من الأمور التي طبعت في ذاكرتي بائع الغرابيل في سوق الأربعاء قديما في قريتنا اكياد – لم تنس ذاكرتي عمي مبروك مبيض النحاس في قريتنا قديما أو عمي حسانين بائع الغرابيل
كان حسانين بائع الغرابيل ضخم الجثة بشاربه الكث وصوته الغليظ المبحوح وعمامته الضخمة وثيابه القديمة الرثة يتجول في شوارع قريتنا وأزقتها… يجوب الأسواق ..ويخترق الأزقة الضيقة الخلفية المشمسة من زقاق الي زقاق ومن حارة لحارة وهو يحمل علي كتفيه وفي ذراعيه حمولة عالية من الغرابيل بعضها أطارات خشبية فارغة وأخري غرابيل جاهزة للبيع
يمر بائع الغرابيل من أمام منزلنا وصوته يعلو بالأهازيج التي تجري مجري الأمثال الشعبية يا مأمنا للرجال يا مأمنا للمية في الغربال بصوت غليظ مبحوح خالي من الطرب ومن النغم الذي يضفي علي الروح البهجة
وتعلو صيحاته التي تشبه الحداء للإبل في الصحراء
كانت جدتي تجلس في وسط البيت هي وأمي وأمامهما كمية من الغلة ( القمح ) يقومون بغربلتها لزوم الاستعداد ليوم الطحين حيث رمضان اقترب من الرحيل وعيد الفطر علي الأبواب واستعداد النسوة لعمل كعك العيد
وكانت أمي قد أرسلتني للتو للجيران لإحضار غربال لمساعدة جدتي في غربة الغلة لكني رجعت خالي الوفاض …مكسور الخاطر بعد أن كان الجيران أنفسهم مشغولين بالغربلة
فأقسمت جدتي علي شراء غربال جديد بعد أن رددت علي مسامع أمي والنسوة الحضور ( وما يوقفك علي باب الأندال إلا المنخل والغربال ) كانت أمي وجدتي والنسوة الحضور مراسم غربة الغلة استعدادا للطحين….. يدركون معني المثل ويتفهمون مقصد جدتي جيدا وما أن استكملت جدتي مثلها الشعبي حتي سمعنا صوت بائع الغرابيل…. خرجت اليه جدتي وهي الخبيرة في أنواع الغرابيل وشدتها…. انزل بائع الغرابيل الحمولة التي تعلو كتفيه والإطارات الخشبية التي تسور معصميه كأنها أساور كسري في قيمتها بالنسبة لجدتي وجلس علي الأرض متكئا علي حائط المصطبة يتصبب عرقه وتتساقط قطرات العرق من جبينه الأسمر كزخات المطر في ليل قارس البرودة
اختبرت جدتي شدة الغربال جيدا…. ورفضت الغربال السلك وأختارت غربالا آخر شدته من جلد الحمير
معللة أختيارها …. بأن الجلد أفضل وأحن علي حبة القمح من السلك سألته جدتي عن الثمن وهو يحملق بعينيه في وسط الدار حيث تحط أسراب الحمام التي كانت تقوم جدتي بتربيتها وبعض الطيور والعصافير تلتقط حبات القمح من أمام أمي وهي تهز غربالها بحركات دائرية بكل خفة ونشاط
اقتربت انا من بائع الغرابيل وهو يتبادل أطراف الحديث مع جدتي في مفاوضات البيع والشراء وعلي عتبة الباب تحط عصافير وتطير وتهب نسائم آتية من الشمال لايعكرها سوي رائحة عرق بائع الغرابيل التي جعلتني ارجع القهقري مرة اخري بعيدا عنه
الغرابيل مسندة علي حافة الجدار….متداخلة ومتعانقة
ارتبط الغربال بالعديد من الأمثال التي كانت تتبادلها جدتي وأمي وبعض النسوة من أقاربنا أذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر ( وما يوقفك علي باب الأندال إلا المنخل والغربال ……
.اللي ميشوفشي من الغربال يبقي أعمي……
اللي ملوش غرض يعجن يقعد ٦ أيام ينخل…….
يا مأمنة للرجال يا مأمنة للمية في الغربال ……
والله خايف أهزك ياغربالي يقع كل عزيز وغالي
الغربال الجديد له شدة )
كانت هذه الأمثال تجري مجري الحكمة عند جدتي
كانت صناعة الغرابيل منتشرة في طفولتي وكان سوق الأربعاء في قريتنا لا يخلو من العديد من بائعي الغرابيل لكن قريتنا كانت تستأنس بعمي حسانين لأنه كان رجلا وقورا مؤدبا وكانوا يعرفونه جيدا لأن والده من قبل كان يتردد علي بيوت قريتنا ويعرف القريب والبعيد ويحفظ اهل القرية عن ظهر قلب …..وكانت صناعة الغرابيل يحترفها الغرابوة …..وكانت لا تحتاج إلا أدوات بسيطة مثل المطرقة والسندان والكماشة
وبعض المسامير والسلك
كان الغربال البلدي الأكثر انتشارا وصناعة في ذلك الوقت الآن صناعة الغرابيل مهددة بالانقراض
بعد أن أصبح الغربال الصيني ينافس الغربال البلدي في الأسواق واختفي عمي حسانين مع ايام الزمن الجميلة
ولم يعد بائع الغرابيل يزور بيتنا بعد أن أختفي البيت الكبير بكل طقوسه وخيره وبركته
ولم يعد يمر بدروب وأزقة وشوارع قريتنا وأصبحنا نشتري الغربال من محلات بيع الحدايد ونترحم علي الزمن الجميل

حمدى كسكين
التعليقات