ونكمل الجزء الثامن عشر مع فضل الحديث، وقد توقفنا مع وجوب الاكتفاء بإبلاغ المعنى للسنة النبوية الشريفة مع المحافظة عليه، وذلك أمر ميسور، ولا مشقة فيه، وإلى هذا كان من شرعه ما هو تقرير لما حدث أمامه من قول أو فعل، وليس يروى ذلك إلا بما يدل عليه من ألفاظ لم تصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان ذلك سبيلاً معتبرا لرواية السنن الفعلية كان سبيلا كذلك لرواية السنن القولية، ويؤيد هذا الرأي ما رواه عروة بن الزبير قال، قالت لي السيدة عائشة رضي الله عنها، يا بني يبلغني أنك تكتب الحديث عني ثم تعود فتكتبه، قلت لها أسمعه منك على شيء، ثم أعود فأسمعه على غيره، فقالت هل تسمع في المعنى خلافا؟ قلت لا، قالت لا بأس وعن محمد بن سيرين ربما سمعت الحديث عن عشرة كلهم يختلف في اللفظ، والمعنى واحد، وكذلك خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع خطبته وهي خطبة لم يكررها، ومع ذلك رويت بروايات عديدة، تختلف في ألفاظها وعباراتها، كما تختلف بالزيادة والنقص، مما يقطع أنها قد رويت بالمعنى دون أن يكون في ذلك حرج، ويؤيد هذا أن الله سبحانه وتعالى قد قص علينا من أنباء الرسل الكرام ما قد سبق أن قصه، فكررها بألفاظ مختلفة في مواضع متعددة، ونقلها من ألسنة أصحابها إلى اللسان العربي مع مخالفة بعضها بعضا في التقديم والتأخير، والزيادة والنقصان ولكن مع اتحاد المعنى.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل سفراءه ورسله فينقلون رسائله ويترجمونها إلى غير اللغة العربية، مع المحافظة على معناها، وذلك ما يقطع بجواز الرواية بالمعنى عند المحافظة عليه، ولذلك مال كثير من التابعين إلى هذا الرأي، فأجازوا لأنفسهم الرواية بالمعنى عند حاجتهم إلى ذلك حتى لا يكون امتناعهم عن الرواية في هذه الحال كتمانا لما أنزل الله تعالى من حكم، وذلك ما توعد عليه سبحانه وتعالى إذ قال تعالى ” إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب ” وقد اشترط لجواز الرواية بالمعنى شروط يؤمن معها التغيير في الحديث بالزيادة أو بالنقص أو الاختلاف في المعنى، فأوجبوا أن يكون الراوي ثقة في دينه معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معاني الحديث، ويغيرها من الألفاظ، وذلك لا يتوفر إلا إذا كان عالما بلغات العرب ووجوه أساليبها، بصيرا بالمعاني والفقه، فمن لم يكن بهذه الصفة كان أداء اللفظ له لازما، ولم تجز له الرواية بالمعنى، وإذا توفرت هذه الشروط في الراوي كان احتمال الخطأ بالنسبة إليه أشبه بالأمر الموهوم الذي لا يؤبه له ولا يصح الالتفات إليه، ولا اتخاذه أساسا لرد القول أو تركه، وبخاصة إذا لاحظت ما كان عليه السلف من أمانة، وثقة، وورع، وصدق دين، ويقين، ولاحظت مع ذلك أن لكثير من الأحاديث على كثرتها وتعددها طرقا متعددة لا ترى خلافا بينها في المعنى.
وفي تعددها أمان من وقوع الخطأ فيها من ناحية المعنى، وعلى هذا الأساس يكون الظن بصحة الرواية بالمعنى قائما راجحا، ومعه يجب العمل، لما قدمنا من قيام الدليل القاطع على وجوب العمل بالظن فيما لا يتعلق بأصول الدين التي يكفر جاحدها، وهو ما علم من الدين بالضرورة، والقول في ذلك مفصل في كتب الأصول، وهكذا فلقد جاء الإسلام رحمة للعالمين وليخرجهم من عبادة الأوثان، ومن عبودية العقل للجسد وغرائزه لرقي الجسد إلى الروح وسمائها، فتحقق في الإسلام السمو الذي كانت تفتقده البشرية في عصور الضلال والانحراف والتيه الذي مرّت به، ولم يعرف التاريخ رسالة أشمل وأعظم من رسالة الإسلام، وهي الرسالة الأبدية التي أنزلها الله تعالى مع كل أنبيائه ورسله، فكانوا يدعون الناس دوما إلى خلع ما يعتقدونه من هيمنة الحجر على البشر ومن ألوهية الصنم والتمر والخشب، إلى فلك التوحيد والإيمان بالخالق الذي لا حدود لقدرته ولا تناهي لعظمته جل جلاله، كما لم يعرف التاريخ رسالة أعظم من الإسلام، فإن التاريخ لم يعرف فاتحا ولا قائدا أعظم من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فهو النبي الذي ختم الله به الأنبياء، وهو الذي أخرجنا الله به من ظلمات الدنيا إلى نور الدنيا والآخرة، ولكونه النبي العظيم والرسول القائد حق علينا أن ندرس سيرته وأن نعرف عن حياته وعن شخصيته وعن أبرز ملامح الفترة الزمنية التي عاشها.
ولا يكون هذا إلا بدراسة السيرة النبوية ومعرفة الحياة العامة والخاصة للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وأما عن وجوب العمل بخبر الآحاد، فإنه على هذه الشبهة أو على مثلها قام رأي فريق من أهل الفرق والأهواء، كالرافضة، والفلاسفة، وبعض المعتزلة، فذهبوا إلى عدم وجوب العمل بخبر الآحاد، وقد يرى رأيهم هذا بعض المنحرفين من أهل هذا العصر، وهو رأي يقضي على السنة جمعاء إذ ليس بعد السنة العملية المتواترة التي جاءت ببيان ما فرضه الله من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، إلا أخبار الآحاد، وقلّ أن تجد سنة قولية قد اتفق على تواترها، ومن ذلك يرى أنه قول ينتهي إلى عدم وجوب العمل بالسنة وإغفالها كلها، وما كان لمثل هذا القول أن يكون له وجود بعد الذي تواتر نقله من اعتماد رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أخبار الآحاد في تبليغ دعوته، وتشريع أحكامه، وبعد الذي قام عليه إجماع المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ركونهم في معاملاتهم، وقضائهم، وفتاويهم، وعباداتهم إلى أخبار الآحاد، وبخاصة إذا لوحظ أن ما أثاره أصحاب هذا الرأي من شبهة في سبيل وجوب العمل بأخبار الآحاد ليس بالأمر ذي البال الذي يقوم على نظر صحيح، ومنطق سليم، وليس يستعصي على النظر العادي دحضه وقصوره في الوصول إلى النتيجة التي رتبوها عليه، ولقد عني كثير من العلماء بدحض هذا الرأي، وإظهار فساده.
وانحرافه عن الجادة، وكتبوا فيه الفصول الضافية الممتعة المقنعة، وزخرت بها كتب الأصول في مختلف العصور، ولكن أول من تصدى لذلك وأفاض فيه وأحسن القول، وبسطه وبرع في بيان فساده، وكان من جاء بعده عيالا عليه الإمام الشافعي رحمه الله، في رسالته، وهكذا فإن السيرة النبوية هي التأريخ والتأصيل الزمني لجملة الأحداث والوقائع التي كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الدراسة الخاصة بالنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، من حيث أخلاقه وشمائله المحمدية ونسبه الشريف ودلائل النبوة التي حباه الله بها، وكل ما يتعلق بها من أحداث وغزوات فهذا من صميم السيرة النبوية، وتعطينا دراسة السيرة النبوية الشريفة معرفةً عن النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، والتي نعرف بها حياته واسمه الشريف ونسبه القويم، فلا يتخيل عاقل أن مسلما لا يعلم شيئا عن نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، في أي عام ولد وما هي معجزاته وما هي أبرز ملامح حياته، فسيرته العطرة تعلمنا الإقتداء والتأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نقتدي بما لا نعلم لأن الإقتداء يجب أن يكون على علم وعلى بصيرة، ولولا دراسة السيرة النبوية لما عرفنا كيف كان خلق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكيفية لباسه وكيفية تعامله مع الناس وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا أسوة حسنة، فنتعلم كيف كانت الحرب.
في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت الرحمة بالأعداء قبل الأصحاب، وندرك فنون القيادة، وكيف كانت تدار الدولة وكيفية القضاء والعدل بين الناس من خلال المواقف التي نمر بها أثناء تصفحنا لنفحات السيرة العطرة، وإن دراسة السيرة النبوية الشريفة تعلمنا أحكام الدين، فبها نعلم الأحكام الفقهية من خلال المواقف التي حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل أنكرها أم أقرّها، وهذا بحد ذاته تشريع نبوى بحال تحققت لدينا صحة النقل، فهذا هو فقد ولد نبى هذه الأمة، وخاتم الرسل الكرام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين من شهر ربيع الأول من عام الفيل، وقد رأت أمه حين ولادته كأن نورا يخرج منها تضيء له قصور الشام، وقد نشأ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في قومه يتيما دون أب، فقد ظل مع أمه التي سعت إلى التماس المراضع له منذ صغره، فأرضعته مُبكرا مولاة أبي لهب، وتدعى ثويبة، ثم أخذته أمه إلى ديار بني سعد، التماس مُرضعة له من الأعراب، فأرضعته هناك السيدة حليمة السعدية، وبقي عندها زمانا، وحصلت له في تلك الديار حادثة شق الصدر، حين أتاه جبريل عليه السلام، فشق عن صدره، وأخرج قلبه، فشقه نصفين، ثم أخرج منه قطعة سوداء، وهي حظ الشيطان منه، ثم غسل القلب بماء زمزم، ثم لأم قلبه، وأعاده إلى مكانه، ثم أعادته مُرضعته إلى أهله.
ومكث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أمه حتى كتب الله عليها الوفاة وذلك حينما كانت برفقة نبي الله صلى الله عليه وسلم في زيارة لأخواله من بني النجار في المدينة المنورة، وبعد وفاة أمه، كفله جده عبد المطلب، ثم ما لبث أن توفى، وكان عُمر النبى ثمانية أعوام، ثم كفله عمه أبو طالب، فنشأ في بيته، وحينما عاين النبى صلى الله عليه وسلم فقر عمه، قرر مساعدته في تحمل نفقات البيت، فرعى غنم قريش زمانا، ثم عمل مع عمه في التجارة إلى الشام، وفي إحدى رحلاتهم التجارية إلى الشام، لاحظ أحد الرهبان حين كان يتعبد في صومعة له علامات تدل على وجود نبى في تلك القافلة، فخرج إلى القوم مُخبرا إياهم بأمر محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه سيكون نبيّا في آخر الزمان، والمبعوث رحمة للعالمين، وأخبرهم بما رأى من حاله، ومن ذلك سجود الشجر، والحجر له، وتظليل الغمامة له أثناء مسيره، وشباب النبى صلى الله عليه وسلم واشتهر في شبابه بالصدق، والأمانة، وعُرف بهما بين أقرانه، وحينما ذاع صيته بين الناس، أوكلته السيدة خديجة رضي الله عنها بالتجارة بأموالها، وكانت امرأة عاقلة، وصاحبةَ أموال، فنجح النبي صلى الله عليه وسلم بإدارة أموالها، وأدر عليها الكثير من الربح بفضل حنكته، ومهارته في التجارة، فدعته السيدة خديجة إلى خطبتها، لما رأت من مقام له بين الناس، وخبرته من أخلاقه، فتزوجها النبى صلى الله عليه وسلم، وكان عمره خمسا وعشرين سنة، بينما كان عمرها أربعين سنة.
التعليقات