ونكمل الجزء الرابع مع رحلة التيه والمنّ والسلوى، وقد توقفنا مع بنى إسرائيل، وبعد ما كان هذا هو جوابهم لنبى الله موسى عليه السلام، تكلم رجلان، هذان الرجلان هما اللذان تكلما وسط أولئك القوم، ناصحين، مرشدين، مخوفين بالله تعالى، ومشجعين لقومهم، ومحركين لهم على قتال عدوهم، واحتلال بلادهم، وقد ذكر الله عز وجل وصفا لهذين الرجلين، ويعد من أهم الصفات في الرجل الناصح المرشد، وصفهم الله عز وجل بأنهما من الذين يخافون الله، وهنا تبرز قيمة الأيمان بالله، والخوف منه فقال تعالى كما جاء فى سورة المائدة ” قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين” فهذان الرجلان من الذين يخافون الله عز وجل، وخوفهم من الله تعالى يُنشئ لهم استهانة بالجبارين، وإن خوفهم من الله عز وجل يرزقهم شجاعة في وجه كل خطر، وإن الخوف من الله تعالى، يزيل الخوف من الناس، فالله عز وجل لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين، مخافته جل جلاله، ومخافة الناس، فإن الذي يخاف الله لا يخاف أحدا بعده، ولا يخاف شيئا سواه، فإذا وجدت في نفسك خوفا من أحد، أو خوفا من موطن، فاعلم بأن نسبة الخوف من الله تعالى، قلّ وضعف، وهذه معادلة ثابتة، وكلما زاد الخوف من الله عز وجل في قلب العبد قل خوفه من غيره، فماذا قال هذان الرجلان؟ قالوا ” ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون” فكم كان أولئك القوم في أمس الحاجة لكلمة حق تخرج من ذلك الموطن؟
وهكذا الزمان، تجد أن الأحوال تصل في بعض الفترات إلى أنه لا بد أن ينبري من يتكلم بكلمة الحق، يسمعها للناس وهذان الرجلان قالا ” ادخلوا عليهم الباب” أي ليس بينكم وبين نصركم عليهم إلا أن تخرموا عليهم، وتدخلوا عليهم الباب ” فإذا دخلتموه فإنكم غالبون” وهذه قاعدة في علم القلوب، وفي علم الحروب، فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم؟ وبعدها هل نفع النصح في اليهود؟ وهل استجابوا لمقولة ذلك الرجلان؟ لقد قالوا كما جاء فى سورة المائدة ” قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون” فما أشنع هذا الكلام؟ بل وإلقاؤه على نبي؟ وأين؟ إنه في هذا المقام الحرج الضيق الذي قد دعت الحاجة والضرورة فيه إلى نصرة نبي الله موسى عليه السلام، فقالوا ” إنا لن ندخلها أبدا” وهكذا يكون الجبن، وبعدها تكون الوقاحة من اليهود ” فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون” فإنا لا نريد ملكا، ولا نريد عزا، ولا نريد أرض الميعاد، ولا نريد بيت المقدس، فكل هذا فليذهب إن كان هناك قتال وجهاد، وبهذا وأمثاله يظهر التفاوت بين الأمم، فبنو إسرائيل هذا كان جوابهم، وأما بنو إسماعيل الحنفاء، فكان جوابهم عندما شاورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في القتال يوم بدر، قال الصحابة “ولا نقول لك، كما قالت بنو إسرائيل لموسى ” فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون” ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون” وكان ممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو رضي الله عنه، كما قال الإمام أحمد رحمه الله؟
قال فعندما وصل الأمر إلى هذا الحال، وأصبح القوم يتفلتون من التكاليف، ويتجرؤون على نبي الله، عندها كان لابد من العقوبة الإلهية، فجعلهم الله عز وجل يتيهون في الأرض أربعين سنة لا يهتدون إلى طريق، ولا يبقون مكانهم في الصحراء مطمئنين، وإنه لعجيب هذا العذاب، فإنه ليس رجل لوحده لكي يتيه في الصحراء، وليسوا أفرادا معدودين، لا خبرة لهم بطرق وشعاب الصحراء، بل كانوا أمة كاملة ومجتمعا كاملا بأسره، تاهوا في صحراء سيناء ليس يوم ولا أسبوع ولا سنة، بل أربعين سنة، وحصلت لهم أمور عجيبة وخوارق كثيرة، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله، خلال هذه المدة فقد مات أقوام، وولد أقوام، وحصل تضليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى عليهمـ، وإخراج الماء الجاري من صخرة صماء، تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها نبى الله موسى عليه السلام، بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتي عشرة عينا، وهناك نزلت التوراة وشرعت لهم الأحكام، ثم كانت وفاة نبى الله هارون عليه السلام ثم بعده بثلاث سنين وفاة نبى الله موسى عليه السلام، وأقام الله تعالى عليهم يوشع بن نون عليه السلام نبيا من بعد نبى الله موسى، ومات أكثر بني إسرائيل في تلك الصحراء، في تلك المدة، وكانت هذه عقوبة دنيوية نزلت باليهود، وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة، أو دفع عقوبة أعظم منها قد انعقد أسباب وجودها، أو تأخرها إلى وقت آخر، وقال الله تعالى كما جاء فى سورة الروم ” ولله الأمر من قبل ومن بعد” ولعل الحكمة والله أعلم.
كما ذكر ذلك غير واحد من علماء التفسير، أنه في خلال هذه الأربعين سنة يموت أكثر الذين قالوا تلك المقالة لنبى الله موسى عليه السلام، وهى تلك المقولة الصادرة عن قلوب مريضة، قلوب لا صبر لها ولا ثبات، قلوب ألفت الاستعباد لعدوها، ترضى أن تكون مستعبدة، مقهورة، ولا استعداد لتقديم تضحية لرفع الظلم والذلة، ولكي ينشأ في تلك الصحراء ناشئة جديدة، تربت أجسادها على خشونة الصحراء، وتربت عقولها على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد والذل المانع من السعادة، فقال الله تعالى كما جاء فى سورة المائدة ” قال رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين” وإن البعض منا عندما يسمع بكلمة التيه، وربما أول ما يتبادر إلى ذهنه أن يتيه طفل صغير عن بيت والديه في بعض سكك المدينة، أو يتيه رجل في صحراء، ونحو ذلك، لكن قل ما يتفطن الشخص إلى أن الأمم قد تتيه والشعوب قد تتيه، والدول قد تتيه، وأيضا إذا قلنا بعد هذا كله بأن الأمم والشعوب قد تتيه، فإن الذهن ينصب إلى تيه بني إسرائيل، وكيف أن الله عز وجل جعلهم يتيهون في الأرض أربعين سنة، حتى هلك ذلك الجيل، وخرج من أصلابهم جيلا، تم على يديه فتح بيت المقدس، أقول بأن الذهن قد ينصرف إلى هذا النوع من تيه الأمم والدول، وهو التيه الحسي، ولكن هناك نوع آخر من التيه، وهو الذي تعيشه أمتنا هذه الأيام، ألا، وهو التيه المعنوي، إنه تيه في الأفكار، وتيه في التصورات، وتيه في المشاعر، وتيه في السلوك.
وتيه في الأخلاق، وتيه في تعلم العلوم النافعة، وتيه في إصلاح أوضاع المجتمعات، وأنواع أخرى من التيه تعيشها أمتنا، فما تكاد أن تلتف يمنة ويسرة، إلا وتجد التيه والضياع، تيه في كل المجالات، إلا ما رحم الله، ويحلل بعض العلماء، وبعض المفكرين، ويقولون بأن التيه التي تعيشه أمتنا هذه الأزمان، إنها تربية للأمة، فكما أن بنو إسرائيل تربت في التيه، وخرج منهم ذلك الجيل الذي فتح الله على يديه بيت المقدس، فإن التيه التي تعيشه أمتنا والعلم عند الله تعالى أنه لنفس الغرض، وهو أن الكوادر الموجودة الآن في العالم الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه، ليس مؤهلا لإصلاح الأوضاع، وليس مؤهلا لتحرير الأرض المغتصبة، وليس مؤهلا بالارتقاء بالأمة، ونزعها من الوحل الذي تعيش فيه، فالأمة بحاجة إلى تربية، ولعل أن التيه الذي تمر به الأمة هذه الأوقات تربي جيلا قادما متكاملا في جميع الجوانب، ويكون الفتح والنصر على يديه، فإن الكوادر والطاقات الموجودة الآن في الأمة بكافة قطاعاتها عاجزة عن التغيير، قاصرة عن العطاء، فلا بد من التيه لسنوات وسنوات، حتى يزول وينتهي هذا الجيل المتهالك، ويخرج الله جيلا قويا معطاء، تربى في ظلمات هذا التيه، وتحصن عقديا وفكريا وعلميا وخلقيا، يكون الفتح على يديه، ويكون تحرير الأرض على يديه، ويكون الإصلاح الشامل على يديه، فقال الله تعالى فى سورة يوسف ” والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون” وعندما يقال بذهاب هذا الجيل العاجز والقاصر، فإن هذا لا ينفي وجود عالم أو مفكر أو قائد أو خبير في أي مجال.
ولكن يبقى هؤلاء آحادا لا يكفون للارتقاء بالأمة لأن حالات التغيير لا يكفيه الآحاد، بل يحتاج إلى طاقم متكامل في كل مجال، والذي يجري في الأرض كلها اليوم من محاولات لإبادة المسلمين، وكأن هذا كله والله أعلم لإخراج أجيال صلبة قوية، نشأت وتربت في المعارك والحروب، فتكون أصلب عودا، وأكثر عتادا، وأطول نفسا، وأكثر وعيا بحقيقة المعركة التي تدور في الأرض بين دين الله، وأعداء الله، فيتربون كما تربت بنو إسرائيل في ذلك التيه، والنتيجة إن شاء الله ضد مصالح من يخطط لإبادة الإسلام، ولو تعقلوا ما فعلو ذلك، فقال الله تعالى فى سورة الأنعام ” وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض وخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوا ” ولقد وضع الله تعالى اللبنة الأولى للشريعة الموسوية على جبل في برية سيناء، ويتبين من قول التوراة ” الرب إلهنا معنا عهدا حوريب” وأن نبى الله موسى عليه السلام تلقى الوصايا العشر إلى جانب تعاليم أخرى على صخرة حوريب، وهناك أخذ من بني إسرائيل الميثاق بالعمل بها وتؤكد الآيات بأن على بني إسرائيل أن يذكروا دائما ذلك العهد الذي أخذ الله منهم عندئذ، ويتمسكوا به بقوة، ويعملوا به بصدق، لكي ينجوا من المصائب جميعا، وكما ورد في التوراة أنه قدر الله تعالى بسبب رفضهم سماع كلامه أن يكون النبي الموعود المثيل لموسى من خارج بني إسرائيل، من إخوتهم بني إسماعيل، ومع أن بني إسرائيل لم يقدروا أن يدخلوا إلى أرض كنعان في ذلك الوقت لعدم الإيمان.
وقال الرب “إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي، ولم يسمعوا لقولي، لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم، وجميع الذين أهانوني لن يروها، أما عبدي كالب، فمن أجل أنه كانت معه روح أخرى، وقد اتبعني تماما، أدخله الأرض التي ذهب إليها وزرعه يرثها” ويقف كالب بطلا من أبطال الإيمان لأنه اتبع الرب تماما هو ويشوع بن نون، وفي نهاية الأربعين السنة من التجوال في البرية تأديبا لهم من الله تعالى، دخل كالب ويشوع إلى أرض الموعد، وأصبح على كل سبط أن يمتلك الأرض التي منحت له بالقرعة، ومع أن كالب كان قد أصبح متقدما في الأيام، فهو ابن خمس وثمانين سنة، إلا أنه كان مازال رجل الإيمان، متشددا بالرب، وطلب من يشوع أن يعطيه الجبل وقرية أربع الرجل الأعظم في بني عناق العمالقة الذين أخافوا الجواسيس من قبل، وكأنه كان يريد أن يثبت للشعب أنه كان في إمكان آبائهم أن يدخلوا إلى الأرض ويمتلكوها منذ أربعين سنة لو أنهم آمنوا واتكلوا على الرب، وطرد كالب من هناك بني عناق الثلاثة، وأراد كالب أن يحرض الشباب حوله، فقال لهم “من يضرب قرية سفر ويأخذها، أعطيه عكسة ابنتي امرأة، فأخذها عثنيئيل بن قناز، ابن أخي كالب، فأعطاه عكسة ابنته امرأة، وأصبح عثنئيل أول قاض لإسرائيل لمدة أربعين سنة، حقا إنه تحد صعب، فالأسهل على الإنسان أن يركب الموجة ويسير مع التيار، لكن الأمانة لله تتطلب أن يقف الإنسان منفردا إذا لزم الأمر لكي يشهد للحق ويمجد الله، وكان كالب لم تسمع في الأخبار شيئا من نبوته وكان خليفة يوشع بن نون.
التعليقات