ومازال الحديث موصولا عن أنبياء ورسل الله الكرام عليهم جميعا الصلاة والسلام، ومع أنبياء بنى إسرائيل ولكن من هو آخر أنبياء بني إسرائيل؟ إنه نبى الله عيسى بن مريم عليه السلام فهو آخر أنبياء بني إسرائيل، وقد بعثه الله تعالى إليهم، وأنزل عليه الإنجيل غير أن قومه كذبوه وكفروا برسالته، رغما عن تأييد الله تعالى له بالكثير والعديد من المعجزات لتكون دلالة واضحة وبيّنة على نبوته، ومن المعجزات التي أيد الله جل شأنه بها نبيه عيسى عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذنه تعالى كما كان عيسى عليه السلام يُخبر الناس عما كانوا يدخرونه في بيوتهم من الأطعمة والمتاع التي لا يطلع عليها أحد، ويؤمن المسلمون برسالة نبي الله تعالى عيسى، ودل على هذا كتاب الله تعالى القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على نبيه سيد الخلق رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ورغما عن تحريف المسيحيين لكتابه التوارة غير أن المسلمون يعرفون المباديء الأساسية التي وردت بكتاب التوراة على النهج الصحيح، وهذا من القرآن الكريم ويؤمن المسلمون بكافة الأنبياء والرسل إيمانا إجماليا ويعلمون جيدا أن الله تعالى أرسلهم إلى الناس ليرشدونهم ويخرجونهم من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، ويعتقد المسلمون في روح الله عيسى ابن مريم، وإن أمه عذراء نقية شريفة بعيدة كل البعد عن الرذيلة، وأن عيسى ابن مريم هو من روح الله تعالى وهو كلمته، وقد أتى نبي الله عيسى ابن مريم مبشرا بنبنا ورسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
ولقد أرسل الله تعالى نبيه عيسى بن مريم إلى بني إسرائيل بالتوحيد، وأن نبي الله عيسى عليه السلام ليس إله، وهو نبي مرسل، ومكلف من الله تعالى بتبيلغ الرسالة التي أصلها في كافة الديانات توحيد الله تعالى وحده الذي لا شريك له، ولقد خلق الله تعالى نبيه عيسى بن مريم من دون أب وأمه البتول السيدة مريم العذراء وبعد أن حملت بعيسى في أحشائها اتهمها قومها بالزنا، ولكن الله تبارك وتعالى برأها على لسان رضيعها الذي لم يكن له قدرة على الكلام، وكانت المعجزة الأولى له هو كلامه في المهد، وأيد الله تعالى نبيه عيسى ابن مريم بالكثير من المعجزات في حياته بعد أن ولد مباشرة، ولكن قومه لم يؤمنو به وكذبوه وكادوا له المكائد، وحاولوا قتله رغما عن تأييد الله تعالى له ولهذا رفعه الله تعالى إليه، وسوف يُرسله من جديد ليُنقذ العالم من كيد بنو إسرائيل الذي لم يتعظوا، واعتادوا على الخيانة لمن آمنهم، وسوف يحكم الله تعالى بين الخلائق بشرع الله تعالى وبالعدل، وأن هناك أنبياء ذكروا فى القرآن الكريم وذكروا أيضا فى الكتب المقدسة، لكن لا نعرف عنهم الكثير، ربما يكون ذكرت لهم مواقف تدل على مدى عظمتهم وتقربهم من الله لكنها تبقى بسيطة، فإن هوية هؤلاء الأنبياء المكرمين فى النصوص الدينية لا تزال لغزا وسرا، وأمرا محيرا للعديد من العلماء والباحثين والمؤرخين، ومن هؤلاء نبى الله ذو الكفل المذكور فى القرآن الكريم، وأما عن ذو الكفل فهو نبي على الصحيح في الإسلام، وقيل هو ذو الكفل عليه السلام ابن نبى الله أيوب عليهما السلام.
وإسمه في الأصل بِشر، وقد بعثه الله نبيا بعد أبيه أيوب عليهما السلام، وسماه ذو الكفل لأنه كان قد تكفل لبني قومه أن يكفيهم أمرهم ويقضي بينهم بالعدل، ولم يذكر في القرآن الكريم شيء عن دعوته ورسالته والقوم الذين أرسل إليهم لا بالإجمال ولا بالتفصيل، ويعتقد بعض المؤرخين أنه حزقيال في اليهودية ورغم عدم وجود دليل قاطع في هذا الخصوص، وإننا نقرأ في القرآن الكريم عن ذي الكفل، ولكن قل من يعرف حكاية هذا النبي الكريم عليه السلام الذي كرمه الله سبحانه وتعالى بذكر سيرته في كتابه الكريم، فهو نبى من أنبياء بني إسرائيل، وقيل أنه سمي بهذا الاسم لأنه تكفل لنبي الله اليسع في قيام الليل وصوم النهار وألا يغضب في القضاء، وكان يصلي كل يوم مائة صلاة ويقضي بالعدل بين قومه، وقد بدأت قصة ذي الكفل عليه السلام حينما کبر نبي الله أليسع وقال في نفسه “لو أني استخلفت رجلا علی الناس فانظر کيف يحكم ويعدل بين الناس فإن کان عادلا رحيما جعلته خليفة علی الناس من بعدي” فقام وجمع الناس وقال “من يضمن لى أن يفعل ثلاثة أشياء أستخلفه من بعدی، فقال الناس وما هي ؟ فقال نبى الله أليسع عليه السلام” أن يصوم النهار ويقوم الليل ويعدل فلا يغضب فقام رجل بسيط وهو ذو الكفل، فقال أنا، فقال اليسع عليه السلام، أنت تصوم النهار وتقوم الليل، ولا تغضب؟ فقال ذو الكفل نعم، قال فردهم ذلك اليوم، وقال مثلها اليوم الأخر، فسكت الناس، وقام ذلك الرجل، فقال أنا، فاستخلفه فسماه الله ذا الكفل، لانه تكفل بأمر فوفی به.
فكان بعد ذلك من الأنبياء الذين أوحى الله تعالى إليهم، وهكذا قال أهل العلم إن ذا الكفل هو ابن نبى الله أيوب عليه السلام واسمه في الأصل بشر، وقد بعثه الله عز وجل بعد أيوب وسماه ذا الكفل لأنه تكفل ببعض الطاعات فوفي بها، وكان مقامه في الشام وأهل دمشق يتناقلون أن له قبرا في جبل هناك يشرف على دمشق يسمى قاسيون، إلا أن بعض العلماء يرون أنه ليس بنبي وإنما هو رجل من الصالحين من بني إسرائيل وقد رجح ابن كثير رحمه الله، نبوته لأن الله تعالى قرنه مع الأنبياء فقال عز وجل كما جاء فى سورة الأنبياء ” وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين، وأدخلناهم فى رحمتنا إنهم من الصالحين ” والقرآن الكريم بالرغم من ذكر اسم ذي الكفل في عداد الأنبياء، إلا أنه لم يذكر رسالته والقوم الذين أرسل إليهم فلم يتعرض لشيء من ذلك لا بالإجمال ولا بالتفصيل، ويقول بعض العلماء إن ذا الكفل الذي ذكره القرآن هو غير الكفل الذي ذكر في الحديث الشريف ونص الحديث كما رواه الأمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال “كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع عن ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال لها ما يبكيك ؟ أكرهتك ؟ قالت لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط وإنما حملتني عليه الحاجة، قال فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ؟ ثم نزل فقال أذهبي بالدنانير لك، ثم قال والله لا يعصي الله الكفل أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه” قد غفر الله للكفل”
وقد وصف ابن كثير هذا الحديث بالغريب، ثم قال “وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وإسناده غريب” هذا ما قاله ابن كثير والصواب أن الحديث رواه الترمذي في جامعه، باللفظ نفسه، وقد عقب الترمذي بعد أن روى الحديث بقوله هذا حديث حسن، وهذا فيما يتعلق بهذا الحديث من جهة السند، أما فيما يتعلق به من جهة المتن، فقد قال ابن كثير، وهكذا وقع في هذه الرواية الكفل، من غير إضافة، فالله أعلم، وعلى كل تقدير فلفظ الحديث الكفل، ولم يقل ذو الكفل، فلعله رجل آخر، والعجيب أن القرطبي روى الحديث نفسه بلفظ كان ذو الكفل من بني إسرائيل، ولا شك أن هذا وهم من القرطبي إذ لم يرد كذلك لا في راوية الإمام أحمد، ولا في رواية الترمذي، والمعول عليه عند التعارض والاختلاف في روايات الحديث ما جاء في كتب الحديث، لا ما جاء في كتب التفسير حيث إن المفسرين أحيانا يتساهلون في نقل الحديث، ولا يهتمون بضبط لفظه كما هو شأن المحدثين، ومهما يكن، فالذي ينبغي اعتقاده في حق الأنبياء عصمتهم من الوقوع في الذنوب والخطايا إذ لا يكون منهم ذلك، وهذا ما يدفع أن تكون هذه الرواية واردة في حق النبي ذي الكفل عليه السلام، بل الراجح ما ذكره ابن كثير من كون المراد رجلا آخر اسمه الكفل، كما هو نص الرواية، وليس ذا الكفل، كما جاء في رواية القرطبي، والذي ينبغي الوقوف عنده، والتعويل عليه في هذا الشأن، هو خبر القرآن الكريم، وقد وصف القرآن ذا الكفل عليه السلام بوصفين، وهو أنه من الصابرين.
والصبر من شيم الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من الصالحين، وأنه من الأخيار، أي من المختارين المجتبين الأخيار، وهو وصف شارك فيه غيره من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، وقد قال السعدي في تفسير الآيات الكريمة، قال إن هؤلاء الأنبياء قد استخلصهم الله تعالى بأحسن الذكر، والثناء عليهم فقد استخلصهم من الخلق وانتقى لهم الأفضل من الأعمال والخصال الحميدة، والخُلق، والطباع الحسنة، وقد روي عن ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد، أن نبى الله ذا الكفل لما كبر في العمر، خرج على قومه وقال لهم إنه يرغب في أن يستخلفه رجلا على بني قومه، فيعمل عليهم قبل موته حتى يدري ما سوف يفعله بهم، وأما من يقول إن ذا الكفل لم يكن نبيا وإنما كان رجلا صالحا من بني إسرائيل فيروي أنه كان في عهد نبي الله اليسع عليه السلام، وقد روي أنه لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس فقال من يتقبل لي بثلاث استخلفه يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب، فقام رجل تزدريه العين، فقال أنا، فقال أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟ قال نعم، لكن اليسع عليه السلام ردّ الناس ذلك اليوم دون أن يستخلف أحدا، وفي اليوم التالي خرج اليسع عليه السلام على قومه وقال مثل ما قال اليوم الأول، فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال أنا، فاستخلف اليسع ذلك الرجل، وقد تكرر اسم ذي الكفل في القرآن الكريم مرتين، الأولى كما جاء فى سورة الأنبياء في قوله سبحانه ” وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين”
والثانية كما جاء فى سورة ص في قوله تعالى ” واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار” ولم يأت ذكر لذي الكفل في غير هذين الموضعين من القرآن الكريم، والذي عليه أكثر المفسرين أن ذا الكفل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجمعين، وقال الرازي والأكثرون أنه من الأنبياء عليهم السلام، وقال ابن كثير وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي، وقال الآلوسي، وظاهر نظم ذي الكفل في سلك الأنبياء عليهم السلام أنه منهم، وهو الذي ذهب إليه الأكثر، وقال ابن عاشور، وأما ذو الكفل فهو نبي، ولكن قد اختلف في تعيينه، فقيل هو إلياس المسمى في كتب اليهود إيليا، وقيل هو خليفة اليسع في نبوة بني إسرائيل، والظاهر أنه عُوبديا الذي له كتاب من كتب أنبياء اليهود، وهو الكتاب الرابع من الكتب الاثني عشر، وتعرف بكتب الأنبياء الصغار، وذهب آخرون إلى أن ذا الكفل ليس بنبي، بل كان رجلا صالحا، وقد روي عن مجاهد في قوله سبحانه “وذا الكفل” قال هو رجل صالح غير نبي، وتكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه، ويقيمهم له، ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فسمي ذا الكفل، ونقل القرطبي في هذا الصدد أن الذي عليه الجمهور أنه ليس بنبي، وهذا يخالف ما نُقل عن أكثر المفسرين، وقد توقف شيخ المفسرين الطبري في هذا الأمر، فلم يقطع بنبوة ذي الكفل، ولم يقطع بكونه غير نبي، وقد استدل الرازي على كون ذي الكفل نبيا بأدلة ثلاثة، وهي أن ذا الكفل يحتمل أن يكون لقبا، وأن يكون اسما، والأقرب أن يكون مفيدا، لأن الاسم إذا أمكن حمله على ما يفيد، فهو أولى من اللقب.
التعليقات
التعليقات