الخميس - الموافق 13 نوفمبر 2025م

الثورة والحرية… الجزء العاشر “تطور مفهوم الحرية – 9”

٢٠١٥٠٩١٧_٠٧٥٢٣٣

(9) عصر النهضة الأوروبية
ألقينا الضوء سابقًا على بريق شعار الحرية إبان الثورة المصرية (25 ـ 30) في مقال منفصل، ثم تطرقنا إلى الجذور التاريخية للحرية في ثمان مقالات منفصلة، عن ولادة مصطلح الحرية تاريخيًا، وتطور مفهوم الحرية في إطار تطور الحضارة الإغريقية باعتبارها أحد أهم روافد التفكير العقلاني الحر، والحضارة الرومانية باعتبارها الجسر التاريخي والحضاري الذي انتقلت منه أوربا إلى مستنقعات العصور الوسطى، والمفهوم الإيماني للحرية في إطار الديانة المسيحية في طورها الأول، وأوضاع الحريات في كل من العصور الوسطى الأوروبية، والحضارة الإسلامية، والحضارة المصرية القديمة، والعصور الوسطى المصرية، ومقالتي هذه لإلقاء الضوء على أوضاع الحريات خلال “عصر النهضة الأوروبية”، باعتبارها المرحلة المبكرة للعصر الحديث.
يطلق مصطلح عصر النهضة الأوروبية على فترة الانتقال من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، خلال القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر الميلادية، والتي تميزت بتغييرات كبرى في الفنون والآداب والفلسفة والموسيقى والسياسة والعلوم والدين، إضافة إلى جوانب التساؤلات الفكرية، والتي كانت إنعكاسًا لتوجه اقتصادي عام للتخلي عن النظام الإقطاعي الذي انتهى دوره تاريخيًا، والإتجاه للرأسمالية التي ولدت من رحم النظام الإقطاعي، وذلك بعد ظهور المدن على تخوم الإقطاعيات، وتكون طبقة اجتماعية جديدة وهي الطبقة الوسطى، والتي تملك فكرًا جديدًا يعبر عن الطبقات الوليدة التي أوجدتها الرأسمالية في مراحلها الأولى، وتمتلك وقت فراغ كافي من أجل الفنون والتفكر، وتنازع الأرسطقراطية الإقطاعية على السيادة على المجتمع الرأسمالي الجديد، ويؤرخ لهذه الحقبة تقديريًا بسقوط القسطنطينية عام 1453م، حيث نزح العلماء إلى إيطاليا حاملين معهم تراث اليونان والرومان القديم، الذي انبهرت به الطبقة الجديدة وارتأت الارتكاز عليه لبناء إيدولوجيتها الجديدة البرجوازية، في مواجهة الإيدولوجية الكنسية والإقطاعية المتخلفة والغيبية والتي لم تعد تناسب العصر الجديد، ويمكن النظر إلى عصر النهضة على أنه محاولة من قبل المفكرين لدراسة وتطوير الجانب العلماني والدنيوي، من خلال إحياء بعض أفكار الحضارتين اليونانية والرومانية القديمة، بالإضافة إلى إيجاد مناهج فكرية جديدة ومبتكرة، فقد بدأت النهضة الأوروبية في إيطاليا التي كانت رائدة في إنشاء المدن التجارية الأولى في أوروبا، ثم انتشرت إلى بقية أوروبا في القرن السادس عشر.
تميزت العصور الوسطى الأوروبية كما أسلفنا بالنظام الإقطاعي، فقد كان المجتمع يتكون من طبقتين أساسيتين، طبقة إقطاعيين يتمتعون بكل شيء ويمتلكون الأرض بما عليها من إنسان وحيوان، ويحكمون إقطاعياتهم بمنطق إرادتهم، وطبقة فلاحين يعتبرون أرقاءً للأرض، ولا يتمتعون بأي حقوق أو حريات، وكانت الأرض عماد الثروة، وانعدم بذلك وجود الطبقة الوسطى التي تعتبر عماد الحياة، أو كانت قلة محدودة الأثر في البلاد، وتمتد جذور عصر النهضة الأولى إلى القرن الثاني عشر الميلادي في رحم النظام الإقطاعي، حيث ظهر نشاط ملحوظ في الحياة العلمية، ولو أن هذا الإهتمام كان محصورًا بين جدران الكنائس والأديرة، ورغم ظلامية أفكارها طيلة العصور الوسطى، كان لها الفضل في حفظ التراث القديم وصيانته وتسليم هذا الثراث الضخم لعصر النهضة، ففي القرن الثاني عشر حدث إتصال بين حضارة الشرق والغرب في حقبة الترجمة، حيث ترجمت علوم اليونان عن العرب، وتأثر المجتمع الغربي بالفلسفة اليونانية القديمة، ولكنهم في هذه الفترة كانوا يدرسوا العلوم كما وردت دون إثباتها علميًا، وهذا هو الفرق بين العقليتين، عقلية العصور الوسطى وعقلية العصور الحديثة، فمعاصرو العصور الوسطى كانوا يأخذوا العلوم على علاتها وشعارهم في ذلك “اعتقد لأفهم”، أما عندما أشرفت العصور الوسطى على الانتهاء، وانبثق عصر النهضة، سادت الفكرة التي تقول “لا يجوز الاعتقاد في شيء قبل فهمه”، وعلى ذلك بدأت العقول تتحرر، وإتجه الناس إلى نقد ما كان شائعًا في العصور الوسطى حتى في الدين نفسه، فقد وجد من ينتقد الكنيسة، ونمت تلك الروح النقدية خلال عصر النهضة ونتج عنها حركة الإصلاح الديني البروتستانتي، كذلك كان من مميزات أواخر العصور الوسطى ظهور الجامعات وما تبع ذلك من انتشار العلم وتعميق الثقافة، وشجعها الباباوات الذين أصدروا قرارات بإنشائها ومدوها بالمال والتسهيلات، وأنشئت كليات لدراسة العلوم الإلهية ومختلف الفنون والعلوم الإنسانية والقانونية، ولكن ظل الطابع الديني قويًا في هذه الدراسات.
تعددت الروافد التي نهل منها رواد عصر النهضة كافة العلوم العلمية والإنسانية، وكان للحضارة العربية والإسلامية نصيبًا وافرًا من هذه الروافد، فتأثر كبار الشعراء في أوربا في القرن الرابع عشر الميلادي بالشعر العربي ومن هؤلاء الشعراء “دانتي” “وبتراك”، ونقل الأوروبيون فن القصة العربية التي تميزت بأخبار الفروسية وفن المقامات، كما 11111111حفظ العرب تراث الفلسفة اليونانية من الضياع، فلم يكتفي العرب بما ترجموه ولكنهم شرحوا مؤلفات “أرسطو” كما فعل “ابن رشد” الذي شرح مؤلفات “أرسطو” حتى أطلقوا عليه الشارح العظيم، وتأثر به الفيلسوف الألماني “كانت”، وترجم الأوروبيون كتب العلماء العرب إلى اللاتينية، فترجموا كتب “ابن سينا” و “الرازي” في الطب، وكتب “ابن البيطار” في الصيدلة، وكتب “جابر بن حيان” في الفيزياء، وترجموا كتاب المناظر “للحسن ابن الهيثم” الذي ظل مرجع الأوروبيون طوال العصور الوسطى، وكانت أبحاث “البيروني” و “ابن سينا” عاملًا هامًا في توصل “نيوتن” لقانون الجاذبية، ونقل الأوروبيون الجبر عن العرب وترجموا كتاب “الخوارزمي” في حساب الجبر والمقابلة، ونقل “الشريف الإدريسي” علم الجغرافيا إلى الأوروبيين كما نقل إليهم البوصلة وعلم الأوربيون كيفية استخدامها، وأخذ الأوربيون الموسيقى عن العرب خلال الحروب الصليبية.
وتعددت معابر الحضارة العربية والإسلامية إلى أوروبا، مثل القوافل التجارية حيث كان العرب يحملوا التجارة والحضارة من الشرق المتحضر إلى الغرب المتخلف آنذاك، والحروب الصليبية التي لم تكن مجرد لقاء بين قوتين عسكريتين بل لقاء بين حياتين وفكرتين حياة التقدم في الشرق الإسلامي وحياة التخلف في الغرب الأوروبي، كما كانت الأندلس أهم معابر الحضارة الإسلامية إلى أوربا وكان الطلاب يأتوا إليها لينهلوا من علومها ويعودوا إلى بلادهم حاملين مظاهر التقدم الإسلامي، وفي صقلية حرص العرب على إنشاء المدارس والمعاهد العلمية وتقدمت الآداب والفنون والعمارة وكانت صقلية مركزًا لنشر الثقافة والحضارة الإسلامية في إيطاليا وأوربا.
كان لظهور المدن الأوروبية في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي أثره في حياة المجتمع الأوروبي، وقد نشأت المدن كنتيجة لنمو التجارة والصناعة، بعد أن تخلص عدد كبير من الناس من سيطرة أمراء الإقطاع، وقد كان لظهور المدن أثره في إضعاف النظام الإقطاعي الزراعي، ففي إيطاليا فإن موقع المدن الإيطالية مثل البندقية والمراكز التجارية الأخرى جعلها في مفترق طرق ثقافي، حيث جلب التجار معهم الأفكار من أصقاع العالم، وبالتحديد من المشرق العربي، وكانت البندقية بوابة أوروبا التجارية، ومنتجة للزجاج الجيد، بينما كانت فلورنسا عاصمة لصناعة النسيج، وكانت هذه الثروات المتدفقة إلى إيطاليا بسبب هذه الأعمال التجارية تعني أن بالإمكان تعميد المشاريع الفنية العامة أو الخاصة، وأيضًا أن بإمكان الأفراد تخصيص أوقات فراغ أكبر للدراسة، واستطاعت بعض المدن، ولا سيما المدن الإيطالية والألمانية، أن تنجح في تدعيم وجودها حتى تطورت وأصبحت جمهوريات حرة منفصلة عن المدن الإقطاعية، التي كانت جزءًا منها، وارتبط بهذا أفكار معادية للاستبداد، واستطاعت جمهوريات المدن الإيطالية تكريس مفاهيم الحرية في نفس الوقت الذي كانت تكبح فيه جماح الإمبراطورية الكنيسة، كما لوحظ أيضًا الأزدهار الملحوظ في الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية التي شهدتها المدن الإيطالية، وعلى الرغم من إنها لم تكن تشبه الديمقراطيات الحديثة إلا بشكل طفيف، إلا أنها كانت ولايات متجاوبة وتحتوي على بعض مزايا الديمقراطية، مع أشكال من المشاركة في الحكم والإيمان بالحرية الفردية، وأفضت الحرية السياسية النسبية المتوفرة إلى تقدم أكاديمي وفني، وفي بعض مدن دول أخرى كفرنسا وإنجلترا ساعدت الطبقة الوسطى الملك على تقوية نفوذه ضد نبلاء الإقطاع، فقد رأى سكان تلك المدن أن من مصلحتهم تدعيم سلطان الملك، لأن قيام حكومة مركزية قوية على رأسها الملك أدعى إلى استتباب أمن الدولة واستقرارها، وأصلح لهم من التقسيم الإقطاعي الذي يقف حجر عثرة في سبيل حرية التجارة ويضعف مكاسبها، وهكذا ساعدت المدن في بعض الدول الأوروبية على تدعيم سلطة الملكية المطلق وعلى الأخص أوروبا الغربية، هذا إلى جانب أن المدن أصبحت مراكز للثقافة والإشعاع الفكري حيث تجمع المفكرون والمثقفون في مكان واحد كبير.
عندما بدأ عصر النهضة أخذت الأوضاع في بعض البلاد الأوروبية تأخذ أشكالًا اقتصاديةً متغيرةً، ففي فرنسا مثلًا، حيث كان النظام الإقطاعي سائدًا، كان الملك نفسه يحكم إقطاعًا في باريس ولا يتعداه إلى بقية الإقطاعيات على الرغم من اعتراف الأمراء به وبأسرته، إلى أن حدث تطور أضعف قدرة الأمراء بعد أن انهكت قواهم الحروب المتتالية، مما أدى إلى انحلال الإقطاع، بسبب موت عدد كبير من أمراء الإقطاع في الحروب الصليبية، وانصراف بعض الإقطاعيين إلى ممارسة التجارة، فتحرر الفلاحون والأقنان ولم يتمكن من تبقى من الإقطاعيين من مقاومة التغييرات التي حصلت نتيجة النهضة، وعندئذ بدأ بعض الملوك يحطمون نفوزهم ويبسطون سيطرتهم خارج باريس، فقام صراع طويل بين الملكية والأمراء، انتهى بهدم النظم الإقطاعية وتحرر الفلاحين من رق الأرض، ومُنحوا حق الملكية فكان التحول الإقتصادي على أكبر جانب من الأهمية، وقد أعان الملكية في النصر الذي حازته على الأمراء أن الناس بدأوا يشعرون بأن الأرض لم تعد المصدر الأساسي للثروة، فقد أينعت التجارة وراجت الصناعة، وظهرت على أثر ذلك طبقة وسطى تشتغل بالتجارة، ونالها ثراء دفعها إلى النفوذ الذي حرمت منه في العصور السابقة، وعلى الأخص عندما اتسعت العلاقات التجارية بين أوروبا والعالم الجديد بعد حركة الكشوف الجغرافية وانتعاش التجارة وازدهار المدن التجارية التي شهدت رخاءً اقتصاديًا ساعد على ظهور طبقة غنية استأثرت بالسلطة وتحررت من السيادة الإقطاعية فنافستها واستقلت عنها معززة هذا الاستقلال بتبادل السفراء والقناصل مع الدول التي ترتبط معها بعلاقات تجارية، مما جعلها تشجع حركة النهضة وتتنافس فيما بينها على رعاية فنانيها وأدبائها وعلمائها، ومن جهة أخرى ازدادت العلاقات الأوروبية بالمشرق الغني بغلاته ومنتجاته، وانتعشت أحوال أوروبا الاقتصادية بانتعاش تلك الطبقة الجديدة التي كان من مصلحتها تدعيم الملكيات، ليسود الاستقرار والأمن حتى تستطيع ممارسة نشاطها ومضاعفة ثرواتها، وبذلك ارتبطت مصلحة الملوك بمصلحة الطبقة الوسطى، في الصراع ضد الأمراء، ورأت الملكية أن من مصلحتها الاستعانة بمواهب رجال الطبقة الوسطى والانتفاع بأموالهم، فعين الملوك منهم أعضاءً في البرلمان وحكامًا في الأقاليم وقضاةً شرعيين، وقد غيرت تلك الظروف نظرة الملوك في الحكم، فبعد أن كانوا يحكموا معتمدين على الجيوش التي يجمعها الأمراء في زمن الحرب، عمدوا إلى إنشاء الجيوش الثابتة وقت الحرب والسلم، من أجل صد أطماع الأمراء والعدو الأجنبي، والقيام بالغزوات والفتوحات التي يفكر الملوك في القيام بها، وجاء اختراع البارود والمفرقعات في نهاية العصور الوسطى أكبر معين للملوك ضد فروسية العصور الوسطى فساعد ذلك على دك معاقل الأمراء الإقطاعيين وتحطيم حصونهم.
استهوت الدراسات الإغريقية واللاتينية القديمة عقول الكثيرين من الأوروبيين في عصر النهضة المبكر، وقد وجدوا معظم مجلداتهم في الكنائس والأديرة، فعكفوا على دراستها، وترجمتها إلى اللغات المحلية، مما فتح نوافذ المعرفة أمام غالبية الشعب للمرة الأولى، وفي تناقض شديد مع العصور الوسطى، عندما كان الباحثون اللاتينيون يركزوا بشكل كامل على دراسة أعمال العلوم الطبيعية والفلسفة والرياضيات عند العرب واليونانيين، كان الباحثون في عصر النهضة مهتمين بدراسة واستعادة النصوص الأدبية والتاريخية والخطابية لدى اللاتينيين واليونانيين، وبدأ ذلك بمرحلة لاتينية في القرن الرابع عشر، وذلك عندما قام علماء من عصر النهضة مثل “بترارك” 1304- 1374م، و “كولوتشو سالوتاني” 1331 – 1406م، و “نيكولو دي ينكولي” 1364 ـ 1437م، و “بوجيو براشيو ليني” 1380ـ 1459م، قاموا بتمشيط مكتبات أوروبا بحثًا عن أعمال مؤلفين لاتينيين أمثال “شيشرون” و “تيتوس ليفيوس” و “سنيكا”، وفي أوائل القرن الخامس عشر تم استعادة الجزء الأكبر من الأدب اللاتيني، وفي المرحلة اليونانية من عصر النهضة كانت الحركة الإنسانية هي القائمة، كما رجع العلماء في أوروبا الغربية إلى استعادة النصوص اليونانية الأدبية والتاريخية والخطابية واللاهوتية القديمة، على العكس من الكتب اللاتينية التي حافظت على أصالتها ودُرست كما هي في الغرب الأوروبي منذ القدم، واُعتبر جلب الإنتاج الثقافي الإغريقي كاملًا إلى غرب أوروبا للمرة الأولى منذ العصور القديمة، من أكبر إنجازات رواد عصر النهضة.
ظهرت في عصر النهضة روح جديدة هي النزوع إلى “التفكير الحر”، أو ما أطلق عليه بكلمة (الفردية)، أي انفصال الفرد عن التقيد بما لا يستسيغه أو يعتقده في داخلية نفسه، وظهرت تلك الروح في التفكير الديني، وكان من نتيجتها ظهور حركة الاصلاح، ومحاولة المصلحين تغيير ما يرونه ضد العقيدة الحقة والدين الصحيح، وكانت الفردية السمة الأساسية الأولى لعصر النهضة، كرد فعل لفكر القرون الوسطى، وتحرير الفرد من الانضباط الكاثوليكي، كما كانت أحد مكونات “الليبرالية الأوروبية” فيما بعد، المكونة من (الفردية، والحرية، والعقلانية)، وارتبطت الفردية فيما بعد ارتباطًا وثيقًا بالحرية، حيث أصبحت الفردية تعني استقلال الفرد وحريته، واستقلال الفرد هنا بمعنى استقلال العقل بادراك المصالح والمنافع دون الحاجة إلى قوى خارجية، على أن ذلك لم يعني أن الفرد كان حرًا في عصر النهضة، بل أنه كان مقيدًا في بلده برأي حكومته، ولكن كان باستطاعته أن يهاجر إلى بلاد أخرى، كما كان لتشجيع بعض الحكومات الأوروبية للغات القومية وإقبال بعض الكتاب على التأليف بها أثر كبير في نشر الثقافة بين طبقات الشعب، وهي اللغات الأم للغات شعوب أوروبا الحالية مثل اللغات الفرنسية والإنجليزية وغيرها، حيث كانت اللغة اللاتينية قبل ذلك هي لغة العلم والثقافة ومحصورة في رجال الدين، وساعدت تلك العوامل إلى تكون الرأي العام، وظهور الروح القومية، وقيام الدول الأوروبية الحديثة عبر تطور أساليب الحكم، وقد ساعدهم في ذلك الأفكار الجديدة مثل أفكار المفكرين “ميكيافيلي” الإيطالي، و “جون روان” الفرنسي و “هوبس” الإنجليزي، وكذلك تدفق الثروات الناتجة عن الكشوفات الجغرافية الكبرى، واستغلال مناجم الذهب والفضة للقارة الأمريكية، خاصة من طرف إسبانيا والبرتغال في البداية.
بالمجمل يمكن النظر إلى عصر النهضة على أنه محاولة من قبل المفكرين لدراسة وتطوير الجانب العلماني والدنيوي، من خلال إحياء بعض الأفكار القديمة بالإضافة إلى إيجاد مناهج فكرية جديدة مبتكرة، وفي مقدمتها “المنهج الإنساني”، فالمذهب الإنساني لم يكن فلسفة بل كان أسلوبًا للتعلم، وعلى النقيض لما كان عليه “مذهب المدرسة” في العصور الوسطى والذي ركز على حل التناقضات بين الكتاب، فالإنسانيون يدرسون النصوص القديمة من أصولها، ويُقيمون نتائجها عن طريق مزيج من المنطق والبراهين التجريبية في مجالات “العلوم الإنسانية”، والذي يشمل دراسة خمسة علوم إنسانية وهي الشعر والنحو والتاريخ والفلسفة الأخلاقية وفن الخطابة، ورغم أن المؤرخين عانوا من أجل وضع تعريف دقيق للحركة الإنسانية، إلا أن معظمهم استقر على تعريف وسطي وهو “الحركة المعنية باسترجاع وتفسير واستيعاب لغة وأدب الحضارتين الإغريقية والرومانية وقيمها وعلمها”، وأكد علماء المذهب الإنساني على عبقرية الإنسان وقدرة العقل البشري الفريدة والإنسانية، وقاموا بإعادة تشكيل المنظور الفكري حتى وقتنا المعاصر، كما فعل فلاسفة سياسيون أمثال “توماس مور” 1478- 1535م، وهو من أنصار المذهب الإنساني، وكان كاتب وسياسي وقانوني إنجليزي عارض الملك “هنري الثامن” مما تسبب في اعدامه واعتبر لذلك قديس وشهيد، ومن أشهر أعماله (يوتوبيا) التي انتشرت بالاتيني عام 1516م، وترجمت للإنجليزية للمرة الأولى عام 1551م، وفي كتابه وصف عالم مثالي يتسم بالاشتراكية والخلق والعلم والتسامح الديني، كما اتصفت كتابته بالدعوة للاصلاح الديني، وكتب فيلسوف عصر النهضة الإيطالي “بيكو ديلا ميراندولا” ما يعتبر غالبًا أنه بيان عصر النهضة، وهو الاستمرار والنشاط في الدفاع عن حرية التفكير، وخطاب في الكرامة الإنسانية، واشتهر “متيو بالمييري” 1406 ـ 1475م وهو إنساني آخر من إيطاليا وبالتحديد من مدينة فلورنسا، بأحد أهم أعماله وهو كتاب “في الحياة المدنية” والذي كان يناصر من خلاله فكرة المدينة الإنسانية، وقد خدمه في انتشار هذا الكتاب موهبته في صقل كتابه باللغة اللاتينية، واعتمد “بالمييري” فيما كتبه على المنظرين والفلاسفة الرومان وخاصة “كونتليان” و “شيشرون” وهم شبيهين جدًا “ببالمييري” الذي عاش حياة نشطة كمواطن ومسؤول فضلًا عن أنه منظر وفيلسوف، وشرح “بالمييري” في كتابه صفات المواطنين بشكل أخلاقي، وكيفية ضمان الدولة والمواطنين لوجود النزاهة في المناصب الحكومية والعامة، ومناظرة هامة حول الفرق بين ماهو مفيد عمليًا وبين ما هو صالح أخلاقيًا، كما اعتبر “بالمييري” من أهم حماة “الفردية”، ويؤمن أصحاب المذهب الإنساني بأنه من المهم الانتقال إلى ما بعد الحياة الدنيا بعقل وجسد سليم تمامًا، وبالإمكان إنجاز هذا الانتقال من خلال التربية والتعليم، وظل هدف المذهب الإنساني صناعة الرجل الكوني والذي يجمع في داخله التميز الفكري والبدني بحيث يكون قادرًا على العمل بنزاهة وفعالية في أي سياق، كما كان “مارتن لوثر” 1483 – 1546م، من أشهر رواد عصر النهضة، وهو راهب ألماني ومُطلق عصر الإصلاح في أوروبا، اعترض على صكوك الغفران، ونشر في عام 1517م رسالته الشهيرة المؤلفة من خمس وتسعين نقطة تتعلق أغلبها بلاهوت التحرير وسلطة البابا في الحل من “العقاب الزمني للخطيئة”، ورفض الرضوخ لطلب البابا “ليون العاشر” عام 1520م بالتراجع عن تلك النقاط، مما أدى إلى نفيه وإدانته مع كتاباته بوصفها مهرطقة كنسيًا وخارجة عن القوانين المرعية في الإمبراطورية، وتعتبر أبرز مقومات فكر لوثر اللاهوتي هي أن الحصول على الخلاص أو غفران الخطايا هو هدية مجانية ونعمة الله من خلال الإيمان بيسوع المسيح مخلصًا، وبالتالي ليس من شروط نيل الغفران القيام بأي عمل تكفيري أو صالح، وثانيًا رفض “السلطة التعليمية” في الكنيسة الكاثوليكية والتي تنيط بالبابا القول الفصل فيما يتعلق بتفسير الكتاب المقدس معتبرًا أن لكل إمرئ الحق في التفسير، وثالثًا أن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد للمعرفة المختصة بأمور الإيمان، وعارض رابعًا سلطة الكهنوت الخاص باعتبار أن جميع المسيحيين يتمتعون بدرجة الكهنوت المقدسة، وخامسًا سمح للقسس بالزواج، كما قدم لوثر أيضًا ترجمة خاصة به للكتاب المقدس بلغته المحلية بدلاً من اللغة اللاتينية التي كانت اللغة الوحيدة التي سمحت الكنيسة الرومانية باستخدامها لقراءة الكتاب المقدس، ما أثر بشكل كبير على الكنيسة وعلى الثقافة الألمانية عمومًا، وأثرت ترجمته لاحقًا على ترجمة الملك “جيمس” باللغة الإنجليزية للكتاب المقدس، ورغم أن جميع البروتستانت أو الإنجيليين في العالم يمكن ردهم إلى أفكار لوثر، إلا أن المتحلقين حول تراثه يطلق عليهم اسم “الكنيسة اللوثرية”، كما كان “نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي” من أهم رواد عصر النهضة، وولد وتوفي في فلورنسا، وكان مفكرًا وفيلسوفًا وسياسيًا إيطاليًا إبان عصر النهضة، وأصبح مكيافيلي الشخصية الرئيسية والمؤسس للتنظير السياسي الواقعي، والذي أصبحت فيما بعد عصب دراسات العلم السياسي، وأشهر كتبه على الإطلاق كتاب “الأمير”، ونُشر الكتاب بعد موته، وأيد فيه فكرة أن ماهو مفيد فهو ضروري، والتي كان عبارة عن صورة مبكرة للنفعية والواقعية السياسية، ولقد فُصلت نظريات مكيافيلي في القرن العشرين، ويتطور المجتمع عند مكيافيلي بأسباب طبيعية، فالقوى المحركة للتاريخ هي “المصلحة المادية” و”السلطة”، وقد لاحظ صراع المصالح بين جماهير الشعب والطبقات الحاكمة، وطالب مكيافيلي بخلق دولة وطنية حرة من الصراعات الإقطاعية القاتلة، وقادرة على قمع الاضطرابات الشعبية، وكان يعتبر من المسموح به استخدام كل الوسائل في الصراع السياسي، فمكيافيلي القائل “الغاية تبرر الوسيلة” برر القسوة والوحشية في صراع الحكام على السلطة، وكانت أهمية مكيافيلي التاريخية أنه كان واحدا من أوائل من رؤوا الدولة بعين واقعية وإنسانية واستنبطوا قوانينها من العقل والخبرة وليس من اللاهوت، ولقد ألف مكيافيلي العديد من “المطارحات” حول الحياة السياسية في الجمهورية الرومانية، فلورنسا، وعدة ولايات، والتي من خلالها برع في شرح وجهات نظر أخرى، ورغم أن الكثيرون يصفون التصرف الأناني الذي تهدف له الجماعات الربحية بالمكيافيلية، إلا أن الكثيرون يعتبرونه الشخصية المثالية لرجل عصر النهضة، وأنه يتستحوذ على صفات الذكاء المكيافيلي.
وبذلك يتضح لنا أن نشأة المدن التجارية على تخوم الإقطاعيات نهاية العصور الوسطى وخلال عصر النهضة، وتكون الطبقة الوسطى التجارية ثم الصناعية بشكل مستقل، وتعارض مصالحها مع النظام الإقطاعي السائد، وزيادة نفوذها بشكل مضطرد، بالتوازي مع اضمحلال نفوذ الأمراء الإقطاعيين والكنيسة، جعلها بديلًا موضوعيًا لنظام اقتصادي واجتماعي وسياسي جديد، و ندًا لقوة ونفوذ الملوك الأوربيون في الجمهوريات القومية الحديثة، وأدى هذا النفوذ المضطرد للطبقة الوسطى الوليدة إلى سيادة ايدولوجيتها البرجوازية باضطراد، وتراكم خبراتها وتراثها ومكاسبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ووضع البذور الأولى للحريات العامة والخاصة، التي أخذت بالتعاظم بشكل مضطرد بالتوازي مع تعاظم دور الطبقات الاجتماعية الجديدة والصاعدة، رغم بعض العثرات الكثيرة والمتعددة، والتي تم التغلب عليها بنضالات كبيرة ودموية في أحيان كثيرة، وهذا ما فشلت فيه النظم الاجتماعية التي اتسمت بجمود اقتصادي واجتماعي أعاق نشأة وتطور الطبقات الوسطى لديها ومنها بالطبع مصر وخاصة خلال حقبة الاحتلال التركي العثماني للعالم الإسلامي، وحصر دور الطبقة الوسطى في نطاق خدمة السلطة المركزية المستبدة في أغلب الأحوال، وبذلك لم تستطع استيعاب الاشكال الديمقراطية الحديثة، وتخلفت عن ركب الحضارة الحديثة، وما زالت تعاني حتى يومنا هذا من تخلف أنظمتها الاجتماعية وتبعات هذا التخلف، ولكن بسبب توافر الظروف الموضوعبة التي أشرنا إليها في أوروبا كان الاتجاه العام هو التقدم للأمام على كافة الأصعدة وخاصة في مجال الحريات بكافة أشكالها، مما أفضى إلى سيادة الايدولوجية البرجوازية الصاعدة، وتطورها إلى مراحل هامة وكبيرة على طريق بناء أوروبا الحديثة، فولد بعد عصر النهضة عصر الأنوار ثم العصر الحديث ثم عصر ما بعد الحداثة، ثم حقبة الردة الحضارية في عصر العولمة الجديد، وأخذ مفهوم الحرية أشكالًا متعددة ومتنوعة بتنوع تلك العصور التاريخية الهامة، وسوف نقوم بإلقاء الضوء عليهم تباعًا، ومقالنا القادم عن المرحلة الثانية للعصر الحديث وهي “عصر الأنوار”.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك