الخميس - الموافق 13 نوفمبر 2025م

الثورة والحرية… الجزء الخامس “تطور مفهوم الحرية – 4” بقلم:- محمد السني

1525614_1384696948450925_1423039279_n

(4 ) المسيحية والحرية

ألقينا الضوء سابقاً على بريق شعار الحرية، وولادة مصطلح الحرية، والمفهوم الإغريقي للحرية، والحضارة الرومانية، في أربع مقالات منفصلة، وأوضحنا كيف كان الاستبداد وغياب الحرية سببًا أساسيًا من أسباب إندلاع الثورة، وبريق شعار الحرية، إبان الثورة المصرية (25 ـ 30)، وأوضحنا كيف أدى الاستغلال الجماعي الأول عن طريق العبودية، إلى سلب حرية جزء من البشر، وأوجد مصطلح “الحرية” والمفهوم الأول للحرية “المفهوم البسيط” إلى الوجود لأول مرة في التاريخ، ثم تطرقنا إلى تطور مفهوم الحرية خلال مراحل تطور الحضارة الإغريقية، باعتبارها أهم روافد الجذور التاريخية الأولى للتفكير العقلاني الحر، ثم تطور مفهوم الحرية لدى الحضارة الرومانية، باعتبارها الجسر التاريخي والحضاري الأساسي لعبور الغرب إلى مستنقعات العصور الوسطى، ومقالتى هذه عن مفهوم الحرية لدى المسيحية (في طورها الأول) ضمن محيط الامبراطورية الرومانية.
وكما أسلفنا، مثلت الإمبراطورية الرومانية النموذج الكلاسيكي الأمثل لعصر العبيد، وهو النظام الاجتماعي الأكثر ظلمًا وقسوة ووحشية في تاريخ الإنسانية على الإطلاق، مما أوجد الظروف الموضوعية لتقبل الديانة المسيحية وانتشارها، باعتبارها ديانة تقوم على تحرر النفس البشرية من الخطايا، ونبذ العنف، والمساواة العامة، وإنه لا فضل لإنسان على آخر إلا بالعمل الذي يقدمه، واستصلاح النفس الإنسانية، والرحمة والمحبة والأخوة الإنسانية، والثورة على الدولة، والتي مثلت ثورة إصلاحية كبرى ضد عذابات البشرية آنذاك، وجعل العبيد والكادحين البؤساء من الفلاحين والعمال يرون في المسيحية منقذًاً لهم من تلك العذابات، ويمكن القول بأن الآراء التي نادى بها كل من “شيشرون” و “سنيكا” التي أشرنا إليها سابقاً، تعتبر الأساس الفكري الذي مهد لقبول الأفكار الأولى لآباء الكنيسة.
ظهرت المسيحية في الشرق في ” فلسطين”، وكان مؤسس هذه الديانة هو السيد المسيح ” عيسى بن مريم” (عليه السلام)، وانتشرت بشكل كبير في ولايات الإمبراطورية الرومانية الشرقية ومنها مصر وسوريا وآسيا الصغرى، ثم انتقلت إلى الغرب في إطار محيط الإمبراطورية الرومانية، ومستوطناتها بشمال أفريقيا الرومانية ومنها كنيسة قرطاج، وذلك رغم الإضطهادات التي كان يعلنها أباطرة روما ضد أتباع هذه الديانة.
رفض المسيحيون الأوائل الاحتكاك بالعلوم الدنيوية والوثنية، إلا أن الوضع أخذ بالتغير منذ النصف الثاني للقرن الثاني، فقد أدرك المسيحيون أن عودة يسوع المنتظرة ستأخذ وقتًا طويلًا وبالتالي فإن مكوثهم على الأرض سيطول، فأخذوا يحاولون تقديم إيمانهم بشكل عصري له المزيد من النظام والعقلانية، مستخدمين صفات ثقافة عصرهم، وتوالى إنضمام الشخصيات المثقفة لصفوف المسيحية، ومع نهاية القرن الثاني انضمت المسيحية إلى الحضارة الهيلينية التي اتاحت لها انطلاقة جديدة مع بداية القرن الثالث، أما على الصعيد الاجتماعي، فقد طور المسيحيون نظامًا اجتماعيًا فعالاً على ضوء الإنجيل، وعلى عكس الوثنيين فإن المسيحيين كانوا يعتنون بمرضاهم خلال فترات انتشار الأوبئة، وباء انطوان (165ـ180 ب.م)، وباء كپريانوس (251ـ270 ب.م)، ووباء جوستينيان (541ـ542 ب.م). وعرفت تلك الفترات انتشارًا كبيرًا للمسيحية، وكان المسيحيون يهتمون أيضا بالمرضى من غير المسيحيين، إلى جانب عنايتهم بالمعاقين والعجزة، فضلاً عن التشديد على أهمية إخلاص الذكور في الزواج ووحدانية هذا الزواج، ما خلق نوعًا من العائلة المستقرة التي افتقدها المجتمع الروماني، مما شجع الناس على اعتناق الدين الجديد، خاصة خلال الأوقات العصيبة.
ولأن المسيحية ظهرت في الظروف التاريخية العصيبة التي أشرنا إليها، ولأن الحرية ظلت من أعلى وأسمى الموضعات التي شغلت المفكرين والمصلحين على مر التاريخ، لذا كان موضوع الحرية محور الديانة المسيحية، لأهميتها الكبرى للإنسان وللحياة ككل والعالم كله في هذا الزمن، وولد مفهوم إيماني مسيحي للحرية “إن المسيح قد حررنا لنكون أحرارا، فإثبتوا إذًاً ولا تعودوا إلى نير العبودية …. إنكم أيها الإخوة قد دعيتم إلى الحرية، على أن لا تجعلوا هذه الحرية سبيلًا لإرضاء الجسد، بل عليكم أن يصير بالمحبة بعضكم عبيداً لبعض، لإن تمام الشريعة كلها في هذه الوصية (أحبب قريبك حبك لنفسك)”، وإذا كانت الحرية تعني أن يعيش الإنسان ويعمل دون ضغط أو جبر سواء جاء من الله نفسه أو الأفراد أو السلطات البشرية، أو العوامل الحياتية الأخرى في حياة الإنسان، أي بمعنى أن يتمتع الإنسان بحرية القرار والمسؤولية ويتمكن من العمل بها دون اكراه، فإن الحرية في المسيحية تعني الإنسان، فالإنسان بدون الحرية ليس إنسانا، الإنسان الذي يعيش إنسانيته، أي يعيش كل المبادئ والقيم والمقومات التي تجعله يصبح إنسانًا، عندما يعيش كل هذه وسط وضعه وعصره وعالمه والذي يتعرض فيه الإنسان إلى مختلف أنواع الضغوطات والاخطار التي تهدد حرية قراره الشخصي، اذا عاش وسط هذه كلها مبادئه وقيمه ومقومات إنسانيته فإنه إنسان حر، لإن الحرية هي الوعي بالإنسانية، الوعي التام لما يبني الإنسان ولما يهدم الإنسان، واختيار الشيء البناء، فليست الحرية هي التصرف كيفما نريد بل هي معرفة ما نريد، هي اختيار ما نريد لنا كأناس، هي البحث عن ما يعطي معنى لما نعيشه ومعرفة كيف نعيش، أي البحث ومعرفة الحق، الحقيقة، يقول يسوع “ان الحق يحرركم”، بمعنى أن الحقيقة أو الحق هو علامة مميزة لصورة الله في الإنسان، أي أن الإنسان يحقق صورة الله فيه بالحق، الحق المعاش هو تصوير أو تجسيد للإنسان في قمة معناه كإنسان، الإنسان يحقق ذاته بالحق، أي يصبح إنسانا بالحق لأن من صميم تكوينه أن يعيش الحق ليصبح ما هو مصمم له، اذن عمل الشر هو ضد الإنسان، ضد الحق، فعمل الشر بحرية هو نقيض الحرية بل على العكس هو عبودية، لانه يجعل الإنسان لا إنسان “كل من يرتكب الخطيئة يكون عبدًا للخطيئة” يو 8: 33، لكن الحرية الحقيقية تكون بمعاداة الشر حتى لو كان فيه متعة لانه يجب البحث عن الشيء الدائم والثابت الذي لا يزول فيه المعنى والقيمة، ولهذا يجب أن نكون أكثر أحرارًا، والحرية تعني أعمال الإنسان التي يتوجه بها بإرادته نحو هدف حياته الصالح والصحيح، وهي تعني أيضا الانفتاح نحو الخارج وليس الانكماش على النفس، وارتبطت الحرية عند المسيحيين الأوائل بالشعور بالمسؤولية، أي كي نعيش أحرارًا يجب أن تكون لنا مبادئ صالحة، لأن المبادئ المتأتية من الحق والحقيقة تجعل الانسان مدركًا لما يعيشه وفاهمًا معنى مسيرته ورسالته في الحياة، ولكن إيمانهم في المرحلة الأولى من المسيحية بأنهم يملكون الحقيقة، وأن الآخرين تنقصهم الحقيقة، فيحاولون فرض تلك الحقيقه عليهم ويصبحون بذلك منتهكين لحرية الآخرين، مما تسبب في نتائج كارثية بعدما أصبحت المسيحية سلطة دنيوية في العصور الوسطى، وهو ما سنتطرق إليه لاحقاً.
مثلت الأفكار الأولى للمسيحية ثورة إصلاحية كبرى ضد الاستغلال والتفاوت الطبقي الحاد السائد في العالم الروماني آنذاك، ورغم أن المسيحية كانت حتى بداية القرن الثاني عبارة عن جماعات متفرقة صغيرة على هامش المجتمع ضمن الإمبراطورية الرومانية، إلا إنها كانت مصدر إزعاج لأباطرة وكهنة وصفوة المجتمع الروماني، بسبب قوة إيمان هذه الجماعات، ونبذها للثقافة و الطقوس والاحتفالات والتقاليد الرومانية الوثنية المتعارف عليها، وتغلغل أفكارهم بشدة بين الطبقات المستضعفة والكادحة، ورفضهم عبادة الأباطرة، بالإضافة إلى تجنبهم للخدمة العامة والخدمة العسكرية، وتخوف السلطات الرومانية من انتشار المسيحية في الأراضي الخاضعة للدولة الفارسية، العدوة التقليدية للرومان، ووقوفهم إلى جانب الفرس في حروبهم مع الرومان، لذا واجه المسيحيون اضطهادات شتى من قبل الإمبراطورية الرومانية، وكان أول شهداء المسيحية هو السيد المسيح نفسه، الذي “صلب” بأمر من الحاكم الروماني وبدسيسة من اليهود في عهد الإمبراطور “كلود”، وفي عام 64م إتهم الإمبراطور الروماني المسيحيين بالتسبب في حريق روما الكبير، مما ضاعف من تعرض المسحيين لشتى الاضطهادت، وتم طردهم من روما، وبحلول القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد، بدأ المجتمع المسيحي في النمو وزادت شهرته بشكل كبير، وأصبح عدد من أباطرة الرومان يضطهدون العقيدة المسيحية بشكل مباشر، وكان عهد الإمبراطور ديوكلتيانوس أكثر فترات اضطهاد المسيحيين شدة، كما أمر بتدمير الكتب المقدسة المسيحية وأماكن العبادة، ومنع المسيحيين من التجمع للعبادة، ويعد اضطهاد دومتيانوس الذي استمر سبعة وثلاثين عامًا من أشهر هذه الاضطهادات، واتخذت بداية هذا الاضطهاد أصل التقويم المعروف باسم التقويم القبطي أو المصري، وحسب مراجع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فقد قتل مئات الآلاف خلال هذا الاضطهاد، لكن الأمور أخذت بالتحسن مع منشور غاليريوس التسامحي، وخطوات الإمبراطور قسطنطين التي توجت بمرسوم ميلانو سنة 312م والذي اعترف بالمسيحية دينًا من أديان الامبراطورية.
إذن أنهى مرسوم ميلانو الشهير عام 312م للإمبراطور قسطنطين مرحلة الاضطهادات للمسحيين، والذي نص على أمرين هامين ، الأمر الأول هو حرية المعتقد “لكل شخص الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده أو مع الجماعة، وأمام الملأ أو على حدة”.، والأمر الثاني هو اعلان الدولة المدنية اللادينية، التي تحترم معتقدات أبنائها وانتماءاتهم الدينية، وتكفل للجميع إمكانية ممارسة الشعائر والطقوس الخاصة بكل منهم، كما شكل اعتناقه للمسيحية نقطة تحول هامة في التاريخ، وبعد المرسوم المذكور سن قوانين وسياسات بما يتفق مع المبادئ المسيحية، قبل أن يعلن المسيحية دينًا للإمبراطورية ويترأس مجمع نيقية عام 325م، وفي عام 330 قام الإمبراطور قسطنطين بنقل العاصمة الرومانية من روما إلى القسطنطينية، والتي أصبحت مركز المسيحية الشرقية، ولكون المسيحية قد انفتحت على مختلف الحضارات والثقافات، فكان لا بد لها من الانقسام، ليس فقط من ناحية الطقوس إنما من ناحية العقائد أيضًا، نتيجة تنوع البيئات والمشارب لمعتنقيها، لقد وجدت كنيسة القرن الرابع نفسها تواجه سيلًا من هذه الحركات التي دعيت في لغة الكنيسة الرسمية “هرطقات”، وأغلب هذه الحركات كانت محدودة التأثير واضمحلت دون بذل جهد كبير، لكن بعضها الآخر شكل قوة كالآريوسية، ما دفع لعقد مجمع مسكوني في نيقية عام 325م برئاسة الإمبراطور قسطنطين الأول والأسقف أوسيوس القرطبي، وهو المجمع المسكوني الأول، أي أن أساقفة من جميع أنحاء العالم شاركوا به، وحكم المجمع بهرطقة آريوس وحرمه، بعد أن اعتقد بأن الابن كائن مخلوق غير مساوٍ للأب، ووضع المجمع قانون الإيمان الذي لا يزال مستعملاً حتى اليوم، وكذلك فقد أقر المجمع نظام البطريركيات الخمس الكبرى ونظّم قواعد تعاملها مع بعضها البعض، وفي أعقاب المجمع أخذت الأديان الوثنية بالتقهقر والتراجع أمام المسيحية، وقد طبعت تلك المرحلة بطابع دموي من الحروب الأهلية والانقلابات خصوصًا في الإمبراطورية الرومانية الغربية، وأدى انعدام الأمن إلى انتشار الاضطهادات الدينية، إذ مارست المسيحية الاضطهاد تجاه أصحاب الديانات الوثنية ويمكن الأخذ بتجربة البطريرك أثناسيوس الإسكندري في مصر مثالاً على ذلك.
وخلال عهد قسطنطين، كان المسيحيون لا يشكلون سوى خمس ساكنة الجزء الغربي من الإمبراطورية، لكنهم كانوا يمثلون نصف ساكنة المقاطعات الشرقية، وقد يكون هذا أحد الأسباب التي دفعت بقسطنطين إلى تغيير عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى مدينة جديدة قام هو بإنشائها تسمى “القسطنطينية”، وفي عاصمته الجديدة أصبح بإمكانه أن يحيط نفسه بساكنة مسيحية وفية، كما أن الدفاع عن المدينة كان سهلًا، حيث أنها محاطة بالبحر من ثلاث جهات وبالجبال من الجهة الرابعة، لكن الوثنيين كانوا لا يزالون أكثر عددا و تأثيرا في الإمبراطورية الرومانية كي يتمكن قسطنطين من تدمير معابدهم على نطاق واسع، لكنه رغم ذلك بدأ في هدم عدد من المعابد الوثنية في الأجزاء الشرقية من الإمبراطورية والتي كانت تعتبر مختلفة أو منافسة للمعتقدات المسيحية (أي تلك الخاصة بأفروديت، آلهة الحب لدى اليونان، وأسكليبيوس إله الطب لدى اليونان)، وتم تدمير معظم مجمع المعبد وأوراكل أبولو في ديديم من طرف قسطنطين، لكن ذلك كان على ما يبدو بدافع الانتقام، حيث أن الكهنة هناك كانوا يشجعون على اضطهاد المسيحيين في عهد ديوكلتيانوس، بعد عهد قسطنطين الأول، كان معظم الأباطرة الرومان اللاحقون مسيحيين، باستثناء الإمبراطور جوليان المرتد، الذي حاول أن يعيد الديانات الوثنية التقليدية للإمبراطورية، لكن فترة حكمه لم تتجاوز سنتين، وسيحدد مصير الوثنيين أخيرا عند حكم ثيودوسيوس الأول ( حكم من 379 إلى 392) والذي حرم كل الاحتفالات الدينية الوثنية كما أمر بهدم جميع معابدها عبر كل الإمبراطورية، وقام أيضاً بمنع الألعاب الأولمبية والتي كانت تعتبر آنذاك احتفالات غير مسيحية، ومع أن الوثنية قد تم تحريمها بشكل قانوني، فلم يكن من السهل القضاء على أكثر من ألف عام من التقاليد الدينية الوثنية، لذا استمر أباطرة الرومان في إصدار قوانين جديدة لمنع الوثنية طيلة القرن الخامس للميلاد.
بدأت هذه الإمبراطورية بعد ذلك تضعف شيئًا فشيئًا وقد بدا ذلك واضحًا إبتداءًا من القرن الثالث للميلاد، عندما انعدم النظام وتحكمت القوات العسكرية في عزل الأباطرة وإقامة غيرهم، ثم بدأت الفرق الإمبراطورية في مختلف الولايات تتحكم في اختيار قادتها دون الرجوع إلى الإمبراطور، وأصبح النظام استبداديًا يعتمد على الجيش في تنفيذ إرادة الإمبراطور والضغط على الأهالي الذين بدءوا يتبرمون من الضرائب التي تفرض على الأرض والتي تحرر منها الأغنياء، وبذلك ازداد الفقراء فقرًا والأغنياء غنى، وتناقصت الطبقة الوسطى بشكل سريع، وظهرت الحروب الأهلية على نطاق واسع، أما في الخارج فقد زاد ضغط الجرمان، كما تضاعف الخطر الفارسي على الولايات الآسيوية، وفي أواخر القرن الثالث ظهرت بكل وضوح العوامل التي أدت إلى اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، وبذلك أصبحت الإمبراطورية على شفا الهاوية، وبعد قسطنطين قسمت الإمبراطورية بين أبنائه الثلاث إلى أن تمكن أحدهم وهو قسطنطيوس من توحيدها مرة أخرى سنة 350م، ولكن سرعان ما بدأت الإمبراطورية بعد ذلك تتعرض لعوامل الانحلال السريع عندما اشتدت هجمات الأعداء على حدودها دون أن تفلح جهود الأباطرة في صد تلك الهجمات أو في وقف تيار الانحلال، وفي هذا الوقت أخذت الكنيسة تظهر على درجة كبيرة من القوة والثروة وأصبح مصير الإمبراطورية معلقًا بين الجرمان و رجال الكنيسة، ثم انقسمت الإمبراطورية إلى قسمين شرقي وغربي بين ابني (ثيودسيوس)، وهو مظهر من مظاهر التفكك والانحلال الذي لم تفلح جهود المصلحين من الأباطرة قبل ذلك إلا أن أخرت وقوعه، ولم يكد القرن الخامس ينتصف حتى كانت الإمبراطورية الرومانية في الغرب قد مزقت إربًا لضياع معظم أجزائها في أيدي القوى الخارجية من البرابرة وغيرهم، وتوالت الضربات على الإمبراطورية الغربية فسقطت سنة 476م، وأصبح الأمل الوحيد في الكنيسة التي التف حولها الإيطاليون طوال القرون التالية ورأوا فيها الزعيم والسند الكفيلين بحمايتهم، وقد قامت ست ممالك جرمانية في غرب أوروبا على أنقاض الإمبراطورية الرومانية، وهذه الممالك هي مملكة أودواكي في إيطاليا، والوندال في شمال إفريقيا، والقوط الغربيون من اللوار حتى جبل طارق، البرجنديون في وادي الرون ووادي الساؤون، ودولة الفرنجة على المز والراين الأدنى، ومملكة السويفي في الجهات المعروفة حاليًا بأمم البرتغال وغاليسيا، ومن أهم هذه الممالك الست دولة الفرنجة التي يعتبر قيامها أهم حدث في تاريخ الغزوات الجرمانية لأنها كانت حركة توسعية أكثر منها هجرة تتصرف بطابع الغزو، وقد احتفظ الفرنجة بأصولهم وحضارتهم وحيويتهم الجرمانية بينما ذابت بقية الشعوب الجرمانية في المحيط اللاتيني الذي استقرت فيه، وقد اعتنق الفرنجة الـمسيحية، والمهم في هذا هو أنهم اعتنقوها على عذابها الإثناسيوسي أو الغربي مخالفين في ذلك بقية الشعوب الجرمانية التي ظلت ممقوتة في الغرب بسبب أريوسيتها، فاكتسب الفرنجة بذلك عطف الكاثوليك وتأييدهم في جميع أرجاء غرب أوروبا وقام بذلك نوع من التعاون والارتباط والتآلف بين الفرنجة والنرمان وظهر ملوك الفرنجة في ثوب حماة المسيحية ورجالها في الغربة، مما مهد لإيجاد نوع من التحالف بين البابوية وملوك الفرنجة الأمر الذي كان له أبعد الأثر في مستقبل أوروبا في “العصور الوسطى”, وهو موضوع مقالنا القادم.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك