، فقد نشأت بدايات العبودية في الصين منذ تأسيس دولة (شانغ أو اليين) في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وفي الهند القديمة نشأت العبودية في الألف الأولى قبل الميلاد عبر مرحلة انتقالية طويلة تحول فيها التحالف العشائري إلى استبداد شرقي نموذجي بتأسيس إمبراطورية (الموريا) في القرن الرابع قبل الميلاد، بينما سادت هذه المرحلة في اليونان من العصر الهومري (عصر هوميروس الشاعر) حتى الغزوات الفارسية، وساد في روما حتى بدايات العهد الجمهوري.. ثم أتت المرحلة العبودية المتطورة، وتميزت هذه المرحلة بسيادة العلاقات الاستثمارية العبودية واحترام التناقضات الاجتماعية للنظام، وخراب المنتجين المستقلين نتيجة منافسة مالكي العبيد، كذلك ظهرت الثورات الاجتماعية فقد قام العبيد وفقراء الأحرار بعدد من الثورات قمعت بقسوة متناهية، أشهرها ثورة العبيد عام 71 ق.م، المشهورة بثورة سبارتاكوس، وعجز المنتجون الصغار عن تقديم أي بديل عن النظام العبودي السائد، ولقد دخلت اليونان هذه المرحلة منذ القرن الخامس قبل الميلاد، ودخلت روما هذه المرحلة في القرن الثاني قبل الميلاد.
وكان النظام العبودي أول مجتمع طبقي متطاحن، نشأ على أنقاض النظام المشاعي البدائي. وقد وجدت العبودية بدرجة أو أخرى في جميع البلدان، وبلغ هذا النظام أعلى أشكال تطوره في اليونان وروما القديمتين حيث كان العبيد قد أصبحوا القوة الإنتاجية الرئيسية للمجتمع، وكان ملاك العبيد في النظام العبودي يشكلون الطبقة الحاكمة، وانقسم المجتمع إلى عدة طبقات مختلفة، فتكونت الطبقة الأولى من كبار ملاك الأراضي وملاك الورش الكبيرة والتجار والمرابين، وتكونت الطبقة الرئيسية الثانية من العبيد العديدين المستغلين، وإلى جانب هاتين الطبقتين الرئسيتين في النظام العبودي كانت توجد المراتب الوسطى من السكان، وهم صغار الملاك الذين يعيشون بعملهم الخاص (الحرفيون والفلاحون) والبروليتاريا المنهكة، المؤلفة من الحرفيين والفلاحين المحطمين، وكانت الملكية لوسائل الإنتاج والعبيد من قبل ملاك العبيد تشكل أساس علاقات الإنتاج السائدة في النظام العبودي، وقد وصل استغلال العبيد القائم على القهر الاقتصادي إلى حدود بشعة، وإضطر العبيد أحياناَ كثيرة لمواجهة هذا الاستغلال والقهر بتخفيض إنتاجية العمل، وتحطيم أدوات الإنتاج، وكان فائض الإنتاج الذي يخلقه كل عبد فائضاً عديم القيمة، ولكن نظراً للعدد الضخم من العبيد المستغلين، والرخص الشديد لعملهم، كان العائد الكلي كبيراً نسبياً، مما أدى إلى حدوث وفورات اقتصادية للمرة الأولى في التاريخ، وعلى هذا الأساس أصبح من الممكن حدوث بعض التقدم الاجتماعي والتقني وتطور العلم والفنون والفلسفة، وقد ظهرت الدولة وتطورت مع ظهور النظام العبودي، وأصبح تاريخ العبودية كله يمثل تاريخ الصراع الطبقي، وبلغ هذا الصراع الطبقي نقلة تاريخية نوعية له مع انهيار النظام العبودي، وتدخل إنتفاضات العبيد مع صراع الفلاحين الصغار المحطمين ضد كبار ملاك الأراضي، وقد عجل الغزو بانهيار النظام العبودي في روما، وقد حل الاستغلال الإقطاعي محل الاستغلال القائم على إمتلاك العبيد، ولم يختفي أسلوب الإنتاج القائم على امتلاك العبيد اختفاءاً تاماً بانهيار النظام العبودي، وإنما استمر في الوجود بدرجة أو بأخرى في فترة الإقطاع والرأسمالية.
وكانت تجارة الرقيق تمارس في مصر منذ عصور القدماء المصريين واستمرت حتى أوائل القرن العشرين، وكان العبيد يجلبون إلى مصر من بقاع بعيدة، فكان العبيد من ذوي البشرة البرونزية والسوداء يأتون من جنوب وادي النيل، ومنطقة (بورنو) في جنوب غرب بحيرة تشاد، أما العبيد البيض فكانوا يجلبون من (جورجيا) وبلاد الشاطيء الشرقي للبحر الأسود، ومن المستعمرات الشركسية، وكان فيهم من يتم جلبه من أسرى الحروب، وكانوا يصنفوا طبقاً لألوان بشرتهم ومناطق جلبهم، ولكل لون ثمن مختلف، والعبيد يخدمون في بيوت الأعيان، أما النساء فيعملن كمحظيات لأغنياء القوم، وظلت تجارت الرقيق واستعمالهم في أغراض الحياة المختلفة في مصر حتى فرض الخديوي سعيد باشا حظراً على تجارة العبيد، وعينهم بالجيش ضباطاً وجنوداً، إلا أن الخديوي إسماعيل أعاد تلك التجارة، ثم جاءت حركات حقوق الإنسان في العالم التي نادت بتحرير العبيد وإلغاء تجارة الرقيق، ثم وقعت مصر على إتفاقية إلغاء الرق والعبودية التي عقدت عام 1926م في جنيف، وكان لتجارة الرقيق الدولية أنظمة خاصة تحدد لكل نوع من الرقيق نوع العمل الذي يؤديه حسب اللون والبنية الجسدية، وكان لتأخر القضاء على العبودية وتداخل بقايا نظام العبودية مع النظام الاقطاعي والنظام شبه الرأسمالي، والاستغلال الاقتصادي البشع، وتعدد وطول فترات الاستعمار.. وعيره، آثاره الثقافية والحضارية التي يمكن أن نفهم من خلالها الكثير من القيم الإنسانية السالبة للحرية، وإعاقة اتمام قضية التنوير المؤجلة منذ مئات السنين، والتأخر في إنجاز الثورة الثقافية التي تخطاها أغلب دول العالم الأول والثاني منذ مئات السنين، وتفسر لنا المفاهيم الليبرالية القاصرة التي حملتها طبقات اجتماعية سائدة وحاكمة، ولكنها مشوهة وغير مؤهلة تاريخيا لإنجاز تلك الاستحقاقات التاريخية الهام، كما يمكن أن نفهم من خلالها بعض الميول الاستبدادية الشعبية التي تميل بسهولة ويسر تجاه الفاشيات الدينية والاستبدادية، حتى نراهم أحيانا كثيرة (ملكيين أكثر من الملك) .
وبهذا كانت الحرية هي المقابل المناقض للعبودية، فالحر ضد العبد والرقيق، والحرية معناها القدرة على قيام الفرد بأداء ما يريد وما يشاء دون أي موانع تحد من ذلك، أي قدرة الفرد على اتخاذ القرار المناسب له دون أي تدخل أو تأثير من أي طرف آخر، سواء كان مادياً أو معنوياً، ومن ناحية المفهوم يمكن تقديم تعريف عام للحرية يشمل جميع أنواع الحريات الممكنة وهو “الحرية هي غياب الإكراه”، أي إمكانية الفرد دون أي جبر أو ضغط خارجي على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانيات موجودة، وهي التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيوداً مادية أو معنوية، فهي تشمل التخلص من العبودية لشخص أو جماعة أو للذات، والتخلص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما، والتخلص من الإجبار والفرض، والحرية بذلك تستلزم وجود إطار عام لا يتحكم بالحرية الشخصية، ولكن ينظمها ويحفظ حريات الآخرين، حيث لكل شخص حريته ولكنها تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، لإن كل البشر أحراراً ولهم الحق في اتخاذ قراراتهم، على ألا تؤثر على الآخرين.
ومما تقدم يتضح أن الاستغلال الجماعي الأول عن طريق العبودية، هو من خلق الفوارق الطبقية، وقسم البشرية ألى طبقة أسياد وطبقة عبيد، وسلب حرية جزء من البشر، وقصر الحرية على جزء آخر، وأوجد “مصطلح الحرية” و “المفهوم الأول للحرية” إلى الوجود لأول مرة في التاريخ، وبذلك يكون تاريخ اختفاء حرية البعض متزامناً وملازماً لتاريخ الإستغلال منذ أزمنة سحيقة حتى الآن، واستمر هذا الاستغلال وتجدد مع الأنظمة الاجتماعية اللاحقة للنظام العبودي، مثل النظام الإقطاعي، والنظام الرأسمالي، وأن نظاق من شملهم الاستغلال ومن ثم الحرمان من الحرية أخذ في الاتساع والانتشار في كل بقاع المعمورة، مما أوجد مفاهيم أكثر تطوراً وتقدماً للحرية متزامناً مع تجدد أنواع الاستغلال، ومرتبط بضحيات ونضال الطبقات الكادحة في كل عصر، ونضوج الوعي الطبقي والعام لدى البشر، وتجسد المفهوم الثاني للحرية في “مفهوم عصر الأنوار” في الغرب، وهو موضوع مقالنا القادم.


التعليقات