توقفت طويلا عند سطور كتبها الأديب المصرى الشامخ نجيب محفوظ فى مذكراته ، أوردتها الدكتورة “هالة مصطفى ” فى مقالها ” فى ثقافة الاختلاف ” بمجلة الديموقراطية التى ترأس تحريرها وعلقت عليها .
هذه السطور تكشف كيف تسعى العقلية السياسية المغلقة المتشككة فى قتل الكفاءات ودفن المواهب . تقول سطور المذكرات حرفيا على لسان نجيب محفوظ : ” أثناء نشر إحدى رواياتى مسلسلة فى الأهرام ، همس لى البعض أن قرارا صدر باعتقالى ثم تم الرجوع عنه ، وكانت زوجتى تشكو لى من وجود مراقبة مستمرة لها ، وربما لو كنت إنتبه أثناء سيرى فى الطريق لاكتشفت أننى مراقب ، ولكن الأفكار التى كانت تدور فى ذهنى وأنا أمشى كانت تشغلني عن مثل هذه الأمور . . إن كل المتاعب لا تذكر بجانب تلك التى حدثت بعد النكسة ، ولم تكن خاصة بى وحدى بل قاسى منها كل أبناء مصر ، وربما ما حمانى أن السلطة كانت واثقة من حسن نواياى ، وأننى أقصد من انتقاداتى صالح الوطن ، بدليل أن عبد الناصر تدخل لصالحى أكثر من مرة ، ولم يترك الأمر لانفعال الآخرين ” ثم يضيف ” إلا أننى حين أمسك بالقلم أنسى كل شىء ، خوفى ، مسؤلياتى ، اسرتى ، وأنسى حتى نفسى ، ثم ان انتقاداتى دائما موضوعية ولا تحيط بها أية شبهات ، كما ليس لدى شعور بالإثم ” .
إن الأديب الكبير استطاع فى هذه السطور القليلة أن يجسد ببراعة تلك العقلية التى قد تسود فى حقبة ما وفى لحظة زمنية ، فتشوه كل ما هو جميل وأصيل ، لقد ضاقت هذه العقلية المنغلقة المتشككة باتتقاداته التى تستهدف الصالح العام ، وتستهدف مصلحة الأمة ، وضيقت عليه ، وسعت إلى سجنه وأصدرت امرا باعتقاله لولا تذخل عبد الناصر الذى أحسن تقدير سلبية النتائج والآثار المترتبة على اعتقاله ، إن هذه العقلية عادت بمصر خطوات إلى الوراء وللأسف يعاد إنتاجها فى مصرعبر التاريخ ، وقد مضت غير مأسوف عليها وعلى تجربتها بتكميم الأفواه وكسر الأقلام واسكات الصوت الوطنى الناقد ، ذهبت فى النهاية هى والحقبة التى تحكمت فيها ، وبقى نجيب محفوظ رمزا وطنيا مضيئا تعتز به مصر وأجيالها المتعاقبة . ذهبت العقلية المنغلقة وبقى نجيب محفوظ قيمة تتجاوز حدود الرواية والأدب ليصبح رمزا للمثقف والاديب الحر ، وعنوانا للمبادىء الإنسانية التى لا تغيب عنها الشمس .

التعليقات