ونكمل الجزء الثالث مع العزير عليه السلام، وقد توقفنا عندما ركب نبى الله العزير عليه السلام، حماره ليعود إلى منزله، فأنكر الناس وأنكره الناس كما أنكر منزله، فقد تغير كل شيء، فراح يخمن مكان منزله حتى وصل إليه، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة عمرها نحو مائة وعشرون سنة، هذه المرأة كانت أمة لهم، وكانت شابة في العشرين من عمرها وقت أن اختفى عزير عنهم، فسأل العزير هذه العجوز وقال لها يا هذه أهذا منزل عزير؟ فبكت وقالت عزير؟ نعم، هذا منزل عزير، وما أدراك به؟ لقد نسيه الناس، وما رأيت أحدا يذكره منذ زمن بعيد، فعرف عزير المرأة وقال إني أنا عزير، ألا تذكريني؟ إن الله قد أماتني مائة سنة ثم بعثني، قالت سبحان الله، إن عزيرا قد فقدناه بالفعل منذ مائة سنة فلم نسمع له بذكر، قال إني أنا هو، قالت فإن عزيرا رجل مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادعوا الله أن يرد عليّ بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك، فدعا عزير ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا، وأخذ بيدها فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة، فلما نظرت إليه قالت أشهد أنك عزير، وانطلق عزير مع أمته إلى أندية ومجالس بني إسرائيل، وكان في مجلسهم شيخ كبير وهو ابن عزير، وحوله بنيه شيوخ وهم أحفاد عزير، فنادت المرأة فيهم يا سيدي، هذا عزير قد جاءكم، فكذبوها، فقالت أنا فلانة مولاتكم، جاء عزير فدعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه، فنهض الناس أقبلوا إليه فنظروا إليه مندهشين.
فقال الشيخ الكبير ابن عزير، كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه، فكشف عزير عن كتفيه فوجدوها، فقالت بنو إسرائيل فإنه لم يكن فينا أحد يحفظ التوراة غير عزير، وكان الملك بختنصر، قد حرق التوراة ولم يبقى منها شيء إلا بعض ما يحفظه الرجال، فإن كنت عزير اكتبها لنا، فقال العزير إن أبي قد دفن التوراة أيام الملك بختنصر، في موضع لم يعرفه أحد غيري، فانطلقوا معي نستخرجه، فلما استخرج التوراة وجد أوراقها قد تلفت وتعفنت، فجلس في ظل شجرة وحوله بني إسرائيل، ونزل من السماء شهابان حتى دخلا جوف عزير فتذكر التوراة، فتلاها على بني إسرائيل وجددها لهم، فانحرفت بنو إسرائيل من بعده وقالوا لم يستطع نبى الله موسى أن يأتينا بالتوراة إلا في كتاب وأن عزيرا قد جاءنا بها من غير كتاب، فرماه طوائف منهم وقالوا عزير ابن الله وانقطع تواتر التوراة من بعد العزير، وأما الملك الذى خربت فيه القدس وهى القرية التى مر بها نبى الله العزيز، هو الملك بختنصر، أو نبوخذ نصر، أو بخترشاه، وهو أحد الملوك الكلدان الذين حكموا بابل وهو أكبر أبناء نبوبولاسر، ويعتبر نبوخذ نصر أحد هو أقوى الملوك الذين حكموا بابل وبلاد الرافدين حيث جعل من الإمبراطورية الكلدانية البابلية أقوى الإمبراطوريات في عهده بعد أن خاض عدة حروب ضد الآشوريين والمصريين وكما أنه قام بإسقاط مدينة أورشليم وهى القدس مرتين إذ قام بسبي سكان أورشليم وأنهى حكم سلالة نبى الله داود وكما ذكر أنه كان مسؤولا عن بناء عدة أعمال عمرانية في بابل مثل الجنائن المعلقة ومعبد إيتيمينانكي وبوابة عشتار.
وإن الاسم الأكدي لنبوخذ نصر هو نبو كودورو أوصور، ومعناه نابو حامي الحدود، ونابو هو إله التجارة عند البابليين وهو ابن الاله مردوخ، ولقد أطلق عليه الفرس اسم بختنصر ومعناه السعيد الحظ، أما الأكاديميون والمؤرخون الحاليون يفضلون تسميته بنبوخذ نصر الكبير، أو نبوخذ نصر الثاني وذلك لوجود ملك آخر استخدم هذا الاسم قبله وهو نبوخذ نصر الأول الذي حكم بابل في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ونبوخذ نصر هو الابن الأكبر لنبوبولاسر مؤسس سلالة بابل الحادية عشر، نبوبولاسر والذي قال عنه المؤرخ الكلداني بيروسوس بأنه حول بابل من منطقة تحت سلطة الاحتلال الآشوري إلى إمبراطورية عظيمة، وهو الذي قام بإسقاط نينوى عاصمة الإمبراطورية الآشورية بمساعدة الميديين، وقبل أن يصبح نبوخذ نصر ملكا، قاد الكلدان إلى هزيمة الآشوريين مرة أخرى الذين حظوا بدعم الملك المصري نخاو الثاني وتمكن من هزيمة الفراعنة والآشوريين في معركة كركميش في عام ستمائة وخمسة قبل الميلاد، وبعد ذلك تمكن نبوخذ نصر من السيطرة على المناطق التي كانت محتلة من قبل الآشوريين ومنها الشام وفينيقية، ولكن في نفس العام وفي شهر أغسطس توفي والد نبوخذ نصر الملك نبوبولاسر، فعاد نبوخذ نصر إلى بابل ملكا شرعيا عليها، و في عام ستمائة وخمسة قبل الميلاد، قاتلت قوة مصرية بقيادة الفرعون نخو الثاني بمساعدة فلول الجيش الآشوري السابق البابليين بقيادة الملك نبوخذنصر في معركة كركميش.
وقد أنتهت المعركة بتدمير جيوش الفرعون نخو الثاني، ولقد مد نبوخذ نصر جيوشه إلى الشام ويهوذا ووصل إلى حدود مصر بالتحديد في أرض غزة الحالية، وهزم فيما يعرف بمعركة غزة وذلك في عام ستمائة وواحد قبل الميلاد، مما منع البابليين من التوغل إلى مصر، ولم يقم نبوخذ نصر بتدمير المدن التي كان يدخلها وأكتفى فقط بفرض الجزية عليها، ولكن بعد انسحاب المصريين من الأراضي الشامية بدأت تحرض الممالك الكنعانية ضد سلطة بابل عليها، فكانت مدينة عسقلان أول المدن التي عصت في عام ستمائة وأربعه قبل الميلاد، فقام نبوخذنصر باحتلالها وسبى بعض من سكانها وعين ملكا آخر عليها، ولم تقبل مملكة يهوذا أيضا بدفع الجزية إلى بابل وقرر يهوياقيم ملك يهوذا العصيان على بابل، ففرض نبوخذ نصر الحصار على أورشليم عاصمة مملكة يهوذا وسبى بعضا من سكانها مع ملكهم يهويا كين إلا أن نبوخذ نصر لم يسقط مملكة يهوذا وأقام صدقيا ابن الملك يهوياقيم مكانه ملك على يهوذا، إلا أن اليهوذيين قرروا العصيان مرة أخرى وبقيادة صدقيا وبدعم من المصريين، فقام البابليون في البداية بهزيمة المصريين الذين جاؤوا لمساعدة يهوذا، وبعدها إتجه البابليون لمحاربة مملكة يهوذا، فقام البابليون بحصارها لسنة كاملة وبعدها تمكن نبوخذنصر من اختراق مدينة أورشليم وثم دخلوا إلى أورشليم وسبوا معظم سكانها ومنهم ملكهم صدقيا الذي نصبه نبوخذ نصر ملكا وأحرقوا هيكل سليمان، وبهذا أنهى حكم سلالة داوود على مملكة يهوذا.
ولكن بعد ذلك قامت مدينة أخرى بالعصيان وهي مدينة صور الكنعانية فحاصرها لمدة ثلاثة عشر عام إلى ان قبل الكنعانيون الهيمنة البابلية، وبذلك يعد هذا الحصار الأطول في التاريخ على مدينة، وحسب ما يقول نبوخذنصر في إحدى الألواح الأثرية بأنه تمكن من عزل ملكها الشرير وشق الطرق إلى صور بين الجبال وشتت سكانها الأشرار إلى إتجاهات الأرض الأربعة واختار ملكا أخر عليها، وحسب أحد الألواح الموجودة حاليا في لندن، قيل أنه في السنة السابعه والثلاثين من حكمه جهز نبوخذ نصر جيشا إلى مصر لمواجهة الملك الفرعوني أحمس الثاني فعندما سمع الفرعون أحمس بذلك أيضا جهز جيشا من المصريين وتوجه نحو فينيقية لكن لا يعرف نتائج تلك الحرب لأن النص المسماري غير واضح ومخروم، وفي آخر أيام نبوخذ نصر قام ببناء إمبرطورية كلدانية بابلية عظيمة إمتدت قوتها من الخليج العربي وبلاد الفرس إلى البحر الأبيض المتوسط، وكانت بابل الإمبراطورية الأقوى في زمنه، وفي الشهر السادس من سنة حكمه مات نبوخذ نصر عن عمر ناهز أربعه وأربعين عاما في الحكم، وخلفه اميل مردوخ، وهكذا كان نبوخذ نصر أو بختنصر أحد الملوك الكلدان الذين حكموا بابل، وأكبر أبناء نبوبولاسر، ويعتبر أحد أقوى الملوك الذين حكموا بابل وبلاد الرافدين، حيث جعل من الإمبراطورية الكلدانية البابلية أقوى الإمبراطوريات في عهده، وقيل أن نبى الله عُزير جاء بعد نبى الله سليمان عليهما السلام بمائتي عام.
وذلك لما آلت اليه مملكته بعد وفاته من الانقسام الي طوائف متعددة مما أدى إلى الغزو الخارجي على يد بختنصر الحاقد على مملكة نبى الله سليمان، فقد أراد أن يجعل مملكته التي بالعراق أقوى من مملكة سليمان، فهدم القدس وحرق كل ما بناه نبى الله سليمان وأزاله، وقيل أنه عندما دخل الملك بختنصر القدس قتل الرجال وسبا النساء والأطفال، وهدم البيوت، ودمر كل ما بناه نبى الله سليمان، و ليس هذا فقط بل ساق خمسين ألف من أهل القدس كعبيد إلى العراق، وترك القدس بلا بشر، فجزء قتلى والجزء الآخر عبيد، وقبل أن يعود إلى مملكته أحرق القدس، فأصبحت بلا نبات أو حيوان أو حتى بيوت، ومن إعجاز القرآن وصف الآية الكريمة ذلك كما جاء فى سورة البقرة ” أو كالذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها ” والعروش هنا هي الأسطح، أي أنها أصبحت مساوية للأرض فقد دكها دكا، فلم يعد هناك بيوت أو بشر أو نبات أو ما يؤكل بها، أو حيوان فقد ماتت الحيوانات أو هربت خوفا من الحريق، وفي سياق اخر، نقلا عن كتاب الكامل في التاريخ لابن الاثير، ان هذه هي الأسباب الظاهرة ، وإنما السبب وراء الانتقام من بني إسرائيل هو معصية الله تعالى ومخالفة أوامره، حيث كانت سنة الله تعالى في بني إسرائيل أنه إذا ملك عليهم ملكا أرسل معه نبيا يرشده ويهديه إلى أحكام التوراة، فلما كان قبل مسير بختنصر إليهم كثرت فيهم المعاصي، وكان الملك فيهم يقونيا بن يوياقيم، فبعث الله إليه إرميا، وقيل أنه هو الخضر عليه السلام.
فأقام فيهم يدعوهم إلى الله وينهاهم عن المعاصي ويذكر لهم نعمة الله عليهم بإهلاك سنحاريب، فلم يستمعوا، فأمره الله أن يحذرهم عقوبته وأنه إن لم يراجعوا الطاعة سلط عليهم من يقتلهم ويسبي ذراريهم ويخرب مدينتهم، ويستعبدهم ويأتيهم بجنود ينزع من قلوبهم الرأفة والرحمة، فلم يراجعوها، فأرسل الله إليه لأسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتبا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يهلك بني إسرائيل وينتقم منهم ويخرب بيت المقدس، وقيل إن عزيرا كان عبدا صالحا حكيما خرج ذات يوم إلى قرية، فلما قامت الظهيرة وأصابه الحر أتى إلى خربة و حين دخل الخربة نزل عن حماره وكان معه سلة فيها تين وسلة فيها عنب، وأخرج قصعة معه فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة ثم أخرج خبزا يابسا معه فألقاه في تلك القصعة في العصير ليبتل ليأكله، ثم استلقى على ظهره وأسند رجليه إلى الحائط, فنظر إلى سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها وقد باد أهلها ورأى عظاما بالية فقال ” أنى يحيى هذه الله بعد موتها” فلم يشك أن الله يحييها ولكن قالها تعجبا فبعث الله ملك الموت فقبض روحه، فأماته الله مائة عام، فلما أتت عليه مائة عام، بعث الله إلى عزير ملكا فخلق قلبه ليعقل قلبه وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى، ثم ركب خلقه وهو ينظر، ثم كسا عظامه اللحم والشعر والجلد ثم نفخ فيه الروح كل ذلك وهو يرى ويعقل، فاستوى جالسا فقال له الملك كم لبثت؟ قال عزير، لبثت يوما أو بعض يوم.
التعليقات