ونكمل الجزء السادس مع حق الجار، وقد توقفنا مع الإحسان إلى الجار، وإن من وجوه الإحسان إلى الجار هو تهنئته عند فرحه، وتعزيته عند مصيبته، وعيادته عند مرضه، وبداءته بالسلام والبشاشة في وجهه، والإحسان إلى أهله وأولاده، وتفقد أحواله، وإرشاده إلى ما ينفعه في أمر دنياه و دينه، والإهداء إليه، وإعارته، أو إعطاؤه ما يحتاج إليه ونحو ذلك، ومن أهم ما يحسن إليه هو سد خلته، وتفقد مطعمه ومشربه، لأن قوام الحياة بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم” يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك” فينبغي النظر في مراتب الجيران وتقديم الأقرب فالأقرب، والأولى فالأولى في الإهداء وبذل المعروف، فعن عائشة السيدة رضي الله عنها قالت، قلت يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال “إلى أقربهما منك بابا” ولقد ورد الوعيد في حق من يقصر في هذا الحق، فقال النبي الكريم صلى الله عليه و سلم “ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به” وعن ابن عمر قال لقد أتى علينا زمان وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول يا رب، هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه” وهذا الحديث الشريف يحتم علينا مراجعة أنفسنا ها هنا في الدنيا قبل الآخرة في تقصيرنا في بذل المعروف الحسي والمعنوي للجار.
ومن حقوق الجار على جاره احتمال أذاه، والصفح عن هفواته، والعفو عن عثراته، واحتمال سوء تصرفاته، وهذا أدب عظيم يكشف عن حسن المعدن، وكرم المنبت، وشرف الخلق، ونبل الصفات، وهذا الحق كثيرا ما قصّر فيه الجيران، وضاقت بعض النفوس عن استيعابه، وعدّته العادات شيئا غريبا، فكم من مشكلات حدثت، وروابط انفصمت، ومحبة تحولت إلى بغضاء، ووصل تبدل إلى جفاء، وإحسان تحول إلى إساءة، وسبب ذلك ضعف مراعاة هذا الأدب، فهذا الحق يحتاج إلى انتصار على النفوس، ونجاح في هضم الحمية المقيتة، وكبح لجماح الغضب والطيش، وهذا صعب على كثير من النفوس، خصوصا من لها مكانة بين الجيران، أو جاءها الأذى ممن هو أدنى منزلة منها ولهذا فإن هذا الحق أصعب الحقوق على النفوس، فبذل المعروف قد يكون شيمة يطبع عليها الإنسان، بخلاف الصبر على أذى الآخرين، فالجار الصالح حقيقة إنما يبتلى بهذا الحق ويُعرف به، وقال بعض الصالحين “ليس حسن الجوار كف الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى” وإن من شقاء المرء أن يجاور جار سوء، والإنسان الصالح لا يضيق بشيء ذرعاً ضيقه بجار السوء الذي يسمع منه الخنا، ويلقى منه العناء، إن كلمه بالحسنى عاداه، وإن سكت على شره آذاه، عِيل صبُره، وضاق صدره، فاضطر إلى بيع داره، أو تحوّل عنه إلى سواه، خاصة في هذا الزمن الذي قلت فيه المساكن وضاقت البيوت بمن فيها، فحين يرحل جار آذاه جاره، ويسأل عن سبب رحيله، وإن لضرر الجار السيء.
هو ما جعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول “اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول” ومعناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الجار السيء الملازم في الوطن المستقَر فيه، بخلاف الجار المؤذي الذي يبقى زمنا ثم يذهب كصاحب البادية ونحوه، فإن الجار الصالح حين يسمع برحيل جاره الصالح يحزنه ذلك أشد الحزن، ويعد رحيله من جواره مصيبة من المصائب، كأنما رحل واحد من أهل بيته، وقيل أنه أراد جار لأبي حمزة السكري رحمه الله أن يبيع داره، فقيل له بكم؟ قال بألفين ثمن الدار، وبألفين جوار أبي حمزة، وباع أحد السلف داره بمائة ألف درهم؟ ثم قال بكم تشترون جوار جاري فلان؟ فقالوا وهل يشترى جوار قط؟ قال ردوا علي داري، وخذوا مالكم، لا أدع جوار رجل إن قعدت سأل عني، وإن رآني رحّب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قرّبني، وإن سألته قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وإن نابتني نائبة فرّج عنى، فبلغ ذلك جاره الذي مدحه بهذا الكلام فبعث إليه بمائة ألف درهم، وقيل هو سعيد بن العاص، وبعد هذا فما علينا أن نحاسب أنفسنا قبل أن نعاتب جيراننا، وأن نؤدي الحقوق التي علينا قبل أن نطلب حقوقنا، فلنبدأ بأنفسنا، ولنحذر كل الحذر الإساءة إلى الجيران، فإن العاقبة وخيمة، والعقوبة أليمة، واللعنة تنتظر المؤذي، والذنب مضاعف، فلينتبه، ولقد أوصى الإسلام بالجار وأعلى من قدره، فللجار في الإسلام حرمة مصونة وحقوق كثيرة، لم تعرفها قوانين وشرائع البشر والدول.
تلك القوانين والشرائع الوضعية التي تتنكر للجار وتستمرئ العبث بحرمته، فقد قرن الله حق الجار بعبادته وتوحيده وبالإحسان للوالدين واليتامى والأرحام، ومن صور أذية الجيران تأجير من لا يرغبون في إسكانه بينهم، كحال من يؤجر للعزّاب بين البيوت الآهلة بالحُرم، أو من يؤجر للفسقة المنحرفين الذين يخشى منهم إفساد أبناء الحي، أو كحال من يؤجر المحلات التي تجلب الضرر على الجيران، كقصور الأفراح ومحلات المقاهي والاستراحات ونحوها، وقال ابن رجب رحمه الله “ومذهب أحمد ومالك أن يمنع الجار من أن يتصرف في خاص ملكه بما يضرّ بجاره” وقريب من هذا أن يبيع الرجل ما يملكه من منزل أو أرض دون عرض ذلك على جيرانه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “من كانت له أرض فأراد أن يبيعها فليعرضها على جاره” ومن أعظم وأخطر صور الأذية للجار الخيانة والغدر به، كالتجسس عليه، والوشاية به عند أعدائه، وتتبع عوراته، والنظر إلى محارمه عبر سطح المنزل أو النوافذ المطلة، أو حال زيارة الجيران لأهله، فإنه من أقبح الخصال وأحطها، ولا يصنع ذلك إلا لئيم خسيس الطبع، فإن العرب على جاهليتها كانت تأنف من مثل هذه الخصال الدنيئة وتأباها وتفخر بالترفع عنها فأين هذا من أخلاق وتصرفات بعض قليلي المروءة والحياء حين ينتظرون جاراتهم ويرقبونهن حال دخولهن وخروجهن من بيوتهن؟
وأين هذا من حال أولئك الغادرين الخائنين الذين نشاهدهم كل يوم يعاكسوا بنات الجيران ويؤذونهن؟ وأين هذا من فعل ذلك الغادر الخائن لجاره حين عاكس جارته عبر الهاتف أو جلس أمام منزلها مقابلا لبابها، وأمام دكانه أو مكتبه؟ فكم تقع حالات من الخيانة والغدر والأذية في الأعراض بين الجيران، بل أغلب ما تكون هذه الأفعال الدنيئة صادرة من جار على جاره، أو جارة سيئة مع جارها، تبدي له زينتها وتتبرج أمامه، ما قد ينتج عنه خيانة وغدر بالأعراض عن طريق ارتكاب المنكرات والفواحش بين الجيران، وهذا في غاية الفحش والبشاعة، لأن فاعل ذلك قد جمع جرائم عدة، كل جريمة أكبر من أختها، من الاعتداء على حق الله تعالى، وعلى حق الزوج، وهتك حرمة الجار الذي ينتظر من جاره أن يصونه ويحافظ على عرضه حال غيابه، ولهذا جاء الوعيد الشديد من النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، محذرا كل معاكس وغادر ومتطلع على عورات جيرانه ونسائهم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال، قلت يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال “أن تجعل لله ندا وهو خلقك” قلت ثم أي؟ قال”أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك” قلت ثم أي؟ قال”أن تزاني حليلة جارك” وعن المقداد رضي الله عنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما تقولون في الزنا؟ قالوا حرام حرّمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره” ألا فليتق الله أولئك الغادرون الخائنون الذين يتصيدون الفرص.
وينتهزون الأوقات، ليخونوا جيرانا لهم ويؤذوهم ويغدروا بهم، عن طريق المعاكسات الحية والهاتفية، أو عن طريق النظر والمراسلة، فإن جُرم ذلك عظيم وخطره جسيم، فيقول تعالى كما جاء فى سورة الأحزاب ” والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ” فإن من حسن الجوار أن تعزّي جارك عند المصيبة، وتهنئه عند الفرح، وتعوده عند المرض، وتبدأه بالسلام، وتطلق له وجهك عند اللقاء، وترشده إلى ما ينفعه في أمر دينه ودنياه، وتواصله بما تستطيع من ضروب الإحسان، فقد يكون محتاجا مُعدما، أو قد ركبته الديون، أو لديه مريض، أو في البيت أرامل وأيتام، وأنت لا تعلم عنهم شيئا، وهم أولى بالإحسان من الأباعد، وإن من الإحسان للجيران تفقدهم بالطعام، فمع أنه لا يكلف شيئا إلا أن الغفلة عنه بين الجيران كبيرة، وآثاره في التآلف بينهم عظيمة، فعن أبي ذر رضي الله عنه- قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم “إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه، ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم”ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “تهادوا تحابوا” وينبغي أن لا يحقر الجار هدية جاءته من جاره مهما كانت، فإن ذلك من الكبر المذموم، فإن الهدية لا تقدر بقيمتها، وإنما تقدر بمعناها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم “يا نساء المؤمنات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرسن شاة” أي العظم قليل اللحم، وقيل هو حافر الشاة، وهو خف البعير، والمقصود به هنا حافر الشاة.
ولعل النبي خص النساء هنا المتجاورات بالتهادي لأنه يكثر منهن الاحتقار للهدية أو للمُهدي، ولأنهن أكثر التصاقا بالجيران من الرجال، ولأنهن موارد المودة أو البغضاء بالجيران، وإن رابع الحقوق بين الجيران هو احتمال أذى الجار، فللرجل فضل في أن يكف عن جاره الأذى، وله فضل في أن يذود عنه ويحميه، وله فضل في أن يواصله بالإحسان إليه جهده، وهناك فضل رابع وهو أن يغضي عن هفواته، ويتلقى بالصفح كثيرا من زلاته وإساءاته، وخصوصا إن صدرت عن غير قصد، فاحتمال أذى الجار وترك مقابلته بالمثل من أرفع الأخلاق وأعلى الشيم، وقد فقه السلف هذا المعنى وعملوا به، روى المروذي عن الحسن “ليس حسن الجوار كف الأذى، وحسن الجوار الصبر على الأذى” وكم نرى ونسمع في مخالفات لهذا الحق بين الجيران، فكم من الناس من هو كثير الخصومة والملاحاة مع جيرانه، يشاجر على كل صغيرة وكبيرة، ومما جعل هذه الأخلاق المبغوضة توجد بين بعض الجيران هو قلة حرص الجيران على إصلاح ذات بينهم، فالواجب على الجيران احتمال بعضهم بعضا، فإذا ما حصل نزاع أو خصومة سعى الأخيار في الإصلاح بين المتنازعين، وعلى الجار أن يقبل بالصلح ويفرح به ويشكر من سعى له، لا أن يرفض ويستعلي، فالجار أولى بالعفو من غيره، والتغاضي عن زلته، خصوصا إذا كان ذا فضل وإحسان وليس من حق الجار على جاره أن يرد الأذى بمثله والإساءة بأختها، فالله تعالى يقول كما جاء فى سورة الأعراف” خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”.
التعليقات