لقد كانت هناك شخصيات عديدة ادعت النبوة قبيل وبعيد وفاة النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، من بينهم طليحة بن خويلد الأسدى، والأسود العنسى، ومسيلمة بن حبيب الحنفى، وبلغ الأمر تنبؤ امرأة تدعى سجاح الكاهنة، وقد تزوجت من مسيلمة فيما بعد، وإن الثابت فى أكثر كتب التراث أن هذه الشخصيات زعمت لنفسها النبوة، ونسبت إليها نسجا ركيكا حاولوا من خلاله تقليد كلام الله تعالى، وأعادوا النظر فى بعض ما فرضه الإسلام، كما حدث مع مسيلمة، الذى منع السجود فى الصلاة، ثم رفع عن أتباعه صلاة الفجر والعشاء، وإن هناك اتهامات وسخريات كثيرة تجدها فى كتب التراث من هذه الشخصيات، وهو أمر طبيعى فى ضوء الاتجاه نحو تشويه وتقبيح ما أتته من أفعال، وإن ادعاء النبوة عكس فى جانب منه وجها من أوجه الصراع السياسى مع قريش التى كان العرب جميعا يعلمون أنها سوف تستأثر بالأمر من دونهم جميعا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، لذا ظهر الطابع القبلى بشدة فى حكايات التراث حول مدعى النبوة، ويقول ابن كثير فى البداية والنهاية، لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب ونجم النفاق بالمدينة وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الأسدى بنو أسد وطىء وبشر كثير أيضا، وادعى النبوة أيضا كما ادعاها مسيلمة الكذاب، وعظم الخطب واشتدت الحال ونفذ أبو بكر الصديق الصديق جيش أسامة فقل الجند عند الصديق فطمعت كثير من الأعراب فى المدينة وراموا أن يهجموا عليها.
فجعل أبو بكر الصديق رضى الله عنه على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها، ومع إمرأة نجدية من بنى تميم، التف حولها بعض قومها، وقد عزموا على غزو الخليفة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وبنو تميم هى قبيلة عربية كانت في الجاهلية وصدر الإسلام تسكن في الدهناء وشمال إقليم نجد واليمامة في السعودية وهي موطنها الأصلي، كما تتواجد فى العراق والكويت وقطر والبحرين، وتعد بنى تميم جمجمة من جماجم العرب الكبرى، وكانوا قبل الإسلام أهل بادية كثيرى الحروب وكانت لهم معارك كثيرة معظمها ضد قبيلة بكر بن وائل وكذلك ضد قبائل هوازن ومذحج وغطفان وغيرها، وإن من الثابت أن النسبة الغالبة من العرب ارتدت عن الإسلام بعد وفاة النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع أحد أن يقرر على وجه الدقة هل كان الأمر فى جوهره ارتدادا عن الدين أم عكس سعيا من جانب شخصيات بارزة داخل عدد من القبائل العربية لمنافسة قريش على ملك العرب بعد وفاة النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وإن قريش كانت حاضرة بقوة لدى واحد من أبرز مدّعى النبوة وهو مسيلمة الحنفى، أو مسيلمة الكذاب، ويذكر الرواة أن نعت الكذاب وصف به النبى صلى الله عليه وسلم اثنين من مدّعى النبوة، هما مسيلمة بن حبيب، والأسود العنسى، وهو كذاب اليمامة وكذاب صنعاء مثلا تهديدا حقيقيا لدولة الخلافة التى قادها أبوبكر الصديق بعد وفاة النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بدأت إرهاصات هذا التهديد فى الظهور أواخر حياة النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
وهى الفترة التى سطع فيها سؤال مُلحّ لدى العرب جميعا، خصوصاً من دخل منهم إلى حظيرة الإسلام، وهو الحكم من بعد محمد لمن؟ وكانت هذه المرأة النجدية هى سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية، كانت سجاح متنبئة وعرافة، وهي واحدة من طائفة المتنبئين وزعماء القبائل الذين ظهروا في الجزيرة العربية قبل الردة أو خلالها، ونستدل من نسبها الذي اتضح من تاريخها بأنه صحيح، أنها كانت من بني يربوع أحد بطون تميم، وأمها من بني تغلب في العراق وهي قبيلة اعتنق معظم أفرادها النصرانية نتيجة احتكاكهم بسكان إقليم الفرات، أقامت سجاح بينهم، وتزوجت فيهم، وتنصرت مع من تنصر منهم، وتقع منازل بني تميم على مقربة من بنى عامر إلى الجنوب، وتجاور المدينة من الشرق، وتمتد نحو الخليج العربي، وتتصل بمصب نهر الفرات من ناحية الشمال، وكانت فروع من القبيلة تتمتع بحقول الرعي في أنحاء تمتد إلى الفرات الأوسط، وكان لبنى تميم مكانة كبيرة بين قبائل العرب في الجاهلية وفي عصر النبوة، واشتهر التميميون بالشجاعة والكرم، ونبغ من بينهم شعراء وأبطال تلقبوا بلقب الملوك، والواضح أن هذا الامتداد الجغرافى لقبيلة بنى تميم أدى إلى تنقل بطونها بين الجزيرة العربية والعراق في ميدان واسع يشيع فيه التوتر بين كلا المركزين الكبيرين الحيرة ومكة، لكنهم اتخذوا موقف الحياد في علاقاتهم السياسية مع كليهما، وكان من الواضح أن العلاقات المنظمة والمنضبطة بين بني تميم كانت تبلغ الأهمية عند أمراء الحيرة وبالتالي الفرس من واقع ضمان مرور القوافل التجارية دونما عائق.
والمعروف أن تجارة فارس كانت تنطلق من المدائن حتى تصل إلى الحيرة حيث يتولى النعمان بن المنذر حراستها بقوى من بني ربيعة ثم يتسلمها هوذة بن عليّ الحنفي، فيسير بها في أرض تهامة إلى أن تبلغ اليمن وذلك لقاء أجر وعليه كانت العلاقات جيدة بين الفرس وبين البطون الضاربة على هذا الطريق التجاري، وحاولت فارس ربطهم بها عن طريق منح يربوع وظيفة الردافة، ومن جهة أخرى أقامت بطون متفرقة من تميم علاقات مكثفة مع مكة في العصر الجاهلي من واقع تنظيم الخمس، وعهود الإيلاف، والحصول على السلطة، والتقدم في الأسواق، وفي أداء شعائر الحج، ومنهم من ارتبط في الفضائل العسكرية التي كانت تقدمها القبائل لحراسة مكة، فكان هناك انتشار النصرانية في ربوع بني تميم بتأثير ما كان سائدا من مذاهب نصرانية في الجزيرة الفراتية وشمال بلاد الشام، وتعدد الولاءات في صفوف القبيلة سياسيا بين الاستقلالية وبين الهيمنة الفارسية أو البيزنطية، ودينيا بين الوثنية والنصرانية، وأيضا ظل المركز الممتاز لبني تميم محفوظا حتى السنين الأخيرة من العصر الجاهلي، بدليل أن التميمي الأخير الذى كان يُمارس وظيفة القاضي الفخرية في سوق عكاظ هو الأقرع بن حابس، وكان ممن استجاب لها هو مالك بن نويرة التميمى وعطارد بن حاجب وجماعة من سادات أمراء بني تميم وتخلف آخرون منهم عنها، ثم اصطلحوا على أن لا حرب بينهم إلا أن مالك بن نويرة لما وادعها ثناها عن عودها وحرضها على بني يربوع ثم اتفق الجميع على قتال الناس وقالوا بمن نبدأ؟
فقالت لهم فيما تسجعه ” أعدوا الركاب واستعدوا للنهاب ثم أغيروا على الرباب فليس دونهم حجاب ” ثم إنهم تعاهدوا على نصرها فقال قائل منهم أتتنا أخت تغلب في رجال جلائب من سراة بنى أبينا، وأرست دعوة فينا سفاها وكانت من عمائر آخرينا، فما كنا لنرزيهم زبالا وما كنت لتسلم إذ أتينا، ألا سفهت حلومكم وضلت عشية تحشدون لها ثبينا، وقال عطارد بن حاجب التميمي في ذلك أمست نبيتنا أنثى نطيف بها وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا، وأما عن مالك بن نويره وهو مالك بن نويرة بن جمرة بن شداد اليربوعى التميمى يكنى أبا حنظلة، وكان يلقب بالجفول لكثرة شعره، وكان شاعرا معدودا في فرسان بنى يربوع في الجاهلية وأشرافهم، ولقد أدرك الإسلام وأسلم، وولاه النبى صلى الله عليه وسلم صدقات قومه وهم بنى اليربوع، فهو مالك بن نويرة بن حمزة بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن إد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وقد أدرك الإسلام وأسلم وولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع عن دفعها، وكان مالك بن نويرة من كبار بني يربوع من بني تميم، وصاحب شرف رفيع وأريحية عالية بين العرب، حتى ضرب به المثل في الشجاعة والكرم والمبادرة إلى إسداء المعروف والأخذ بالملهوف، وكانت له الكلمة النافذة في قبيلته، حتى أنه لما أسلم ورجع إلى قبيلته وأخبرهم بإسلامه، وأعطاهم فكرة عن جوهر هذا الدين الجديد، أسلموا على يديه جميعا ولم يتخلف منهم رجل واحد.
وكان قد نال منزلة رفيعة لدى النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حتى نصبه وكيلا عنه في قبض زكاة قومه كلها، وتقسيمها على الفقراء، وهذا دليل وثقاته واحتياطه وورعه، وكذلك كانت وصية أبي بكر الصديق رضى الله عنه أن يؤذنوا إذا نزلوا منزلا فإن أذن القوم فكفوا عنهم وإن لم يؤذنوا فقاتلوهم وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فاسألوهم عن الزكاة فإن أقروا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم، فجاءت خيل خالد بن الوليد بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع فاختلفت السرية فيهم وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء فأمر خالد بن الوليد مناديا فنادى “أدفئوا أسراكم” وهى في لغة قبيلة كنانة القتل وكنانة قبيلة خالد، فظن القوم أنه أراد القتل ولم يرد إلا الدفء فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكا، وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك، وغاية ما يقول العلماء عن قصة مالك بن نويرة أن خالد بن الوليد تأول فأخطأ، لا سيما أن مالك بن نويرة منع الزكاة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنع قومه من دفع الزكاة إلى أبي بكر الصديق رضى الله عنه، فضلا عن علاقة مشبوهة واضحة تمت بينه وبين سجاح التي ادعت النبوة، ويقول الذهبي فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع بينهم وجهاد محّاء وعبادة ممحّصة ولسنا ممن يغلو في أحد منهم ولا ندعي فيهم العصمة، ويرى البعض أن الروايات الموجودة في السير يجب أن تدقق ويعرف سندها ورواتها، وهذا ماذكره ابن حجر في الإصابة حيث قال وأما أنه تزوج بامرأة مالك بن نويرة.
فهذا لايصح، لأن إسناده منقطع، في حين تذكر مراجع أخرى نسخة مختلفة، حيث يقول الواقدى في كتاب “الردة” ثم قدم خالد بن الوليد إلى مالك بن نويرة ليضرب عنقه، فقال مالك أتقتلني وأنا مسلم أصلي القبلة، فقال له خالد لو كنت مسلما لما منعت الزكاة ولا أمرت قومك بمنعها، والله لما قلت بما في منامك حتى أقتلك، قال فالتفت مالك بن نويرة إلى امرأته فنظر إليها ثم قال يا خالد، بهذا تقتلنى، فقال خالد بل لله أقتلك برجوعك عن دين الإسلام، وجفلك لإبل الصدقة، وأمرك لقومك بحبس ما يجب عليهم من زكاة أموالهم، قال ثم قدمه خالد فضرب عنقه صبرا، فيقال إن خالد بن الوليد تزوج بامرأة مالك، ودخل بها، وعلى ذلك أجمع أهل العلم” وأما رأى ابن تيمية ثم يقال غاية ما يقال في قصة مالك بن نويرة، إنه كان معصوم الدم، وإن خالدا قتله بتأويل، وهذا لا يبيح قتل خالد، ومعلوم أن خالدا قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتدا، وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد, والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم، وهذا مما حرمه الله ورسوله، وكما يقول ابن كثير في “البداية والنهاية” فيقال إن الأسارى باتوا في كبولهم في ليلة باردة شديدة البرد، فنادى منادي خالد أن دافئوا أسراكم، فظن القوم أنه أراد القتل، فقتلوهم، وقتل ضرار بن الأزور مالك بن نويرة، فلما سمع خالد الواعية خرج وقد فرغوا منهم، فقال إذا أراد الله أمرا أصابه، واصطفى خالد امرأة مالك بن نويرة، وهى أم تميم ابنة المنهال، وكانت جميلة، فلما حلت بنى بها ويقال بل استدعى خالد مالك بن نويرة فأنبه على ما صدر منه.
التعليقات