تقرير – محمد عيد
سلط الهجوم الذى شنه الدكتور يوسف زيدان، على شخصية صلاح الدين الأيوبى، الضوء على قضية “إعادة كتابة التاريخ”، بكل حيويتها وأهميتها وخطورتها، فى الحفاظ على الهوية القومية، وإعادة بناء العقل الإسلامى، الذى سقط جانب منه، فى أوحال الإرهاب والتطرف، بفعل مجموعة من المفاهيم والتصورات والرموز والأفكار التاريخية الخاطئة، لعل أبرزها مفهومى “الخلافة” و”الإمام الغائب”.
ولا تتوقف آثار الجدل الذى أحاط بهجوم زيدان على فكرة “المخلص” التى تجسدها شخصية صلاح الدين، عند حدود الاستدعاء العاجل لقضية إعادة كتابة التاريخ، لكنها تمتد إلى قضية أخطر، وهى: “من يعيد كتابة التاريخ؟.. ومخاطر ترك هذه العملية، رهن محاولات فردية، لا يمكن بمنطق تطور العلوم الإنسانية، ضمان نتائجها دون مجهود علمى ضخم لفريق من الباحثين الكبار، ودعم حكومات تضع كل ما لديها من مخطوطات ووثائق أمام هذا الفريق”.
وبعيدا عن “الإسقاط اللاأخلاقى” الذى تمارسه بعض التيارات لمواجهة أى محاولة بحثية فردية تتطلع إلى تفكيك معتقداتها التاريخية، فإن ترك “التاريخ” فى أيدى باحثين أفراد أو هواة، إنما يخلق فراغا معرفيا هائلا، يسمح بالتلاعب بالهوية القومية، التى تعانى أصلا من حالة سيولة واحباط، واستهداف غير مسبوق لذاكرتها فى مدن عربية تمتد من بلاد الشام إلى اليمن، وصولا إلى محاولات صناعة الجدل حول مركزية مدينة القدس فى العقيدة التاريخية للمسلمين.
يرى زيدان “أن السيرة الوهمية لصلاح الدين هى منبع أساس لتفريخ الحركات الإجرامية المسماة إعلامياً بالجماعات الإسلامية المسلحة”، متسائلا: ألم ينتبه أحد إلى أن أسماء كثير من هذه الجماعات تستعير ذلك الخلط والتخليط المرتبط بالقدس وصلاح الدين فتسمى نفسها بأسماء مثل: سرايا القدس، كتائب صلاح الدين، شهداء الأقصى، جيش صلاح الدين، صليل صوارم صلاح الدين محرر القدس.. إلخ”.
لكن مثقفون قوميون يرون أن طرح زيدان لا يتغافل فقط عن المجرم الرئيسى وراء العنف فى المنطقة وهو الإحتلال الصهيونى، ولكنه يسعى للانتقام من صلاح الدين كرمز جرى استدعائه فى لحظات الهزيمة القومية أمام العدو الإسرائيلى حتى ولو كان هذا الرمز وهميا، الأمر الذى عزز اتهامات لزيدان بمحاولة ضرب “مركزية القدس” فى الوجدان الإسلامى، مرة عبر التشكيك فى حقيقة أن “المسجد الأقصى” الذى أسرى الله بنبيه محمد إليه وأم فيه الأنبياء، لا يقع فى بيت المقدس، ومرة مع عودته الحالية وبعد سنوات طويلة للهجوم مجددا على صلاح الدين، المتوفى عام 1193 ميلادية.
لقد كان صلاح الدين، الذى رفع المسلمون مكانته إلى مرتبة المخلص، فى القرن العشرين، “أقرب إلى الشخصية التى قدمتها المخيلة الشعبية الأوروبية فى القرن التاسع عشر عن أى شخصية تاريخية (واقعية)، وكان ذلك إلى حد كبير انعكاسا لاستحواذ فكرة الحروب الصليبية على الغرب”، وهو ما يشير إليه عبد الرحمن عزام فى كتابه “صلاح الدين وإعادة إحياء المذهب السنى”، بقوله: “لقد وضع دانتى، صلاح الدين بعد قرابة 100 عام من وفاته، فى أول طبقات الجحيم مع أبطال طروادة وروما.. وفى رواية “دى كاميرون” لـ “بوكاشيو” نجد صلاح الدين مجبرا على اقتراض المال من “ميلشيديش” اليهودى لأنه أفلس خزانة الدولة بسبب كرمه.. ورأى “لين بول” فى فروسية صلاح الدين مع الصليبيين “تنشئة طيبة لرجل نبيل”، أما ريكس هاوسون فقد صوره “وغدا”. ويبدو أن صلاح الدين لم يُستثن من شئ، فقد ظهر فى حلقة تليفزيونية بعنوان “دكتور هوجو”. ومن المؤكد أن إطلاق اسم القائد العسكرى على إحدى كتائب منظمة التحرير الفلسطينية، ثم إطلاق الاسم نفسه على دبابة بريطانية، يمثل حالة فريدة فى التاريخ”.
والسؤال كيف يمكن تقديم صلاح الدين ومن أى زاوية؟، يقول الأستاذ جاكسون: “يجب تقييم سيرة صلاح الدين فى ضوء استيلائه على القدس، الذى مهد له الطريق بتحطيم جيش المملكة اللاتينية فى حطين يوم 4 يوليو 1187 م، وفى رأيى أن اهتمام صلاح الدين – كما تبين مراسلاته، مع الخلفاء المتعاقبين – كان منصبا على الجهاد فى المقام الأول، باعتباره وسيلة لاستعادة القدس”، وهو ما يدعمه الدكتور قاسم عبده قاسم؛ بقوله: “بنى صلاح الدين سمعته التاريخية، على أساس من الوحدة الخلقية والدينية للمنطقة العربية، تحت راية الجهاد. ومن ناحية أخرى، كانت صفاته وسجاياه الشخصية، تؤهله لهذا الدور، الذى تجسد فى بناء دولة إقليمية كبرى وسلطة معنوية هائلة، مكنته من تحقيق حلم الناس بتحرير مقدساتهم الإسلامية والمسيحية، من براثن الاحتلال الاستيطانى الأوروبى الذى تخفى وراء الصليب”.
لذلك فإن محاولة الفصل بين الحقيقة والأسطورة فى شخصية صلاح الدين، لا يمكن أن تجرى دون رسم خريطة كاملة للحقائق الموضوعية لعصره على المستويات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والعسكرية، بعيدا عن خفة البحث الإنتقائى فى كتب التاريخ، سواء تحت وطئة شهوة الانتقام المرضى من الذات القومية، أو بفعل الرغبة فى ستر عورات الواقع القومى المهترئ والعاجز.
وأخيرا، وإن كنا فى حاجة حقيقية إلى “إعادة كتابة التاريخ”، فى إطار مشروع عالمى أو إقليمى لتفكيك الجذور الثقافية للإرهاب، فلا يجب أن يقتصر هذا المشروع فقط على الإرهاب المتستر بتفسيرات وضعية للإسلام سواء عند السنة أو الشيعة، ولكنه يجب أن يمتد إلى الإرهاب المتستر بالأساطير الدينية التى قامت عليها إسرائيل، التى تعد أساس العنف فى المنطقة.
التعليقات