ونكمل الجزء الثالث مع الأم فى عيدها، وقد توقفنا مع أم علقمه عندما قالت يا رسول الله إني اشهد الله تعالى وملائكته ومن حضرني من المسلمين أني رضيت عن ولدي علقمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يا بلال إليه فانظر هل يستطيع أن يقول لا إله إلا الله، أم لا؟ فلعل أم علقمة تكلمت بما ليس في قلبها حياء منة، فانطلق بلال فسمع علقمة من داخل الدار يقول لا إله إلا الله، فدخل بلال وقال يا هؤلاء إن سخط أم علقمة حجب لسانه عن الشهادة وإن رضاها أطلق لسانه، ثم مات علقمه من يومه فحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بغسله وكفنه ثم صلى عليه وحضر دفنه، ثم قام صلى الله عليه وسلم على شفير قبره فقال يا معشر المهاجرين والأنصار من فضّل زوجته على أمه فعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا إلا أن يتوب إلى الله عز وجل ويحسن إليها ويطلب رضاها فرضا الله في رضاها وسخط الله فى سخطها، وإن القصة في كتاب الكبائر المنسوب إلى الإمام الذهبى، وهو أشبه ما يكون بالموضوعات وأحاديث القصّاص، وقيل هى من قصص لا تثبت، فكيف ترجو توفيقا وقبولا، والله قد أعرض عن العاق, والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول “ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة” وذكر منهم “العاقُ لوالديه” فتذكر أيها المقصر مع والديه ليلة تصبحها بلا أم, وتذكر ساعة تدخل فيها المنزل، فلا تسمع صوتها ولا تبصر رسمها ولا ترى ثيابها تذكر يوما تحثو فيه التراب على قبرها وتذكر يوما تتقبل التعازي بها هناك ستعرف قدر أمك هناك ستعرف أي أمر فقدت.
وأي باب أوصد عنك، وأي خير حرمت، سل ذلك الذى فقد أمه يخبرك كيف تغير عليه طعم الحياة, حين خلف أمه في المقابر، فلم يجد من بعدها من يسنده ويدعو له ويبث له شكواه، ولن يعرف قدر هذا إلا من عاناه، ألا فعُد اليوم وأرض أمك وأباك, واستدرك ما بقي، وأصلح ما فات, وعاهد نفسك الآن على البر والإحسان مادام في العمر إمكان، وتعالوا لنتأمل سريعا هذه الآيةَ العظيمة التي طالما سمعناها كما جاء فى سورة الإسراء ” وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا” فانظر كيف قرن حقهما مع حقه سبحانه، ولم يقرن مع حقه أحدا سواهما، وأمر الله عز وجل بالإحسان إليهما، بكل ما تحمله الكلمة من معاني الإحسان قولا وفعلا، ثم خص بعد العموم، فقال تعالى كما جاء فى سورة الإسراء ” وإما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ” وهذا نهى عن أدنى أذى لفظي، ولا تنهرهما وهو نهي عن أى مضايقة حركية، وقال عطاء بن أبي رباح “لا تنفض يدك عليهما” ولما نهى عن القول القبيح والفعل القبيح، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن، فقال كما جاء فى سورة الإسراء ” وقل لهما قولا كريما ” وقال ابن كثير “أى بمعنى لينا طيبا حسنا، بتأدب وتوقير وتعظيم” وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالتواضُع لهما فقال تعالى كما جاء فى سورة الإسراء ” واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ” وختم الأوامر في الآية بالدعاء لهما فقال تعالى ” وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا” فإن كان باستطاعتك أن ترى أمك وتجلس معها كل يوم، فافعل، فإن كنت عنها بعيدا فبالاتصال.
فإن ذلك من برها وإدخال السرور عليها، اعرض عليها قبل أن تطلب منك، اسألها عن حاجاتها وتفقدها، ادع الله لها، أظهِر السرور بطلبها وبقضاء أمرها، أعطها هدية بين حين وآخر، وأجزل إن كنت موسرا، علمها أمر دينها وما يرفعها عند ربها، قبِل رأسها عند السلام عليها، اصطحب أولادك لزيارتها، اقضِ حاجة بناتها وأبنائها، فإن ذلك يسرها، لا تبث همومك عندها، ففيها ما يكفيها، استشرها وأطلعها على بعض شأنك، أظهِر اهتمامك بإخوانك وأخواتك، فإن رؤيتها لترابطكم يثلج صدرها، تحدث معها في المواضيع التي تحبها هي، فيقول أحد الدعاة كانت إحدى الأمهات يظهر منها ارتياح أكثر لأحد أبنائها، مع العلم بأنهم كلهم طيبون، فسأله عن سبب ذلك، فقال لأمي مفتاح لم يستخدمه بقية إخوتي، فقال ما هو؟ قال بسيط جدا، أتحدث معها فيما يهمها، فلان تزوج، وفلان رزق ولدا، ومرض فلان فزرته، وهكذا، أما بقية إخوتي، فغالبا يتحدثون عندها في البناء، وفي الأسهم، ونحو ذلك، ولكن اعلم أن أبواب البِر كثيرة، فاحرص على أن تلجها كلها، وافعل ذلك أيضا مع والدك، واغتنم حياتهما، فليس هناك أبلغ من كتاب الله تعالى وهو يصف لنا جزءا من معاناة أمهاتنا حال حملهن بنا وإرضاعهن لنا فيقول الله تعالى كما جاء فى سورة الأحقاف ” ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ” وفي الآية الأخرى كما جاء فى سورة لقمان ” ووصينا الإنسان بوالدية حملته أمه وهنا على وهن وفصاله فى عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير ”
وقال قتادة في معنى وهنا على وهن، أى جهدا على جهد، ويا من وارى الثرى قرة عينيه ما زال أمامك خير كثير، فكم من الناس من بره بوالديه الميتين أعظم بكثير من بر بعضهم بالأحياء، والله المستعان، أصلح حالك وأكثر من الدعاء لهما ففي صحيح مسلم مرفوعا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث، إلا من صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالح يدْعو له” فتصدَّق عنهما، وصِل رحمهما وصديقهما، أنفذ عهدهما، فعند الإمام أحمد وأبي داود أن رجلا قال يا رسول الله هل بقى من بر أبويَّ شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال صلى الله عليه وسلم “نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما” فإن برَّك بوالديك عبادة عظيمة تقربك إلى مولاك، إنها سبب للبركة والتوفيق، إنها سبب لتيسير الأمور، إنها سبب لحفظك وسلامتك، إنها من أعظم أسباب بر ذريتك لك، وعموما فهي توفيق فى الدنيا والآخرة، فإن الحديث عن بر الوالدين حديث مشوق، وفيه ذكرى للمتقين، وتنبيه للمقصرين والغافلين، فالإحسان الي الوالدين عبادة عظيمة، وقد قرنها الله تعالى مع عبادته، وهذا يدل على فضلهما العظيم، فقد جعل الله للوالدين المكانة العالية، ورفع من شأنهما، فمن الواجب علينا برهما والإحسان إليهما، وأن نترحم عليهما كما ربونا صغارا، فالأم هذه الكلمة الصغيرة ذات الحروف القليلة، ولكنها تحتوى على أكبر معاني الحب والعطاء والحنان والتضحية، الأم هى الأنهار التي لا تنضب ولا تجف ولا تتعب.
متدفقة دائما بالكثير من العطف الذي لا ينتهي، وهي الصدر الحنون الذي تلقي عليه رأسك وتشكو إليه همومك ومتاعبك، الأم هي التى تعطى ولا تنتظر أن تأخذ مقابل العطاء، وهي التى مهما حاولت أن تفعل وتقدم لها فلن تستطيع أن ترد جميلها عليك ولو بقدر ذرة صغيرة، فهي سبب وجودك على هذه الحياة، وهي سبب نجاحك، تعطيك من دمها وصحتها لتكبر وتنشأ صحيحا سليما، هي عونك في الدنيا، وهي التي تدخلك الجنة، وقد روى مسلم في صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه” قيل من يا رسول الله قال ” من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة” فإن الأم لطيفة المعشر، تتحمل الجفوة وخشونة القول، تعفو وتصفح قبل أن يُطلب منها العفو أو الصفح، حملت جنينها في بطنها تسعة أشهر، يزيدها بنموه ضعفا، ويحمّلها فوق ما تطيق عناء، وهي ضعيفة الجسم، واهنة القوى، تقاسي مرارة القيء والوحام، يتقاذفها تمازج من السرور والفرح لا يحس به إلا الأمهات ، تحمل جنينها وهنا على وهن، تفرح بحركته، وتقلق بسكونه، ثم تأتي ساعة خروجه فتعانى ما تعانى من مخاضها، حتى تكاد تيأس من حياتها، ثم لا يكاد الجنين يخرج في بعض الأحايين غلا قسرا وإرغاما، فيمزق اللحم، أو تبقر البطن، فإذا ما أبصرته إلى جانبها نسيت آلامها، وكأن شيئا لم يكن إذا انقضى، ثم تعلق آمالها عليه، فترى فيه بهجة الحياة وسرورها، ثم تنصرف إلى خدمته في ليلها ونهارها، تغذيه بصحتها، وتنميه بهزالها، تخاف عليه رقة النسيم وطنين الذباب.
وتؤثره على نفسها بالغذاء والنوم والراحة، تقاسي في إرضاعه وفطامه وتربيته ما ينسيها آلام حملها ومخاضها، فسبحان الله الذى جعل قلب الأم آية من آياته, وأسكن فيها معان من سره، فهي يد لا تعرف إلا العطاء, وقلب لا يعرف إلا الحب والصفح والغفران, ووجه لا يعرف إلا الإقبال والابتسام, فهى سهولة كل صعب, ويسر كل عسير، فإن الأم إنها مذيب الهم الذي يحيل حياتك إلى لطف خالص, ومزيل الغم الذي يبعث فيك نسائم الأمل وينفث فيك البهجة الحياة, إنها الترياق الذى يعالج سموم الدنيا ويطبب علتك، وإن أيادي الأم التي طالما مدت بكل أسباب الرحمة والعطاء, آن لك أيها الابن اليوم أن تنحني وتقبلها, وتلك الهامة التي طالما طاولت عنان السماء لتسمو بك وترقى آن لك أن تتوجها بكل أسباب البر، فيا أماه، دعيني أنظر في وجهك لأرى عقوقي وصبرك , وأنظر في عينيك لأرى جحودي ونكراني وعظيم حلمك, دعيني ألمس يدك لأرى دف عطائك وروعة وصالك, ماذا أقدم لك اليوم لأقر بتقصيرى وعقوقى؟ وماذا اقرأ في كتابي غير جهلى ورحمتك؟ وماذا أرى فيه إلا أسبابا من عطائك وأسبابا من جحودي ؟ أمي هى كلمة تعطر أنفاسي وتملأ خاطري نورا وأمنا , أمي هى كلمة جمعت من كل شيء جماله, ومن كل معنى جلاله, ومن كل وصل وصاله, إنها الرحمة والرّحم، أمى دعيني أنظر إليك لأرى النور الباسم بإشراق نفسك, ودعيني أحلق في السماء بروعة إقبالك واستقبالك, دعينى أقبل يديك وراسك, يا رائحة الشمس وعفو الظل وبر النور, يا باقة الحب يا رواء الروح, يا أبهى عطاء الرب.
فإن كانت الأم حبا فهي أجمله, وإن كانت عطاءا فهي أفضله, وإن كانت احتواء فهي أكمله, فالأم هي الثوب الذي تلبسه فيمنحك الحياة بكل معانيها، إنها الكائن الضعيف الرقيق الذي يتحول إلى بركان ثائر ووحش كاسر إذا مس أولادها مكروه أو أرادهم أحد بسوء، وما أجمل قول من قال وقد أكد المصطفى صلى الله عليه وسلم المنزلة العالية للأمهات وفضل برهن في غير مناسبة، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه قال، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتى قال أمك، قال ثم من؟ قال ثم أمك، قال ثم من ؟ قال ثم أمك، قال ثم من ؟ قال ثم أبوك ” فإن مقتضى البر بالأمهات مترتب على المعنى الشامل لكلمة البر، فهي كلمة جامعة لخيرى الدنيا والآخرة، وبر الأمهات يعني الإحسان إليهن وتوفية حقوقهن، وطاعتهن في أغراضهن في الأمور المندوبة والمباحة، لا في الواجبات والمعاصي، ويكون البر بحسن المعاملة والمعاشرة، وبالصلة والإنفاق، بغير عوض مطلوب، ويدخل في ذلك إيناسهن وإدخال السرور على نفوسهن بالأقوال والأفعال، ولأن الأم ضعيفة بضعف الأنوثة ورقة الحنو وتواضع الشفقة فقد يغتر بعض الأبناء والبنات فتحملهم نفوسهم على تقاصر قدر الأم والاندفاع نحو عقوقها، بخلاف ما يجدونه من المنعة عند الآباء، وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال”
التعليقات