الثلاثاء - الموافق 24 ديسمبر 2024م

بشارة السماء في النصر على الأعداء .. بقلم: هند درويش

اقتضت حكمة الله أن جعل الدنيا دار تدافع بين الحق والباطل لقيام الساعة قال تعالى: ” وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ” (البقرة:251). وجعلها دار اختبار ليمتحن صدق إيماننا وليميز الخبيث من الطيب ” مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ” (آل عمران: 179). وليفصل بين المؤمن والمنافق ” وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ” (العنكبوت:11). المؤمن الحق الذى لا يخشى إلا الله ولا يخاف في الله لومة لائم والمنافق الذى يخشى من العدو أكثر من خشيته لله، لذلك أكثر المعارك التي خاضها المسلمين ضد الكافرين على مر التاريخ كان فيها الكافرين أكثر إعداد وتعداد وقد وصل في معارك كثيرة أن عدد جيش المؤمنين أقل من نصف عدد جيش الكافرين، وفي ذلك حكمة أرادها الله ليبين للكافرين أن مهما بلغ عددكم وقوتكم لا تغتروا بها لأن الكثرة مع الكفر بالله ضعف وخزي والقلة مع الإيمان بالله قوة ونصر فالله يؤيد المؤمنين بنصره ويعزهم فسبحانه القائل ” وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ” (الأنفال: 19).
وعلى الرغم من كثرة عدد المشركين وأنصارهم وقوة إمكانياتهم القتالية إلا أن الله نصر رسوله والمؤمنين نصر يعز الإسلام وأهله ويذل أهل الكفر ومن والاهم قال تعالى: ” وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ” (الأنفال: 26). والله سبحانه وتعالى ينصر القلة المؤمنة الصابرة على الكثرة الكافرة بقوة الإيمان قال تعالى: ” فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ” (الأنفال: 66). وهناك سنة كونية تحدث في كل زمان إذا أخذ المؤمنين بأسباب النصر ألا وهى تثبيت قلوب المؤمنين ببشارة السماء في النصر على الأعداء كما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في مكة حيث رأى النبي رؤية في منامه بأن عدد المشركين قليل وهذه بشرى من الله بالنصر فبشر النبي أصحابه فطمأنت قلوبهم وزاد حماسهم لملاقاة العدو قال تعالى: ” إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ” (الأنفال: 43). وهذا ما حدث بالفعل أن الله جعل النبي والمؤمنين يرون المشركين قلة في العدد وجعل المشركين يرون المؤمنين قلة ليتركوا الاستعداد لحربهم. ويخبرنا الله في آياته أنه لو جعل المؤمنين يرون العدد الحقيقي للمشركين لتنازعوا وفشلوا في المعركة بسبب الأختلاف في الأراء فمنهم من يرى الإقدام على المعركة ومنهم من يشعر بالجبن والخوف فيحجم عن المعركة، فإن الله سبحانه وتعالى وحده القادر على نصر المؤمنين بطرق لا تخطر على قلب بشر ليقضى الله أمراً كان مفعولاً وليحقق وعده بنصر المؤمنين قال تعالى: ” وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ” (الأنفال: 44). وهناك عدة معارك على مر التاريخ كانت للبشارة بالنصر أثر كبير في تثبيت قلوب المؤمنين منها:
– موقعة عين جالوت:
وهذا ما حدث أيضا مع الملك المظفر ” سيف الدين قطز ” على الرغم من الفترة العصيبة التي كانت تمر بها الأمة العربية والإسلامية من ضعف وتحالف أعدائها عليها من الصليبيين والتتار إلا أن يروى أنه رأى النبي منذ صغر سنه يبشره بأنه سيملك مصر ويكسر التتار، فكان يرى نفسه صاحب رسالة ومنقذ لهذه الأمة وعندما تولى قطز حكم مصر كان الوضع السياسي سيئاً للغاية، وكانت هناك أزمة اقتصادية طاحنة تمر بالبلاد فعمل قطز على إصلاح الوضع في مصر خلال إعداده للقاء التتار، وتحقق وعد الله بالنصر المؤمنين في عين جالوت ونجحوا في تطهير الشام في خلال عدة أسابيع وفتحت دمشق وأعلن قطز توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، بعد عشر سنوات من الفرقة.
– معركة الزلاقة :
وبالمثل في ظل الظروف الصعبة التي كانت تمر بها الدولة الأموية مما أثر على ضعف الأندلس فلقد أخذت بأسباب السقوط من انتشار الفساد والإسراف والترف والذنوب والمعاصي والبعد عن الله والانشغال بالدنيا عن الآخرة ولكن الله يقيد لهذه الأمة رجال مخلصين منقذين لها وقت الضعف و التآمر والهوان مثل ” يوسف بن تاشفين ” مؤسس دولة المرابطين ” كان حليما كريما خيرا يحب أهل العلم والدين ويستمع إلي مشورتهم. كان قائد شجاع يغير على الإسلام فأعد جيش بلغ ثلاثين ألف رجل لمعركة الزلاقة معركة الوجود الإسلامي في الأندس وكان الصليبيين قد استعدوا لهذه المعركة بجيش ضخما بلغ عدده ثلاثمائة ألف مقاتل وعلى رأسهم ألفونسو السادس بعد أن جاءه العون من فرنسا وإيطاليا، وأخذ بن تاشفين في تجهيز الجيش وجعله على أتم الاستعداد للمعركة، وفي ليلة الجمعة كان ينام مع الجيش شيخ كبير في قرطبة وهو الفقيه أبو العباس بن رميلة القرطبي، وفي هذه الليلة يرى ابن رميلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ” يا ابن رميلة إنكم لمنصورون وإنك ملاقينا ” فيقوم الشيخ من نومه فرحا مسرورا فقد بشره رسول الله بالحسنيين نصر للمؤمنين وشهادة ينالها في سبيل الله، وعلى الفور يذهب ابن رميلة مسرعا في منتصف الليل ويوقظ قادة المسلمين ويبشرهم بالرؤيا إلي أن وصل خبرها إلي يوسف بن تاشفين وكل قواد الجيش، وبالفعل تحققت الرؤية وانتصر المسلمون بعد أن قاتلوا قتالاً شديداً وصبروا صبر الكرام في حرب اللئام واستشهد ابن رميلة.
– معركة حارم:
دارت هذه المعركة بين الملك العادل نور الدين محمود والصليبيين في 22 رمضان عام 559ه، عرف بورعه وزهده وكان مؤمناً بالنصر على الصليبيين (كان يتبنى مشروع تطهير الأمة الإسلامية من الصليبيين المعتدين واسترداد بيت المقدس ” المسجد الأقصى ” ) ونظرا لقوة إيمانه بذلك صنع منبراً ليعلوه الخطيب بعد فتح القدس، والمنبر إلى الآن موجود بالقدس، وهو الذي مهد الطريق لصلاح الدين الأيوبي لاسترداد المسجد الأقصى، وامتد سلطانه رحمه الله إلى بلاد الشام ومصر وقسم من العراق، صارت دولته دولة عظمى، وعلى الرغم من اتساع ملكه وعظمة سلطانه إلا أنه كان يتوسل إلى الله قبل كل معركة، ففي ليلة من الليالي خرج نور الدين إلى تل حارم، وسجد على الأرض ولطخ رأسه بالتراب، وأخذ يبكي ويدعو الله بانكسار، ويقول: اللهم إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر، إن نصرت الجنود نصرت دينك، لأن محمود قد يكون غير مستحق للنصر، لذلك شيخ كبير من شيوخ المسلمين الكبار رأى في المنام النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أعلم نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط، فقال: يا رسول الله ربما لا يصدقني فاذكر له علامة يعرفها؟ فقال له: قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت: يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً فمن هو محمود حتى تنصره؟ هذه العلامة، قال: بهت ونزلت إلى المسجد الذي كان يقوم فيه نور الدين قيام الليل، فأخبرته بالمنام، وذكرت له العلامة، فبكى رحمه الله، وصدق الله الرؤيا، فجاء الخبر برحيل الصليبيين عن دمياط، وحقق نور الدين في هذه المعركة نصراً ساحقا.
– انتصار أكتوبر المجيد:
وفي ذكرى انتصار أكتوبر المجيد في العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر صرح الدكتور ” أحمد الشعراوي ” نجل الإمام ” محمد متولي الشعراوي ” خلال مداخلة هاتفية مع فضائية ” المحور ” بتاريخ (8/10/2018) أن الشيخ محمد متولى الشعراوي رأي النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقود جيش مصر ويعبر قناة السويس، فقال للرئيس السادات: ” قود الحرب وستنتصر”… وقال أن الرئيس السادات كان متخوفاً بعض الشيء نتيجة لضعف الإمكانيات ولكن هذه الرؤية كانت بشارة من الله بالنصر ولتطمئن قلوب المؤمنين وتثبتهم عند ملاقاة العدو، ومن ناحية أخرى تشابهت هذه الرؤية مع رؤية الشيخ ” عبد الحليم محمود ” الذى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في المنام يعبر قناة السويس ومعه الجنود وعلماء المسلمين.
وهكذا يقيد الله لهذه الأمة رجال مخلصين سطروا أسمائهم على صفحات التاريخ بماء الذهب وجعل الله النصر على أيديهم في ظل الظروف العصيبة وضعف الإمكانيات شرط أن يصدقوا الله، وهؤلاء هم الرجال الذين يطمحون في الحصول على إحدى الحسنيين أما النصر وأما الشهادة ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ” (المائدة:54). وهذا لن يتحقق إلا بعد أن يختبر الله صدق الإيمان ليعلم الله الذين صدقوا في إيمانهم من المنافقين الذين أساءوا الظن بربهم والذين لسان حالهم يقول لن ينفع المؤمنين إيمانهم بربهم أمام قوة العدو العسكرية ” إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ” (الأنفال:49). وليعلم المؤمنين والكافرين أن هذه الأمة لن تنتصر بقوة الإعداد والتعداد ولكن تنتصر بأن تأخذ بأسباب النصر على قدر المستطاع ” وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ” (الأنفال:60). وتتوكل على الله حق التوكل فإن النصر دائما من عند الله ” وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ” (آل عمران: 126).

 

بقلم: د/هند درويش
باحث دكتوراه

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك