ونكمل الجزء الثالث مع السيدة راحيل بنت لابان زوجة نبى الله يعقوب، وأم نبى الله يوسف عليهما السلام، وقد توقفنا مع نبى الله يعقوب عندما كان مسافرا إلى خاله لابان، وتلفّت أمامه فإذا بصحراء ممتدة إلى حيث ينتهي البصر، ورمال لا معالم بها، فأدركه السأم، وأحس بالتعب، ووقف ساعة بين الإحجام والإقدام، أيواصل السير أم يؤثر العافية والراحة على هذا السفر الشاق ويقنع من الغنيمة بالإيمان؟ وفيما هو يفكر لمح صخرة تكتنف ظلا، فدلف إليها ليجلس ساعة، يريح فيها جسمه ويبرد قدميه، وما أسند ظهره إلى الصخرة حتى أدركته سِنة فنام، ورأى في نومه رؤيا صالحة شدت من أزره، ورأى أن الله سيؤتيه عيشا رضيا، ويمنحه ملكا واسعا، ويرزقه نسلا طيبا مباركا يورثهم الأرض ويعلمهم الكتاب، فقام من نومه منشرح الصدر وقد انفسحت أمامه رقعة الأمل، إذ رأى تعزيزا لنبوءة أبيه، وبشيرا بتحقيق أمانيه، وانطلق يعدو كالسهم مستأنفا السير بعزم جديد، وبعد أن قضى أياما يطوي فيها الأرض، أشرف على سواد رآه فعقد به حبل الأمل والرجاء، أن يكون هذا موطن خاله لابان، وخف مسرعا، فوجد أن رجاءه لم يخب، فاستراحت نفسه، ورأى أغناما وطيورا وشجرا ورعاة، بعد أن فارق الصحراء ووصل إلى أرض إبراهيم عليه السلام التي بدأت فيها رسالته، وفي أرض خاله غايته التي يرجوها، والتي قطع في سبيلها الصحاري والقفار، ساجدا شاكرا وحامدا.
ومعترفا بتوفيقه وهدايته، فلما وصل يعقوب عليه السلام الغريب سأل الناس متلطفا أفيكم من يعرف لابان بن بتويل؟ قالوا ومن منا لا يعرف لابان صهر إسحاق الرسول؟ إنه عميد بيئته، وشهاب قومه، وصاحب هذه القطعان التي تسيل بها هذه البطاح، فطلب من يرشده إلى مكانه، فإذا بنته راحيل مقبلة تغدو، فرحبت به وانطلقت معه إلى منزل والدها، وفيما هو في الطريق أحسن كأن اضطرابا بفؤاده، أو كأن طائرا طار من قلبه، أكان ذلك لرؤيته هذه الفتاة التي قد تكون أمله الذي يرجوه ونبوءته التي تنبأها له أبوه، وتأويل رؤياه التي رآها في الصحراء؟ أم كان قد اعتراه ما يعتري الطارق الغريب مقدما على أمر عظيم؟ قد يكون هذا أو يكون ذلك، ولكنه على كل حال ملك نفسه وأمسك بقوته ومشى بخطوات مطمئنة حتى التقى بخاله لابان، وما أن رآه حتى عانقه طويلا، واغرورقت عيناه بالدموع فرحا، ثم أحله من نفسه وأهله محلا رفيعا ومنزلة كريمة، ثم أفضى يعقوب عليه السلام بما أرسله أبوه، وما يرجوه من الإصهار إليه، وأنه قد رأى راحيل ابنته فحلت من قلبه منزلة رجا أن تكون له بعدها زوجا، والسبب الكريم أو النسب الذي يربط بينه وبين خاله، فقال لابان نعم ونعام عين أي أفعل ذلك إكراما لعينك، قد أجبتك إلى سؤالك وأعنتك على مبتغى آمالك، ولكن على أن تقيم عندي سبع حجج أي سبع سنين ترعى، تكون لك صداقا فيما تريد، وأنت طوال هذا العهد يكنفك مني جناح.
ويظلك قلب عاطف رؤوم، فقبل يعقوب هذا الشرط، وأخذ يرعى الغنم، والأيام تدهن له بمعسول المُنى وتحيي في نفسه بوارق الآمال، وكانت راحيل صغرى بنتي لابان، وكانت أختها ليا تكبرها في السن، وإن كانت تليها في اعتدال الخلق وحسن التقاسيم أي الجمال، ولم يكن في شريعة قومه أن يزوج الصغرى قبل الكبرى، ولكن نفسه لم تقبل أن تعيد يعقوب بن إسحاق عن راحيل، ومع ذلك فقد زوجه أولا بنته الكبرى، وبعد سبع سنين أخرى زوجه ابنته الصغرى، ووهب لهما أمتين تخدمانهما، ولكنهما آسرت يعقوب بهاتين الأمتين، ومع الأربع، ليا وراحيل والأمتين رزق الله عز وجل يعقوب عليه السلام اثني عشر ابنا هم الأسباط، وإن كان يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام جميعا لم يقص علينا قصته التي ذكرناها في القرآن الكريم إلا أنه بشارة إبراهيم الخليل وزوجته سارة مع ولده إسحاق، فيعقوب عليه السلام هو بشارة لإبراهيم عليه السلام من الملائكة، حيث أثبتوا له النبوة قبل خلقه، ثم إنهم جميعا صالحون يعبدون الله عز وجل، يعملون الخير في الدنيا والآخرة بمشيئة الله تعالى، وأكثر ما تجلت قصة يعقوب عليه السلام مع ابنه يوسف عليه السلام عندما رأى يوسف الرؤيا فعرف أن إخوان يوسف سيحسدونه ويكيدون له، ثم فعلوا بيوسف ما فعلوا، وصبر يعقوب وعدم تصديقه لهم، واستمر هذا الصبر مع شدة حزنه وألمه على فراق يوسف وثقته بالله بأن يوسف سيحفظه الله.
ثم لحاق أخيه شقيقه به عند عزيز مصر، وزيادة حزنه وأسفه عليهما، ثم لقائه بيوسف عندما مكن الله ليوسف في الأرض، وذهابه مع كل أبنائه وأسرته إلى مصر، فتحققت رؤيا يوسف عليه السلام بعد زمن طويل، وإن السيدة راحيل رغم كونها أم نبى الله يوسف عليه السلام إلا أنها غابت تماما عن قصة نبي الله في القرآن الكريم وسورته الطويلة المسماة باسمه الإ في قوله “رفع أبويه علي العرش ” وسجودهما له في الرؤيا كما قال ” إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر” وفي غير هذين الموضعين لا نجد لها أي ذكر مع أن المفروض أن حزنها كان أضعاف حزن نبى الله يعقوب الذي أبيضت عيناه وفقد بصره من الحزن الشديد وإن الإجابة هنا ببساطة أن أم نبى الله يوسف ماتت وهي تلد أخوه الصغير بنيامين، وبالتالي الأم التي رأها يوسف في الرؤيا هي زوجة أبيه ليا بنت لابان وهى ” خالته ” شقيقة أمه راحيل التي ربته وأم أخوته الذين تآمروا عليه، وبسبب موت راحيل بنت لابان أم نبى الله يوسف عليه السلام كان التركيز منصبا علي أبيه يعقوب لأن مهما كانت زوجة الأب متعاطفة مع يوسف لكن قلبها يحنو أيضا على أبناءها ولن يقارن حزنها بحزن يعقوب عليه السلام، وفي هذا السياق تظهر روعة وبلاغة القرآن الكريم في قوله “ورفع أبويه على العرش ولم يقل “ورفع والديه على العرش” لأن كلمة والديه ستعني أمه المباشرة من النسب أما أبويه فتعني الأب والأم.
ولكن أمه التي ربته أو زوجة أبيه وليست بالضرورة أمه المباشرة كما أن استخدام كلمة الأبوين تشير إلى الأب والأم مع تغليب جانب الأب، وبحسب علماء اللغة فإن كلمة الوالدين فتشير إلى الأب والأم أيضا لكن مع تغليب جانب الأم لأن الولادة صفة الأنثى ومن هنا نفهم لماذا قال تعالى “وبالوالدين إحسانا ” ولم يقل وبالأبوين إحسانا لتزكية الأم على الأب في الرعاية والإحسان والبر في تأكيد لا يقبل الشك علي علو مقام القرآن الكريم أنه يعلو ولا يعلي عليه في بلاغته وبيانه وروعته اللغوية، وقد توفيت السيدة راحيل حين اشتد ألم الولادة بها أثناء إنجابها لابنها الثاني بنيامين، ودفنها زوجها النبي يعقوب عليه السلام في مدينة بيت لحم بفلسطين، وحزن نبى الله يعقوب كثيرا، وخص يوسف وبنيامين بالرعاية والحب، وعن رب العزة سبحانه وتعالى قال “ياعبادى أعطيتكم فضلا، وسألتكم قرضا، فمن أعطانى شيئا مما أعطيته طوعا، عجلت له فى العاجل، وادخرت له فى الآجل، ومن أخذت منه ماأعطيته كرها وصبر واحتسب، أوجبت له صلاتى، ورحمتى، وكتبته من المهتدين، وأبحت له النظر الى” وعن رب العزة سبحانه وتعالى قال ” ابن آدم، تفرغ لعبادتى، املأ صدرك غنى وأسد فقرك والا تفعل، ملأت صدرك شعلا ولم أسد فقرك” وأوحى الله تعالى لداود عليه السلام ” يا داود لو يعلم المدبرون عنى شوقى لعودتهم ورغبتى فى توبتهم لذابو شوقا الى، يا داود هذه رغبتى فى المدبرين عنى فكيف محبتى فى المقبلين على ” .
التعليقات