الجمعة - الموافق 11 يوليو 2025م

قصة قصيرة / بقلم حمدي كسكين .الداية

الجو ملبد بالغيوم …ورياح صرصر باردة وعاتية تقتلع ما يعترض طريقها وزخات مطر خفيف تنذر بأن اكتمل لقاح السحب وان السماء في طريقها لالقاء ما في جوف بطنها من امطار
الجو مظلم وملبد بغيوم وطرقات قريتنا مليئة بالطين وابقايا المطر
كانت قريتنا في ذلك الوقت تغط في سبات نوم عميق
لم تكن الكهرباء وصلت القرية والناس نيام والشوارع لاتسمع فيها لاغية
ف الشتاء في قريتنا له طبيعة أخري لا تسمع الا نباح الكلاب ونقيق الضفادع التي ترتجف اجسادها من شدة البرد ومن قسوة الأمطار وغزارتها
قامت إمي تتحسس مواطن الخلل في سقف منزلنا الطيني الايل للسقوط وقامت معها جدتي التي تحتفظ بخريطة جينية لسق المنزل الذي لا يستر سكان البيت من صبية صغار
من نقع المطر ونزوله من السقف المعروش بجذوع نخل خاوية وبعض السدة وجريد النخيل الذي أكل عليه الزمن وشرب كانت جدتي وأمي تؤمن مأوانا من المطر الي بدأ يخرق حجب السقف متسللا حيث ننام فوق الفرن علي حصر بالية يزداد نزول المطر مخترقا السق حيث نتكور ملتصقين فوق الفرن نلتمس بعضا من دفئه تضع أمي حلة هنا وتشت هناك وظلت جدتي هي وأمي المسكينة يوزعون أنية مطبخنا المتواضع من اناجر وقروانات وبعض الاواني الفخارية
لتلتقف المطر الذي بدأ ينزل مثل صنابير المياه من سقف منزلنا
كنت طفلا صغيرا يحرك قدماه وسط برك المياه التي غطت أرضية بيتنا الطيني المتواضع وانا ألهو واجري هنا وهناك
غير عابئ ببرد او متحمل مسئولية تأمين صبية صغار لم ينبت لهب زغب بعد
تستشعر أمي مسئوليتها نحو صغارها بعاطفة الأمومة وجدتي بعلو صوتها أستر يارب ..أستر يارب
وتنادي جدتي علي أمي لتتكئ أمي متعلقة بذراع جدتي النحيف الذي يشبه عصا الخيرزان
وفجأة تنزلق قدم أمي في طين ووحل المطر في وسط منزلنا لتسقط علي ظهرها
تصرخ جدتي ويتعالي صراخها عديها سلم يارب وتزداد أنين إمي وصراخها علي مايبدو أن أمي كانت في حملها في الشهر التاسع وهذه الليلة المشئومة كانت ليلة ميلاد أمي
تستلقي أمي متوسدة بردعة حمارتنا الي كانت بجوار حمل برسيم كان معد لافطار ماشيتنا صباحا تفرش جدتي لأمي بقحصيرة بالية من السمار وتضع أمي موضع المتكئة برأسها علي بردعة الحمار وحمل البرسيم
وتنادي جدتي علي والدي الذي كان يؤمن ماشيتنا من عوامل سيول المطر الجارفة
وتطلب منه انه يأخذني معه لبيت خضرة الداية لنحضرها لتقوم بدورها في ميلاد أمي
إخرج حافيا ممسكا في جلباب والدي وسيول المطر تنهمر معلنة العصيان عن التوقف
يطرق والدي بيت خضرة الداية بعصاه
تفتح الداية الوقور
ايوه ياعم الحاج خير
تعالي معانا ياحاجة خضرة
أم العيال تزحلقت في الطين والوحل والبيت بينقع وجالها الطلق
حاضر روحوا وانا جايا وراكم
رجعنا للبيت في طريق عودتنا استشعرت السماء ظروف نا القاسية الصعبة وحالة أمي التي لا تسر عدو ولا حبيب
واستشعرت الطبيعة خجلا واستجاب الله لتوسل جدتي ودعاء أمي المسكينة
يتوقف المطر رويدا رويدا الا من زخاته الخفيفة التي تعلن ان شهر طوبة لايحترم صبي ولا عرقوبة
تشعل جدتي في الموقد الطين بعض القطع الخشبية التي كانت إمي قد جهزتها لمثل هذه الظروف وتسخن المياه
وتأتي خضرة الداية تتحسس الطريق وسط الروبة والطين
والوحل الذي يغطي شارعنا بفعل المطر
كان والدي قد أوقد الكلوب الذي احضره معه من احدي سفرياته لليبيا
وتدخل الخالة خضرة الداية تقابلها جدتي بالترحاب
تطمئن أمي بعد ان كانت ترتجف اوصالها ويتصبب عرقها من الام الطلق وضيق الحال وعدم جاهزية طبيعة ليالي الشتاء القاسية والقارصة البرودة والممطرة للولادة
كانت الداية أمرأة خمسينية عفية قوية البنيان مفتولة العضلات ….حلوة الكلام مع غلظة ملامح وجهها وتجهمها تدخل علي أمي وانا اتصور انها عشماوي وقد جاء لينفذ عقوبة الاعدام لإمي المسكينة
تدخل خضرة الداية متهللة مكبرة مطمئنة لامي ببعض الكلمات التي تبعث الطمإنينة وتدخل الفرحة علي قلب أمي
وتخبرها والنبي البطن ده ربنا هيرضيكي ببنت سترة للبيت
وهيفرح قلبك فيها
دقائق معدودات أمتلأ منزلنا علي اخره بالنسوة من أقاربنا ومن الأهل والجيران الكل يجهز مكانا خاليا من الوحل والطين الذي غطي منزلنا علي اخره
النسوة مشغولات بحمل الوحل والطين وفرش رمل احمر نظيف واعداد مكانا امنا لعملية الولادة
ومجموعة اخري مشغولة بتسخين المياه وحركة دؤوب هنا وهناك وصراخ أمي يتعالي وخضرة الداية تروع من خوفها
وفجأة وبدون مقدمات تتعالي أصوات خضرة الداية وسط التهليل والتكبير للجدات وزغريد النسوة معلنين استقبال منزلنا لمولودة جديدة
تغطي الفرحة علي كل ارجاء البيت
وسكانه فقد حقق رب العباد أمنية أمي بماكانت تتمناه ورزقت ببنت اخر العنقود بعد خمس من الصبية الذكور
تنفرج اسارير أمي مبتسمة لتغطي علي الام الميلاد
يحضر والدي الجدي المعز الذي كانت أمي قد نذرته لله لو ربنا رزقها ببنوتة …يحضر والدي الجدي من مربطه ويستل سكينه
ويذبحه ويوزع لحمه علي كل الحضور وفاء لنذر أمي ولان ربنا أتم ميلادها علي خير
تسهر الداية علي راحة إمي وتطلب من النسوة الحضور لف المولودة الضيفة الصغيرة وتطالب خضرة الداية من النسوة
ان يشحتن لها بعض الملابس وتوضغ الصغيرة في الغربال ويؤذن والدي في أذنها بالاذان
وعندما لاح ضؤ الصباح وأمنت الداية عملية الميلاد علي خير
تطلب من أمي ما كانت نذرته لها من نذر
وهو ضكرين بط بلدي وتقسم الداية بأغلظ الايمان انها لن تبرح مكانها لا بجوز ضكورة البط البلدي وتفي جدتي بنذر أمي وترجع الداية محملة بكل ما لذ وطاب
وما جادت به ظروف بيتنا من عطايا
كانت خضرة الداية قد تلقت دورة تدريبية في مدرسة تمريض الزقازيق في الولادة وكانت خبيرة في فنون الولادة وطرق التوليد …..كانت ناظرة مدرسة تمريض الزقازيق في ذلك الوقت أجنبية أوربية وكانت الحكومة المصرية في ذلك الوقت تعقد دورات تدريبية للداية والقابضة في فنون الولادة وكيفيتها
كانت خضرة الداية تمر علي أمي بين الحين والاخر حتي يوم السبوع فقد كانت حمي الولادة منتشرة في ذلك الوقت مع حمي النفاس وبعض الامراض المستعصية التي تصيب الأمهات في فترة النفاس
وتأتي خضرة الداية يوم السبوع وتإخذ المولودة لتمر من شباك الجامع ( المسجد) عدة اشواط ثم تلف حول ضريح الشيخة سعدة وهو ضريح قريب من منزلنا
ثم يدق بالهون عدة دقات ولابد من تبخير الوالدة
ويتم شحت ملابس جديدة للطفل المولود
والكثير من مراسم السبوع القديمة التي جرفت من ذاكرتي
كان السبوع بسيطا ومتواضعا حبات فول نابت ملضومة في خيط او بعض حبات الفول السوداني وترش السبوع وهو عبارة عن بعض الحبات مما تجود به ارضنا الطيبة
مازالت صورة خضرة الداية ماثلة امام عيناي
كانت داية تتحسس ظروف النسوة الفقراء الغلابة
لم تكن هناك مستشفيات ولا ولادة قيصرية ولاشئ من هذا القبيل نسيت اذكركم ليلة ميلاد أمي كانت في الغيط تؤدي مهام عملها الشاق وجاءت مساء تحمل حمل برسيم فوق راسها وقد أدت روتينها اليومي كما يجب ان يكون وحلبت الماشية وملإت الزير بالماء ثم عشت البهائم واشعلت النار في الفرن ونظفت ظهره وفرشته لننام عليه قبل ان يزمجر شهر طوبة معلنا مطره الغزير

حمدى كسكين

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك