الجمعة - الموافق 22 نوفمبر 2024م

لماذا الملحد شخص مادي لا يؤمن بالغيب ؟ (الجزء1)….بقلم: د/هند درويش

إن الإيمان بالله في أساسه قائم على الإيمان بالغيب، وهذا ما أخبرنا به الله في قوله تعالى: ” الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ” (البقرة: 1-3). وهذه هي العقيدة فلقد عرف الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه ” العقيدة” بأنها رباط لا يسهل حله، وموضوعها لا بد أن يكون أمراً غيبياً، فالعقيدة لا تتصل بالمحسات أبداً أي الأشياء المحسوسة، أي لا بد أن تكون العقيدة في أمراً غيبياً حجته من الآثار المشهدية لذلك سميت عقيدة. إذن فأساس العقيدة أن نعلم أن العالم الذي خلقه الله ينقسم إلي قسمين (عالم الغيب وعالم الشهادة) قال تعالى: ” قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ” (الزمر: 46). فكل شيء تدركه حواسنا فهو عالم مشهود، مثال كل المرئيات التي نراها بالعين، وكل المسموعات التي نسمعها بحاسة الأذن، وكل مايمكن شم رائحته بحاسة الشم، وهناك عالم لا تدركه حواسنا ولكن نستطيع أن نستدل على أثره مثل الكهرباء لا نستـطيع أن نـرى الكـهرباء بـالعين المجردة، لكن دوران المروحة وإضاءة المصباح أثر من آثار الكهرباء، إن الكهرباء لا تستطيع حواسنا أن تدركها ولكننا ندرك آثارها، وما دمنا قد أدركنا آثارها فإننا نحكم بوجودها.
فإن الله سبحانه وتعالى ميز الإنسان عن سائر المخلوقات بالعقل، فالعقل مناط التكليف إذن العقل مفطور على الإيمان بوحدانية الله فإن أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم، آيات تحض على التعلم والقراءة قال تعالى: ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ” (العلق:1-5). فقرأ الأولى يأمرنا الله بالقراءة في كتاب الله المنظور (الكون)، والثانية في كتاب الله المسطور (القرآن الكريم) فالتفكر في الكون وفق العقل الذي منحنا الله إياه وجعله مناط التكليف أي الحساب، وبالتدبر في آيات القرآن الكريم سيعلم الإنسان بما فطره الله على الإيمان بوحدانيته أن هذا القرآن منزل من عند الله وأن الله يخاطب عباده بآيات بينات يقع أثرها الجلي على النفس البشرية التي هي من خلق الله أيضاَ فسبحانه القائل: ” أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ” (محمد: 24). تفسير السعدي: أي إذا تدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله، وتأملونه حق التأمل، لملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان أي اليقين، أم أغلقت من كثرة إعراضهم ومعاصيهم فلا يدخلها خيراً أبداً. فإذا الإنسان لم يؤمن بعد التفكر في كتاب الله المنظور ” الكون ” والتدبر في كتاب الله المسطور ” القرآن ” فلنعلم علم اليقين أن هذا الإنسان أراد اختيار طريق الضلال أي الكفر بكامل إراداته وأخبرنا الله سبحانه وتعالى بمشهد من مشاهد يوم القيامة عندما يخاطب الله هؤلاء الكافرين بأنهم عندما كانت تتلى عليهم آيات الله كانوا بها يكذبون استكباراً وهذا مناقض لما فطرهم الله عليه قال تعالى: ” وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ” (الجاثية: 31). وسيعترفون أن سبب تكذيبهم لآيات الله مع علمهم بأنها منزلة من عند الله نظراً لرغبتهم في إشباع أهواءهم دون قيود تمتعاً بملذات الدنيا وزينتها وسيشهدون على أنفسهم أنهم كانوا قوماً ضالين بكامل إرادتهم قال تعالى: ” أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ” (المؤمنون:105-106) شِقْوَتُنَا: شهواتنا.
ولو أن الإنسان لم يؤمن بكل هذه الشواهد والأدلة التي تشهد على وحدانية الله فالكون كله يشهد على وحدانية الله، وعندما يسمع آيات الله يكذب بها مع العلم أنه مفطور على التإثر بها وهذا حال المؤمنين ومشركين قريش أيضاً فلقد سجدوا لله جميعاً عندما كان يتلو الرسول صلى الله عليهم وسلم سورة النجم عند الحرم حتى وصل إلي هذه الآيات التي في نهايتها أمر بالسجود لله وطاعته قال تعالى: ” هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ” (النجم: 57-62). فسجد الرسول ومعه المؤمنين وسجد المشركين أيضاَ في لحظة واحدة سبحان الله أنها الفطرة !! وهذا ما أخبرنا به الله سبحانه وتعالى أن الكون كله فطر على الإيمان بالله ووحدانيته وكل ما في السموات والأرض يسجد لله طوعاً وكرهاً قال تعالى: ” وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ” (لرعد:15). تفسير السعدي: طوعاً أي بإرادتهم واختيارهم كالمؤمنين، وكرهاً لمن يستكبر عن عبادة ربه، وحاله وفطرته تكذبه. مثل حال مشركين قريش قال ابن عباس رضي الله عنه: « سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ» وهناك فيديو لإمرأة ملحدة سويدية وهي تسمع القرآن فمن شدة تأثرها به بكت وسجدت من خشية الله (1).
فالله سبحانه وتعالى يستنكر على عباده الذين فطرهم على الإيمان به وبوحدانيته أن لا يؤمنون بالقرآن ويسجدون لله إجلالاً وتعظيماً ويؤكد الله أن من لا يؤمن بآيات الله إنما يكذب بها ويستنكرها بكامل إراداته وهو بذلك يناقض الفطرة السليمة الطيبة التي فطره الله عليها وهي الإيمان بوحدانية الله مع الاقتناع التام بأن آيات القرآن منزله من عند رب العالمين قال تعالى: ” فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) (الإنشقاق: 20-24). فإن قوة تأثير آيات القرآن المنزله من عند الله على النفس البشرية التي خلقها الله لا يمكن جحدها أو إنكارها، وهذا ما أعرب عنه المستشرق الألماني ” مراد هوفمان ” ، وهو من المستشرقين الذين دخلوا في الإسلام عن دراسة موضوعية لأصوله العقدية والتشريعية، ويقول ” مراد هوفمان “: ” إن المستشرقين حاولوا إثبات أن القرآن ليس من عند الله وفشلوا، كما فشلوا في إثبات حدوث تغيير في أي حرف أو كلمة فيه، وقد يرفض غير المسلم محتوى القرآن، ولكنه لا يستطيع أن يتجاهل تأثيره الخلاب على قارئه والمستمع إليه ” (2). ويقول في ذلك أيضاً المستشرق الفرنسي ” ألفونس دينيه ” “إن تأثير القرآن على النفس يسمها بطابع لا يُمحى” (3). فسبحانه القائل: ” لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ” (الحشر:21). تفسير السعدي: ولو أن هؤلاء المكذبين لآيات الله قلوبهم قاسية كالجبال الرواسي، فإن هذا القرآن لو أنزله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله أي: لكمال تأثيره في القلوب، لذلك ذم الله كل من لم تنفعهم قلوبهم لتفقه في آياته وأعينهم لتفكر في كونه الواسع وأذانهم لسماع الحق الذي سيقودهم حتماً لليقين بوجود خالق عظيم للكون والإيمان بوحدانيته وخشوع قلوبهم لآياته أن يستنكروا كل هذه الأدلة والبراهين ويجحدونها فلقد شبه الله حال هؤلاء بالأنعام التي لا تعقل ولا تبصر ولا تسمع بل أضل من ذلك، فسيجزيهم الله جزاء إنكارهم واستكبارهم أن يدخلهم جهنم خالدين فيها قال تعالى: ” وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ” (الأعراف: 179). فإن الله سبحانه وتعالى بعد أن فطرهم على الإيمان به وبوحدانيته لم يظلمهم بهذا الجزاء ولكن هم الذين ظالموا أنفسهم عندما أعرضوا عن الحق واستكبروا وعاندوا فطرتهم السليمة مصدقا لقوله تعالى: ” إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ” (يونس: 44).
المراجع:
(1) المنصفون للإسلام في الغرب. ص 109.
(2) نبوة محمد فى الفكر الاستشراقي المعاصر، ص163.

بقلم: د/ هند درويش
باحثة دكتوراه

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك