ونكمل الجزء الثانى مع سجاح بنت الحارث، وقد توقفنا عندما قيل أنه اصطفى خالد بن الوليد امرأة مالك بن نويرة، وهي أم تميم ابنة المنهال، وكانت جميلة، فلما حلت بنى بها ويقال بل استدعى خالد مالك بن نويرة فأنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزكاة، وقال ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟ فقال مالك إن صاحبكم كان يزعم ذلك، فقال أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟ يا ضرار، اضرب عنقه، فضرب عنقه، وأمر برأسه فجعل مع حجرين، وطبخ على الثلاثة قدرا، فأكل منها خالد تلك الليلة ليرهب بذلك الأعراب من المرتدة وغيرهم، ويقال إن شعر مالك جعلت النار تعمل فيه إلى أن نضج لحم القدر، ولم يفرغ الشعر لكثرته، وقد تكلم أبو قتادة مع خالد فيما صنع، وتقاولا في ذلك، حتى ذهب أبو قتادة فشكاه إلى أبو بكر الصديق الصديق، وتكلم عمر مع أبى قتادة في خالد، وقال للصديق اعزله، فإن في سيفه رهقا، فقال أبو بكر الصديق لا أشيم سيفا سله الله على الكفار، وجاء متمم بن نويرة فجعل يشكو إلى أبو بكر الصديق خالدا، وعمر يساعده وينشد الصديق ما قال في أخيه من المراثي، فوداه الصديق من عنده، ثم إن سجاح قصدت بجنودها اليمامة لتأخذها من مسيلمة الكذاب فهابه قومها، وقالوا إنه قد استفحل أمره وعظم، فقالت لهم فيما تقوله عليكم باليمامة، دفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا تلحقكم بعدها ملامة، قال فعمدوا لحرب مسيلمة فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلاده وذلك أنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال وقد ساعده عكرمة بن أبي جهل بجنود المسلمين.
وهم نازلون ببعض بلاده ينتظرون قدوم خالد، كما سيأتي فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض الذى كان لقريش لو عدلت فقد رده الله عليك فحباك به وراسلها ليجتمع بها في طائفة من قومه فركب إليها في أربعين من قومه وجاء إليها فاجتمعا في خيمة فلما خلا بها وعرض عليها ما عرض من نصف الأرض وقبلت ذلك، قال مسيلمة سمع الله لمن سمع وأطمعه بالخير إذا طمع ولا يزال أمره في كل ما يسر مجتمع رآكم ربكم فحياكم ومن وحشته أخلاكم ويوم دينه أنجاكم فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار لا أشقياء ولا فجار يقومون الليل ويصومون النهار لربكم الكبار رب الغيوم والأمطار، وقال أيضا لما رأيت وجوههم حسنت وأبشارهم صفت وأيديهم طفلت، قلت لهم لا النساء تأتون ولا الخمر تشربون ولكنكم معشر أبرار تصومون فسبحان الله إذا جاءت الحياة كيف تحيون وإلى ملك السماء كيف ترقون فلو أنها حبة خردلة لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور ولأكثر الناس فيها الثبور، وقد كان مسيلمة شرع لمن اتبعه أن الأعزب يتزوج فاذا ولد له ذكر فيحرم عليه النساء حينئذ إلا أن يموت ذلك الولد الذكر فتحل له النساء حتى يولد له ذكر هذا مما اقترحه من تلقاء نفسه ثم تزوجها وأقامت عنده ثلاثة أيام ثم رجعت إلى قومها فقالوا ما أصدقك فقالت لم يصدقني شيئا، فقالوا إنه قبيح على مثلك أن تتزوج بغير صداق، فبعثت إليه تسأله صداقا فقال أرسلي إلي مؤذنك، فبعثته إليه وهو شبت بن ربعى، فقال ناد في قومك إن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد.
ويعني صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة فكان هذا صداقها عليه، وكانت مشهورة بالكذب، وكانت العرب تقول فلان أكذب من سجاح، نظرا لما اشتهر عنها من الكذب، وكانت تعود بنسبها من جهة أبيها إلى بني يربوع، ومن هنا كانت على قرابة مع مالك بن نويرة، بينما تعود بنسبها من جهة أمها إلى بنى تغلب الذين كانوا يقيمون في بلاد الرافدين، وهذا ما جعل الرواة يقولون بأنها كانت نصرانية على دين بني تغلب، وعندما بدأت حركات الردة خاصة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت بردة طليحة ومسيلمة، بدأت بإعلان نبوتها وتبعها عدد كبير من بنى تغلب وبني يربوع وسارت إلى منطقة نجد حيث أرسلت إلى مالك بن نويرة تقترح عليه مهاجمة المدينة المنورة معا، ثم اتفقا على مهاجمة بعض القبائل المعادية لبني تميم وتغلب، لكن قواتها أخفقت في صدامها مع بعض القبائل في منطقة نجد فاتجهت مع أتباعها نحو اليمامة واجتمعت هناك بمسيلمة الكذاب حيث أحس بخطرها الداهم واستشار قومه ولكنه لم يجد لديهم، فعزم على أن يجعلها تقع في غرامه، وبالفعل خرج مسيلمة إلى قومه وقال لهم إضربوا لها خيمة بعيدا عن منزلي، وأكثروا فيها الطيب والصندل والبخور فإن النساء إذا شممن رائحة البخور إشتقن إلى الباءة، وفعل القوم ما أمرهم مسيلمة، وحين وصلت سجاح وقومها لليمامة تقابلت مع مسيلمة بعيدا عن تلك الخيمة التي قد أعدها لها، وكانت مصرة على أن تعرف منه حقيقة إدعائه للنبوة، ولم يكن من مسيلمة إلا أن قال لها نعم لقد أنزل علي مثل الذى قد أنزل على نبي قريش.
فقالت له سجاح إذن أسمعنى من ذلك شيئا، فقرأ عليها مسيلمة سجعا من عنده، ثم عرض عليها نصف الأرض، ثم عرض عليها الزواج فقبلت به زوجا وجعل مهرها وضع صلاتين مما فرضه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وصلاة العشاء وهناك من قال أن مهرها كان إسقاط صلاة العصر عشرين عاما، وبالفعل كان أصحاب الرملة لا يصلون صلاة العصر في ذلك العهد وكانوا يقولون هذا مهر نبيتنا، وصارت هي أيضا تنشيء ألفاظا سجعية كمسيلمة، وهكذا فإن فى ظل هذه الظروف ونتيجة لانتشار الإسلام في ربوع الجزيرة العربية قَدم وفد بنى تميم إلى المدينة في عام تسع من الهجرة النبوية، لتقديم الطاعة والولاء وإعلان دخول التميميين في الإسلام، وضم الوفد بعض أشرافهم مثل عطارد بن حاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، ولم يكن مالك بن نويرة ضمن أعضاء الوفد، والإشارات التي تذكر أنه توجّه بمفرده إلى النبى صلى الله عليه وسلم لاعتناق الإسلام قد تكون صحيحة لأن النبى صلى الله عليه وسلم عينه عاملا على صدقات عشيرته بني يربوع، وردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومهم راضية نفوسهم، وقد اختلف بنو يربوع بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم حول أداء الزكاة إلى أبي بكر الصدبق أو قسمتها بين الناس، وفاجأتهم سجاح في هذا الوقت مقبلةً من أرض الجزيرة بالعراق يُحيط بها رهطها من بني تغلب على رأس جيش من ربيعة والنمر وأياد وشيبان تريد غزو المدينة، مما أدى إلى ازدياد الانقسام فيما بينهم.
فكانت سجاح قد تنبأت بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم أسوة بغيرها من المتنبئين، بدافع العصبية أو بحب الظهور، فاستجاب لها الهذيل بن عمران في بني تغلب وترك التنصر، ولم تجد إلا القليل من التجاوب عند قومها، ولما وصلت إلى الحزن، راسلت بطون تميم ودعتهم إلى الموادعة والمعاضدة، واستقطبت بما بشّرت به من ادعاءات بني مالك برئاسة وكيع بن مالك، وبني يربوع بزعامة مالك بن نويرة، واستغل مالك بن نويرة هذه القوة للقضاء على خصومه من عشائر بني تميم، فصرفها عن مهاجمة المدينة وأقنعها بمهاجمة بني الرباب، غير أنها منيت بهزيمة قاسية وتكبّد الطرفان خسائر فادحة مما دفعهما إلى التفاهم وتبادل الأسرى، ونتيجة لهذا الفشل انفصل مالك بن نويرة عنها، وقد سعت سجاح بعد فشلها في إخضاع الرباب إلى مهاجمة المدينة، ودعت قومها بني يربوع إلى مساندتها فطلبوا منها أن تؤلف بطون تميم إلى دينها قبل الزحف نحو الحجاز لمحاربة المسلمين، فلم يتفق بنو تميم على رأيٍ واحد، عندئذ خرجت بجندها حتى بلغت النباج، فتصدى لها أوس بن خزيمة الهجيمي وهزمها، ومنع جندها من المرور في أراضيه، ثم تحاجز الفريقان واتفقا على تبادل الأسرى على أن تنصرف عنهم ولا تتخذ طريقا إلى المدينة إلا من ورائهم، ولما رأت إحجاما من قومها التفتت نحو اليمامة حيث كان مسيلمة الكذاب يتحفز كذلك للخروج على الإسلام، وانتشرت أخبار دعوته في الجزيرة العربية، إلا أنه وجد نفسه في وضعٍ حرج فقد خشى أن تشغله سجاح عن قتال أبي بكر الصديق رضى الله عنه.
فى الوقت الذى كان يترقب فيه زحف المسمين إليه، كما كان يتعرض لضغط القبائل المجاورة، لذلك عرض عليها التاهم والتعاضد ما دام هدفهما واحدا وهو الزحف نحو الحجاز، وأسفرت المفاوضات التي جرت بينهما عن نتائج وهو التقارب الأسرى بالزواج، ودمج قدراتهما لمواجهة المسلمين والسيطرة على الجزيرة العربية، ويؤدى مسيلمة لسجاح نصف غلات اليمامة، وفعلا تم الزواج بينهما، وأقامت سجاح مع مسيلمة مدة ثلاثة أيام، ثم عادت بعدها إلى قومها في أرض الجزيرة دون سبب ظاهر، حاملة معها شطر النصف مما اتفقا عليه، وتركت وراءها ممثليها مع مسيلمة ممن سيحملون لها النصف الآخر، وأقبلت فى غضون ذلك الجيوش الإسلامية فاجتاحت اليمامة وقتلت مسيلمة، وظلت سجاح في بني تغلب تعيش مغمورة بين أهلها، ثم دخلت في الإسلام عندما انتهى رأى أسرتها إلى الاستقرار في البصرة التي غدت المركز الأول لبني تميم في عهد بني أمية، وعاشت مسلمة، ولما بلغها سير القائد خالد بن الوليد بقواته نحو اليمامة بعد أن قضى على حركتى طليحة بن خويلد الأسدي ومالك بن نويرة، عادت إلى بلاد الرافدين وبقيت بين قومها من بنى تغلب ثم تابت إلى الإسلام وحسن إسلامها بعد مقتل مسيلمة على يد وحشي، وتوفيت في عهد الخليفة الأموى الأول معاوية بن أبى سفيان بمدينة البصرة، وقيل بل كانت وفاتها بمدينة الكوفة، وقيل أنها ماتت في سنة خمس وخمسين من الهجرة، وقد يبدو للوهلة الأولى أن سجاح كانت مدفوعة بحميتها الدينية لمحاربة المسلمين فهي بحكم عقيدتها النصرانية.
فقد نقمت على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه أو للتبشير بدين جديد على إثر انتشار ظاهرة التنبؤ في الجزيرة العربية، لكن هذين الدافعين كانا غطاء لدافع سياسى يُعد الدافع الرئيسى لحركتها، فقد كان بنو يربوع أقرب بطون تميم إلى نفوذ الفرس، يُعزز ذلك أنها اجتمعت أثناء رحلتها بعملاء لفارس من أبناء البوادي العراقية والنجدية، كما كان مسرح عملياتها المناطق التي كانت فارس تحرص على تجديد نفوذها القديم فيها، وعليه تكون مهمة هذه المتنبئة قد توضحت على هذه الصورة، فقد قضت وقعة ذي قار، على هيبة فارس في الجزيرة العربية، وساء ظن الأكاسرة حكام فارس بالمناذرة ملوك الحيرة الذين كانوا صنائعهم ويعتمدون عليهم في إخضاع القبائل العربية القريبة والبعيدة وتأمين تجارتهم إلى اليمن، فنكلوا بهم وقضوا على دولتهم قبيل ذلك بقليل، فأرسلوا امرأة تغلبية لتخلف المناذرة في هذه المهمة القديمة، فانحدرت مدفوعة من الفرس وعمّالهم في العراق كي تؤجج الثورة في الجزيرة العربية على الحكم الإسلامي المتنامي، وتمهد الطريق لفارس لاستعادة ما كان لها من نفوذ وسلطان في كثير من أرجائها، وقد يرجح ذلك أنها كانت المرأة الوحيدة التي ادعت النبوة، وأنها لم تمكث في الجزيرة العربية إلا بقدر ما تشجع الانتقاض على الحكم الإسلامى، ثم عادت إلى العراق بعد أن تأكدت من تهيؤ القبائل للثورة على هذا الحكم، وكان طبيعيا أن تنزل في بادئ الأمر بين قومها بني تميم، وقد اختارت أن تتعاون مع بني تغلب لأن هؤلاء أعداء بنى بكر الذين خاضوا معركة ذى قار ضد الفرس وانتصروا عليهم.
التعليقات