ونكمل الجزء الخامس مع الشهادة من أجل الوطن، وقيل إن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، ومن راح روحة في سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكا يوم القيامة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان” رواه مسلم، وعندما تتعلق قلوبنا بالدنيا ومتاعها، وعندما نركن للدنيا حبا في الحياة وكراهية للموت، فإن الدنيا لا تساوي شيئا أمام الجهاد في سبيل الله، والاستشهاد في سبيله، قال صلى الله عليه وسلم “رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها” رواه البخارى، وإن الشهيد قد استعلى على محبوباته، وتغلب على شهواته، واسترخص الحياة في نيل شرف الشهادة في سبيل الله، وكذلك الشوق للشهادة فقد دعا الصحابي ابن أم مكتوم رضي الله عنه وهو ضرير أعمى لا يبصر أن يقول أي رب، أنزل عذري فأنزلت فى كتابك كما جاء فى سورة النساء ” لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم” فله عذر بعدم الجهاد، لكن هل جلس بعد ذلك في بيته، أو ركن إلى الدنيا ومتاعها، كلا بل كان يغزو ويقول ادفعوا إليّ اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفين، فإن المسلم لا يحزن عندما يرى كثرة أعداد الشهداء، فقد اختارهم الله واصطفاهم للشهادة.
لكن المحزن أن يقف العالم متفرجا على مشاهد القتل والتدمير، والمحزن أن الرافضة أخزاهم الله يصرحون بدعمهم بالرجال والمال ولا زالت دول مسلمة كثيرة مترددة أو صامتة، والمحزن انشغال شباب أهل السنة والجماعة بترهات وتفاهات لا تستحق عليها أمة الإسلام النصر، وعندما تنقل لنا وسائل الإعلام صور جثامين الشهداء، فإن مما يصبر المؤمن أن يتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” للشهيد عند الله ست خصال، يُغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه” رواه ابن ماجه والترمذي وأحمد، ولكن من ذا الذي يدخل الجنة ثم يحب أن يرجع إلى الدنيا؟ هل يمكن أن تقع هذه الأمنية؟ ومن ذا الذي يتمنى أن يرجع لدار نعيمها منغص؟ فإن الجواب يرويه لنا الإمامان البخاري ومسلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة” فمن فاته الجهاد ونيل شرف الشهادة فليعن المجاهدين في سبيل الله، ويمد يد العون والإغاثة لأهل المجاهدين وأسرهم، فقد جاء في الحديث الذى رواه البخارى ومسلم ” من جهّز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا” أي بقضاء حوائج أهل المجاهد ومساعدتهم والإنفاق عليهم، وقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة فقال هذه في سبيل الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة” رواه مسلم، وإن هذه المعاني وهذه الفضائل لن تصل إليها أمة مخمورة إلى آذانها بالدنيا وملاعبها وملاهيها، لا، لن تصل إليها أجيال ترقص طربا ومجونا على أشلاء إخوتهم أهل الإسلام هناك من أجل فوز في مبارة كروية، أو مسابقة خيل، أو مسابقة مزايين إبل، لا، ثم لا، ولن تفهم هذه المعاني ولا تدركها وهي متثاقلة إلى الأرض، مطمئنة إلى الرخاء والترفه، ولن تفقهها أمة تنفق الملايين في معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي طرق الغواية والضلال، فإن علينا أن نحيي في أنفسنا هذه المعاني الربانية الراقية التي فهمها الصحابة الكرام رضى الله عنهم أجمعين، فإن فكرة الناس عن الموت غامضة، أو بتعبير دقيق، فكرة يكتنفها خطأ كثير، فإن أغلب الناس يظن الموت فقدان الإحساس، وانتهاء الحياة، والدخول في أودية العدم، والتلاشي للذات الإنسانية، وكما تنفق دابة من الدواب، ثم ترمى تحت أكوام التراب، لتتحول بعد قليل ترابا، أو كما تذبح بقرة، وتتوارى في بطون الآكلين، وتنتهى، كذلك ينتهي الناس بالموت، وهذا ظن عدد كبير من الناس في الموت، وهو ظن يردد ظن الجاهلية الأولى، ويصور فهمها الشارد للحياة والموت معا، وهو فهم شاع في العصور الحديثة، لأن هذه العصور عبدت الحياة الدنيا، وأنكرت ما وراءها، ولذلك فهي تحسب المادة هي الحياة، وما وراء المادة وهم، وإن تفكير الناس في أن الموت نهاية الآلام هو الذي يجعل رجلا متألما ينتحر، لماذا؟ يتصور الأحمق أن الموت يحسم الوجود، ويقطع الألم.
ولو أدرك أنه بالموت سوف يبقى حيا، وأنه بالموت ينتقل من مرحلة تمثل وجودا محدودا إلى مرحلة تمثل وجودا غير محدود لتريث كثيرا قبل أن يزهق روحه، وقبل أن يقتل نفسه، ولكن هذا التفكير المادى البحت غلب كثيرا من الناس، فالقرآن الكريم قد صور لنا الموت على أنه بدء الحياة، وفى حديث القرآن الكريم عن المجرمين وعن المؤمنين نسمع في كلا الموضعين أن الموت بدء الحياة، وبدء الحساب والثواب والعقاب، وإنه يلحق بالشهداء أيضا من مات حرقا، ومن مات غرقا، ومن مات مبطونا، ومن مات مطعونا، وعدد من المصاير الفاجعة التي تصيب الناس، والأصل في هذا ما جاء في الحديث الشريف “ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه” فإذا مات مؤمن في حادث من هذه الحوادث المحزنة المتعبة فهو يلحق عند الله بالشهداء، ولكن هل الشهداء تستوى منازلهم عند الله؟ فإنه لا، وإن كانت الشهادة فعلا ختاما حسنا لحياة الإنسان، إلا أن الناس الذين استشهدوا درجات، فقال تعالى كما جاء فى سورة الإسراء ” انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا” وفى حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “الشهداء أربعة رجل، رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذاك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا، ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته، يقول الراوي فلا أدرى قلنسوة عمر بن الخطاب أراد.
أم قلنسوة النبي صلى الله عليه وسلم، قال ورجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فكأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجُبن، أتاه سهم غرب فقتله، فهو في الدرجة الثانية، ورجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الثالثة، ورجل مؤمن أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك في الدرجة الرابعة” وإن الناس درجات، والحساب الإلهي دقيق، والناقد بصير، فيجب أن ننقب في أنفسنا، وأن نعلم مَن نعامل، والشهداء الذين ذهبوا إلى الله تعالى على اختلاف أماكنهم ودرجاتهم لهم نماذج في التاريخ القديم والحديث، وما أحوج الأمة الإسلامية إلى هذه النماذج، ما أحوجها أن تعرف من رجالها الكبار، ومن أبطالها الذين تأخذ منهم الأسوة، ذلك لأن أعداء الإسلام ما طمعوا فيه، ولا نالوا منه، ولا تجرؤوا عليه، إلا لأن أمتنا ثشبثت بالحياة على الأرض، وأخلدت إلى الهوى والشهوة، وقاتلت على الحطام الفاني، ونافست فيما لا وزن له عند الله عز وجل، ويقول التاريخ إن الدولة الفارسية برغم أنها هزمت في معركة القادسية وسقطت عاصمتها بقيت تقاوم مقاومة عنيدة حتى خشي على بقاء الإسلام هناك، فدخل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه المسجد، وتفرس في الصفوف، ليختار قائدا من المصلين يبعث به إلى فارس فنظر فإذا النعمان بن مقرن رضي الله عنه يصلي، فذهب إليه وقال له يا نعمان، أريد أن أستعملك في عمل، فقال له النعمان إن كان جابيا فلا، أي إن كنت تريد أن تبعثني لأجيء بمال، فلا.
فقال له بل بعثتك لتقود جبهة المسلمين في فارس، فقال نعم، وذهب النعمان ليقود المعركة الحاسمة في فارس، والمعركة التي أجهزت على النفوذ الفارسي تماما، وأخمدت أنفاسه إلى الأبد، وتسمى المعركة في التاريخ معركة نهاوند، فإن الرجل قبل أن يهجم قال للمسلمين إني هاز لوائي ثلاثا، وإنى داع فأمّنوا، ودعا فقال اللهم ارزق المسلمين نصرا، وارزقنى فيه الشهادة، وإن الحقيقة إذا تأملت في المعركة فسوف تستغرب، حيث يقول المؤرخون إن المعركة بلغ من ضراوتها وكثرة ما سفك من دم فيها أن الخيل كانت تنزلق على الصخر من كثرة ما سفك من دم وقاد النعمان بن مقرن المعركة، وأصيب بجرح قاتل وسقط، ولكنه سقط حيا، وقاد المعركة رجل آخر من المسلمين، وانتصر المسلمون، وجاء البشير إلى النعمان وهو جريح يقول له انتهت المعركة، فقال على من الدائرة؟ قال على أعداء الله، فحمد الله تعالى ومات، فيجب علينا أن ننظر إلى الرجل القائد خريج المسجد، الراكع الساجد، الرجل الذي أبى أن يذهب في منصب ينتظر أن يغنم منه شيئا، أو يفيد منه خيرا، واشترط على الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أول ما حدثه ألا يذهب في منصب من هذه المناصب، ثم لما دعا ناس كثيرون قد يفكرون في أن يعودوا إلى بلدهم ليجنوا ثمرة النصر الذي أحرزوه، تلتف حولهم الجماهير، يهتفون لهم، يهنئونهم، يضعون الألقاب وراء أسمائهم، ولكن النعمان احتقر هذا كله وطلب النصر للمسلمين، والشهادة للنعمان، ولذلك لما جاء البشير إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه بالنصر
فقد سأل عمر رضى الله عنه، ما فعل النعمان؟ قال قتل، فخرج إلى الناس فنعاه إليهم على المنبر، ووضع يده على رأسه وبكى، فكان هذا شهيد من قادتنا، وأما عن جملة الشهداء والتعرف عليهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد فقال صلى الله عليه وسلم “إن شهداء أمتي إذا لقليل” قالوا فمن هم يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم “من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد والغريق شهيد” رواه مسلمن وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيد” رواه أبو داود، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله” رواه البخاري، وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “خمس من قبض في شيء منهن فهو شهيد المقتول في سبيل الله شهيد والغرق في سبيل الله شهيد والمبطون في سبيل الله شهيد والمطعون في سبيل الله شهيد والنفساء في سبيل الله شهيد”رواه النسائى، ويتبين مما سبق أن من شهداء الآخرة كذلك هو من مات بالطاعون وهو وباء معروف، صحت الأحاديث فيه أنه شهادة، فعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “الطاعون شهادة لكل مسلم” رواه البخارى.
التعليقات