لقد اعتنى الإسلام بالأيتام، وحث على ضرورة رعايتهم، وتأديبهم، والدفاع عنهم، والحفاظ على حقوقهم، والإحسان إليهم، إذ إن اليتيم يحتاج للعطف والحنان واللين ممن حوله، كما يلزمه الإرشاد والتوجيه في حياته، ليخرج بصورة حسنة، متخلق بأسمى وأحسن الأخلاق والصفات، وقد نبّه الله تعالى على ضرورة العطف على اليتيم في القرآن الكريم، فقال سبحانه وتعالى” فأما اليتيم فلا تقهر” وكما وردت العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي ترغب وتحث على رعاية حقوق اليتيم، والعطف عليه، وكفالته، وعن مالك بن الحارث أنه سمع النبى الكريم صلى الله عليه وسلم يقول” من ضم يتيما بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة ألبتة، ومن أعتق امرءا مسلما كان فكاكه من النار يجزي بكل عضو منه عضوا من النار” رواه الإمام أحمد، وعن أبي أمامة الباهلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال” من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وفرَّق بين أصبعيه السبابة والوسطى” وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “هذا المال خضرة حلوة ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه اليتيم والمسكين وابن السبيل” رواه الإمام أحمد، وعن ابن عباس، أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” من قبض يتيما من بين المسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة البته إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر له ” رواه الترمذى، وقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه.
” أعينوا الضعيف والمظلوم والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وارحموا الأرملة واليتيم” وكما حذر الله سبحانه وتعالى، في بعض الآيات القرآنية من إهمال حقوق الأيتام، أو عدم أدائها، والتقصير فيها وذلك مما يدل على شمولية الدين، وتكامله، مما يساهم في بناء مجتمع قوى لا يفرق بين أحد من أفراده، فاليتيم هو من مات عنه أبوه وهو صغير لم يبلغ الحلم؛ أى قبل البلوغ، ويستمر وصفه باليتم حتى يبلغ، لقول النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ” لا يتم بعد احتلام ” وهناك اللطيم وهو الذى فقد كلا الوالدين، وكل لطيم يتيم وإن كان ذلك قبل البلوغ، وليس كل يتيم لطيما لأن اليتيم هو من مات عنه الأب قبل البلوغ واللطيم من مات عنه الوالدان، ولقد أوصانا الله تعالى برعاية اليتيم وحذرنا من خيانة أمانته وأكل ماله ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة واشار باصبعيه السبابة والوسطى” فاتقوا الله تعالى وأعدوا الزاد للقائه فهو سبحانه وتعالى القائل ” وتزودوا فإن خيرالزاد التقوى ” ويقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم كما جاء فى سورة الأنعام ” ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا نكلف نفسا إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله اوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون” فإن رعاية اليتيم ثوابه هو صحبة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة، فإن هذه هي الآية الثانية من ثلاث آيات تضمنت الوصايا العشر المذكورة في سورة الأنعام.
وكانت الآية الأولى قد ذكرت خمسا منها هي توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به، والإحسان إلى الوالدين ورعاية الأبناء بدل قتلهم خشية الفقر، واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واجتناب قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق فيكون الإحسان إلى اليتيم والعدل في أمواله هو الوصيةالسادسة، وإن الأب والأم هم أعظم نعمة أنعم الله عزوجل بها على الإنسان، وهم أجمل هدية، فالأم هي من تتحمل تعب التسعة شهور في حملها لطفلها وتنتظر اليوم تلو الآخر لتكحل عينيها برؤيته وتضمه إليها، فكما قال عز وجل في كتابه الكريم ” حملته أمه وهنا على وهن ” والوهن في هذه الآية الكريمة يعني التعب، فبالإضافة إلى الآلام التي تتكبدها في حمل إبنها وولادتها فهي من تسهر على راحته ويظل قلبها وفؤادها دائما مشغولان بطفلها، كما تهتم دائما بأدق التفاصيل التي تخصه فهي من يهتم بإطعامه أفضل الطعام وبمظهره ونظافته، وهي من تهتم بصحته وتسهر على راحته في حال مرضه، فالأم هي نبع الحنان والطمأنينة لأبنائها، والأب هو عمود البيت ولا يقوم البيت إلا بوجوده، وهو رمز الأمان والقوة لأبنائه، وهو القدوة لأبنائه، وهو من يعمل ليل نهار ليؤمن جميع إحتياجات عائلته، وهو الذي يساعد أبنائه ويوجههم إلى الطريق الصحيح، فشخصيته النشطة تلعب دورا كبيرا في سلوكيات وتصرفات أبنائه، فالأم في العادة عاطفتها التي تحركها في تربيتها لأبنائها، بينما الأب عقلانيته وحكمته هي التي تجعله يتصرف بوعي وإدراك مع أبنائه، فلا يمكن إنكار أن دور الأم والأب متكامل في تأسيس وإنشاء عائلة سعيدة.
فالأم والأب هم من يقفوا إلى جانب أبنائهم منذ صغرهم وحتى بلوغهم السن التي يستطيعون فيها الإعتماد على أنفسهم ومواجهة الحياة، فلا بد أن يقدر الأبناء الجهود الحثيثة التي قام بها آبائهم في تربيتهم، فعلى الأبناء الإهتمام بوالديهم والعناية بهم ومراعاة إحتياجاتهم وإظهار بالغ الإحترام والتقدير لهم وخاصةً عندما يتقدم بهم العمر ويصبحون بحاجة أبنائهم، فرضا الوالدين هو سبب رضا الله عزوجل على الإنسان، وخاصةً الأم، التي تعد خدمتها والحصول على رضاها سبب دخول الجنة، كما جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال” الجنة تحت أقدام الأمهات” و من الواجب على شخص خدمة والديه بكل حب ورضا فقد قال تعالى في كتابه الكريم كما جاء فى سورة الإسراء” وإما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ” وإن من أبشع وأفظع المصائب التي قد تواجه أي إنسان في حياته هي فقدانه لأبيه أو فقدانه لأمه أو فقدانهما معا، ففقدان الأب يعني فقدان الأمان والقدوة التي يقتدي بها الإنسان من الحياة، وفقدان الأم فقدان الحنان والطمأنينة والدفء من هذه الحياة، فهنيئا لمن لا يزال أبواه على قيد الحياة، وإن عادة ما يطلق لفظ اليتيم على من فقد أباه أو فقد أمه أو فقد أبويه معا، لكن هذا من أكثر الأخطاء الشائعة، ففي اللغة يسمى من فقد والده فقط وهو صغير باليتيم، بينما الإنسان الفاقد لأمه فقط بالعجي، والشخص الذي فقد والديه معا يسمى باللطيم، فإن اليتيم هو الذي فقد أبويه أو أحدهما صغيرا، فإذا بلغ لم يعد يتيما.
وقد نشأ سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يتيما، فقد مات أبوه عبد الله وهو في بطن أمه آمنة، وماتت أمه وهو ابن خمس سنين صلى الله عليه وسلم، فكفله جده عبد المطلب حتى بلغ الثامنة، ثم كفله بعد موت جده أبو طالب عمه، واليتم موجود في كل عصر ومصر، لأن الاعمار مختلفة، فمن الناس من يموت صغيرا، ومنهم من يموت بعد عمر طويل، ولا أحد يملك أجله في يده، فقد يموت المرء وهو عريس أو يموت وهو في أوج شبابه وأبناؤه صغار فيصيرون أيتاما بعده، ويضاف إلى هذا السبب العام أسباب خاصة لا يخلو منها مجتمع ومنها الحروب وحوادث السير والشغل والأمراض الوبائية والزلازل والفياضانات وامثالها مما يخلف الأرامل والأيتام، فالحاجة ماسة إلى التوصية بهم والنهي عن استغلال ضعفهم وقلة خبرتهم ومفاجأة الموت لعائلهم ووليهم، وقد كثرت الآيات الكريمة التي توصي باليتيم خيرا وتأمر بالعدل معه والإحسان إليه وتحرم ظلمه في نفسه وماله، وما من أحد منا إلا ويعرف أعدادا من الأيتام في صغره وكبره، وبعضهم نشأ معه أو درس في مدرسته أو قعد إلى جنبه في مقعد الدراسة، وأمال إذا تكلمنا عن اليتيم في الإسلام، فإننا أمام ظاهرة اجتماعية حاضرة في كل وقت وحين، والتداعيات التي تنتج عن إهمال هؤلاء الأيتام أو السطو على أموالهم وأكلها ظلما وعدوانا تضر بالمجتمع كله وردود الفعل المحتملة من هؤلاء الأيتام عندما يكبرون ويرشدون تفرض على المجتمع أن يقوم بواجبه نحوهم في مرحلة الصغر، وقد عد الإسلام أكل مال اليتيم بغير حق من الكبائر السبع الموبقة.
فقد أخرج البخارى ومسلم في حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم” اتقوا السبع الموبقات، قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال صلى الله عليه وسلم” الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل االربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات” وبما أن أحسن وضع ينشأ فيه اليتيم هو الأسرة بدلا من الملاجئ الجماعية، فإن عمل المسلمين منذ عهد الصحابة الكرام سار على هذا، فكانت الأسر تتولى كفالة اليتيم وخاصة أقاربه من الإخوة والأعمام والأخوال، وقد يتولى كفالته رجل صالح أجنبي عنه، وقد تتولاه أمه إذا مات أبوه، أو يتولاه أبوه إذا ماتت أمه، ولم تكن الملاجئ الجماعية شائعة، وإن كانت موجودة في بعض الأحيان، فإن هذا الاختيار الذي مضى عليه الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ومن بعدهم من المسلمين طرح سؤالا عند بعض الصحابة فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن الكريم يجيبهم والسؤال هو هل إذا تولى المسلم كفالة يتيم في بيته يعزل طعامه أو يكون طعامه وطعام أهل البيت واحدا، وقد رفع سبحانه الحرج عن المسلمين فأجاز مخالطة هؤلاء الأيتام في الطعام وغيره، إذا لم يكن ذلك ذريعة للتحايل على أموالهم وأخذها ، فقال الله تعالى كما جاء في سورة النساء ” ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير، وإن تخالطوهم فإخوانكم، والله يصلح المفسد من المصلح” ولقد كان بعض المسلمين إذا اضطر للأخذ من مال اليتيم بقصد الإنفاق عليه ليجعله سلفا في ذمته يعيده إليه عندما يستغني وهذا من الورع.
كما أن القضاة في تاريخ الإسلام يراقبون الكفيل، ويفرضون له إذا كان فقيرا مبلغا محددا حتى يمنعوا التوسع والإسراف في صرف أموال اليتيم، وقد اجتمع في هذا المقام أمر ونهي، فالأمر بكفالة اليتيم حتى يكبر، والنهي عن أكل ماله ظلما، وحتى لا يخاف المسلم من هذا العمل جاءت هذه الرخص عند ممارسة الكفالة، والمبدأ ثابت وهو النصح لليتيم وابتغاء مصلحته والاجتهاد في ذلك بقدر الوسع والطاقة، واليوم، إضافة إلى الدور الاول الذي تقوم به الأسر والعائلات في ضم الأيتام إليها وإدماجهم ضمن أفرادها تقوم عدة جمعيات اجتماعية برعاية الأيتام، وتتلقى مساعدات للقيام بهذه الرعاية، وبعضها يعلن عن المبلغ المالي اللازم لكفاية اليتيم مدة شهر أو سنة، ويدعو الناس للمشاركة بالمال، وتكون الجمعية وسيطا بين المتبرع والقائم على كفالة اليتيم، وبذلك يتعاون صاحب المال بماله وصاحب الجهد بعمله، وهذه الجمعيات مثل الأفراد والأسر مطالبة بالعدل مع هؤلاء الأيتام، وما يصرف إليها باسمهم هو أمانة عندها، لا يجوز أن تتصرف فيه بخلاف مصلحتهم، واليتامى هم أمانات في أيدي الجمعيات وعموم المسلمين وإهمالهم أوأكل أموالهم خيانة لهذه الأمانات وسوف يحاسبون عليها أمام الله عز وجل، فإن إن الإسلام عندما جعل أكل مال اليتيم من السبع الموبقات نظر إلى الفعل في نفسه وإلى ما يترتب عليه، حتى لا يسيء أحد لهذا العمل النبيل، الذي ينظر إليه الناس نظرة تقدير واحترام، فجاء ذلك الوعيد الشديد في مثل قوله تعالى ” إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا” .
التعليقات