ونكمل الجزء الرابع عشر مع لله على الناس حج البيت، وإن من الدروس العظيمة التي يتلقاها حجاج بيت الله الحرام من خلال أدائهم لهذه الطاعة، وبدءا من وصولهم إلى الميقات، وانتهاء بطواف سبعة أشواط ببيت الله الحرام توديعا للبيت، من خلال هذه الأعمال يمرون على فوائد عظيمة، ومنافع جمة لا يحاط بها ولا يحصى، فإذا وصلت هذه الوفود إلى الميقات يشتركون جميعا في التجرد من المخيط، يلبس الرجال إزارا ورداء أبيضين يستوي فيه الجميع، الرئيس والمرؤوس، والغني والفقير، كلهم في لباس واحد، وإلى مقصد واحد، وفي عمل واحد، ميممين بيت الله الحرام، ويعلنون وهم في الميقات توحيدهم لله تعالى بقولهم لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، كل حاج يردد هذه الكلمات، ويرفع بها صوته يلبي نداء الله، ويستجيب له.
ولنعلم أن هذه الكلمات كلمات إيمان وتوحيد وإخلاص وإذعان، ودخول والتزام بطاعة الله تبارك وتعالى، ناداهم إلى الحجّ فقالوا لبيك اللهم لبيك، أي استجبنا لندائك، وقمنا بتحقيق دعوتك، وامتثلنا أمرك يا الله، ولهذا على من قال في حجه لبيك اللهم لبيك، أن يلبي نداء الله في كل طاعة، وأن يستجيب لدعاء الله في كل عبادة، نادى الله تبارك وتعالى عباده إلى الصلاة، وناداهم إلى الصيام، وناداهم إلى الزكاة، وأمرهم بالبر والإحسان، ونهاهم عن الفواحش والإثم والعصيان، وفي كل ذلك يجب على المسلم أن يلبي النداء، وأن يدخل في طاعة الله عز وجل، ثم في قولهم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إخلاص لله عز وجل في الأعمال كلها والطاعات جميعها، فكما أن الله تبارك وتعالى المنعم وحده، والمتفضل وحده لا شريك له في شيء من ذلك، فيجب أن يفرد وحده بكل أنواع الطاعة.
فكما أنه لا يحج إلا لله، ولا يقصد إلا بيت الله، فيجب أن تصرف الطاعات كلها لله، فلا يصلى إلا لله، ولا يدعو إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يطلب المدد والعون إلا من الله، ولا يذبح إلا لله، ولا يصرف شيئا من العبادة إلا لله، وهذا معنى قول المسلم لبيك لا شريك لك، أي لا شريك لك في الطاعة، ولا ند لك في العبادة، ولا أسوي معك غيرك في شيء من ذلك، ثم تنطلق هذه الوفود إلى أن يصلوا بيت الله العتيق، ويبدؤون أول ما يبدؤون بطواف سبعة أشواط حول بيت الله الحرام، ملبّين بذلك دعاء الله، محققين بذلك قول الله تبارك وتعالى ” وليطوفوا بالبيت العتيق” يطوفون حول بيت الله العتيق، بذلّ وخشوع وانكسار، وإذعان بين بيد الله، يتلون كلامه، ويذكرونه، ويدعونه، ويناجونه سبحانه، وهنا يعلم الحاج أن هذه العبادة العظيمة إنما شرعها الله عز وجل حول بيته الحرام.
ويعلم من خلال ذلك أن الطواف في أي مكان في أنحاء الدنيا ليس من شرع الله، ولا من دينه سبحانه وتعالى الذي أمر به عباده، وعندما يقبّل الحاج الحجر الأسود، ويستلم الركن اليماني، يفعل ذلك ممتثلا لسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أن الحجر لا يضر ولا ينفع، فالنافع الضار هو الله تبارك وتعالى، ولكنه يفعل ذلك تأسيا بالرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، ولهذا لما قبّل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه الحجر الأسود، قال كلمته المشهورة أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، فالمسلمون يقبلون الحجر، ويستلمون الركن اليماني، تأسيا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، واقتداء بهديه، وترسما لخطاه، ومن هنا يعلم كل حاج أن تقبيل أي مكان في الدنيا، سواء الشبابيك أو الجدر أو الأضرحة أو غير ذلك.
كل ذلك ليس من شرع الله، ولا من دينه الذي أمر به عباده وسنه لرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يتوجه الحجيج إلى عرفات الله، فيقف الجميع في صعيد واحد يدعون الله عز وجل وينادونه، يقفون في أعظم أيام الدعاء وخيرها، فيقول صلى الله عليه وسلم “خير الدعاء دعاء يوم عرفه، وخير ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير” وتأمّلوا إلى خير أيام الدعاء وهو يوم عرفة، في هذا اليوم الكريم المبارك يكثر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله من قول لا إله إلا الله، وفي هذا مناسبة عظيمة، وموافقة كبيرة، فإن كلمة لا إله إلا الله هي أفضل الذكر، ويوم عرفة هو أفضل الأيام، ولهذا كان صلوات الله وسلامه عليه يكثر من أفضل الأذكار في أفضل الأيام، لا إله إلا الله هي سيد الأذكار، ويوم عرفة هو سيد الأيام، ولهذا ناسب الإكثار من سيد الأذكار في سيد الأيام وهو يوم عرفة.
التعليقات