دار في خّلدي ذاتَ حينٍ من الدهر، هذا الطرح الشائق لكل مسلم، والشائك لكل غير مسلم، فبات دأبي شديداً وكدي صميماً على سبر غوره، لأستخلص العلة والحكمة، فأفند اللوثة والشبهة ، وكنت أسأل نفسي متعجباً لمّ لمْ يُفرد القرآن الكريم سورة باسم موسى كليم الله ؟ وعُدت أسأل نفسي ما الحكمة من عدم وجود سورة جامعة شاملة، تحمل اسم موسى أحد خمس أنبياء من أولي العزم ؟ وهو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن الكريم حقاً ، فذكر 136 مرة تصريحاً ، ثم كان السؤال المماثل على ذات التماهي، لمّ لمْ يُذكر عيسى روح الله وآخر أنبياء بني إسرائيل وأحد أولي العزم الخمسة على رأس سورة في القرآن أيضاً ؟
فإذا قِيسا موسى وعيسى عليهما السلام بأكثر الأنبياء والرسل ، فهما مقدمان على غيرهما في الفضل، وقد كانت رسالتيهما لبني إسرائيل توراة وإنجيلاً تتابعاً ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس)..
وإن كثيراً من الأنبياء لم يكلفوا برسالات سماوية، قد أحاطتهم سور القرآن رأساً وخُبراً، كنوح وهود ويُونس ويُوسُف وإبراهيم ، وكان نبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه، الوحيد الذي كُلف بالرسالة وشُرف اسمه على رأس سورة ( محمد ) …
ولما سُئل الإمام السيوطي عن سبب عدم وجود سورة باسم موسى وعيسى قال ( كاد القرآن أن يكون كله موسي )
وأبدأ بعون الله من حيث انتهى السيوطي، لقد نزل القرآن الكريم بحكمة بالغة الدقة، فنُحي ذكر موسى وعيسى عليهما السلام من أسماء السور القرآنية ابتداءً، للأسباب التالية ..
لو كان لموسى سورة باسمه في القرآن وكذلك لعيسى لوقع الوهم في نفوس الذين ألهوهما بأنهما آلهة، وأن العمل بما جاءوا به لصار واجباً، فاقتضت حكمة الله أن تخلو أسماء سور القرآن الكريم من اسمي موسى وعيسي، ..
كما أن من مقاصد الشريعة المحمدية الخاتمة، نسخ الرسالات السابقة، فأورد القرآن الكريم سورة باسم (محمد) ولم يورد لموسى وعيسي، وكذلك أورد القرآن الكريم سورة باسم القرآن وهي (الفرقان) ولم يورد سورة باسم التوراة ولا الإنجيل ، دلالة على أن القرآن ناسخ للتوراة والزبور والإنجيل، وأنه الكتاب الخاتم المعمم بالنزول والانتشار لسائر الإنس في الأرض…
تكلم القرآن الكريم عن معجزات موسى وعن فضله ومناقبه وشمائله كبشر نبي، وتناولت سور آل عمران ومريم والمائدة والصف، قصة عيسى بن مريم منذ حمل أمه به، مروراً بميلاده المبارك والمُعجز من غير أب، وصولاً لدعوته بني إسرائيل لعبادة الله ، امتداداً لرسالة موسى ، فهو مصدق لما بين يديه من التوراة، ومبشراً بنبي يأتي من بعده اسمه أحمد ، أي أكثر منه حمداً، أي أن رسالة محمد ناسخة لرسالة عيسى وبدورها ناسخة لرسالة موسى ، نهاية برفعه إلى السماء ، وقبل رفعه للسماء أنذر بني إسرائيل ألا يغلو فيه، لأنه بشر نبي،….
وبالحاصل الكلي فإن القرآن بكل قطعيه وظنيه، يؤكد على بشرية كل الأنبياء والرسل أكانوا على رؤوس السور أو في متونها، والتأكيد كذلك على نقل الإمامة الدينية من موسى لعيسى ثم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي نزل عليه القرآن الكريم الناسخ للتوراة والإنجيل ….

التعليقات