يمثل عصر (ما قبل التاريخ) في مصر، الفترة ما بين بدايات الاستيطان وحتى بداية عهد الأسرات حوالي عام 3100 ق.م مع حلول عهد الملك مينا. وظل المصريون القدماء منذ أواخر العصر الحجري القديم (230,000 – 12,000سنة ق.م) فرعًا من سلالات البحر المتوسط الجنوبية، واعتبروا أنفسهم أمة قائمة بذاتها، وأطلقوا على أنفسهم (تاوي تم) أي أهل مصر أو ناس الأرض. وقد عاش المصريون خلال العصر الحجري القديم على الهضاب حول النيل في كهوف من الصخور هربًا من قسوة الطبيعة والحيوانات البرية، وعاش الإنسان على صيد الحيوان، واستخدام الأدوات الحجرية.
وبعد العصر المطير حدثت نوبات من الجفاف، أدت إلى تجمع السكان في وادي النيل، بعد أن أخذ النيل شكل مجراه الحالي منذ نحو 14000 ق.م. وكانت أكبر إنجازات هذا العصر اكتشاف النار، كما استطاع الإنسان أن يتوصل إلى صناعة بعض أنواع بدائية من الفخار استعملها كأدوات له. وفي هذه البيئة الجديدة اهتدى الإنسان المصري إلى الزراعة، وأنتج الحبوب مثل القمح والشعير، واستأنس الحيوان واعتنى بتربية الماشية والماعز والأغنام، وعاش حياة الاستقرار والنظام والإدارة والإنشاء بدلًا من حياة التنقل. وأقام المساكن من الطين والخشب، فظهرت التجمعات السكانية على شكل قرى صغيرة. واعتنى الإنسان بدفن موتاه في قبور.كمانشأت حضارات شبيهة لحضارة قدماء المصريين على شواطئ الأنهار في المناطق الدافئة، مثل بلاد الرافدين والهند والصين ونيجيريا ولكن ظلت الحضارة المصرية أنضج حضاريًا وأسبق معرفيًا وتكنولوجيًا وأخلاقيًا. أما في الشمال البارد مثل أوروبا فكانت الأمطار وفيرة وكثرت الغابات، وعاش الناس على الصيد، واستخدموا رماحًا لصيد الحيوانات، وكانوا يعيشون في جماعات صغيرة، ولم تنضج تلك الأنماط من الحياة بالشكل الذي يمدهم بتراكم معرفي وحياتي يفضي إلى صنع حضارة معتبرة مبكرة كما حدث في مصر.
وخلال (عصر المعادن)عرف المصريون القدماء المعادن مثل النحاس والبرونز والذهب، وهو العصر الذي يلي العصر الحجري الحديث، وينتهي ببداية عصر الأسرات في مصر القديمة، وينبغي الإشارة إلى أن البذور الأولى في الأخلاقوالفن والدين والإدارة والكتابة واللغة قد نمت في هذا العصر.وفيه انتقل المصري القديم من (عصر المادة) حين كان الإنسان يصارع الطبيعة من أجل البقاء، إلى بدايات(عصر الأخلاق)،باعتبارها أعظم ظاهرة أساسية حدثت في تقدم حياة الإنسان. على أن الوازع الخُلقي قد شعر به المصريون الأقدمون قبل أن يوجد الشعور به في أي صقيع آخر،حيث أنشأه تكوين مصر الجغرافي، والمناخي، الذي جعل منها معملًا مغلقًا، نمت فيه الأخلاق وتطورت، وسبق تطورها أي مكان آخر.
تعددت حضارات وثقافات وديانات مصر قبل التاريخ،مثل حضارة (الفيوم)، وهي تقع على الضفة الغربية للنيل جنوب القاهرة وترجع إلى حوالي عام 5000 ق.م، وقد استمرت ألف عام. وحضارة (حلوان) النيوليتية، حيث استقر الإنسان بمنطقة (العمري) وأقام حضارته في العصر الحجري الحديث.وحضارة (مرمدة بني سلامة) حوالي 4800 – 4300 ق.م، وقد أظهرت الاكتشافات الأثرية التي تمت في هذه القرية أن سكانها قد مارسوا الزراعة، وعرفوا صناعة النسيج فنسجوا ملابسهم من الكتان، وتزينوا ببعض الحلي على هيئة خواتم وأساور من العاج وعقود من الخرز، وشيد سكان مرمدة مساكنهم في صفوف تكاد تكون مستقيمة يفصل بينها شارع ضيق، وأُعتبر ذلك تفكيرًا مبكرًا في أسلوب تخطيط المدن.وفي العصر النحاسي تكونت (حضارة البداري) 4400 ق.م، وتُعتبر هذه الحضارة أكثر تطورًا من حضارة (مرمدة بنى سلامة)، على اعتبار أن العصر النحاسي أكثر تطورًا، وقد تميزت حضارة البداريبتقدم صناعة الفخار بدرجة ملحوظة، وكذا ظهور الفن التشكيلي الذي يتمثل في مجموعة من التماثيل المصنوعة من الطين والفخار والعاج، وإعداد المساكن التي تميزت بوجود بعض الأثاث بداخلها، كالأسِرة الخشبية غير المرتفعة، والوسائد المصنوعة من الجلد.
كانت حضارات (نقادة)الأولى والثانية والثالثةحوالي (4000 – 3000 ق.م)، جسر التواصل بين حضارات ما قبل التاريخ وبين حضارة عصر الأسرات الفرعونية، وتشتهر (نقادة) بفخارها الذي لعب دورًا بارزًا في تاريخ حضارات ما قبل التاريخ في مصر، وأرست قواعد الحضارة الزراعية، وخطت خطوات واسعة في الصناعات الحجرية والمعدنية، وتوسعت في استخدام النحاس في صناعة الأدوات، وتقدموا إلى حد كبير في صناعة الأسلحة من حجر الظران، كالسكاكين ورؤوس السهام وغيرها، كما ازدهرت صناعة الصلايات التي كانت تُستخدم لصحن الكحل، وكذلك أدوات الزينة، والحلي المصنوعة من العاج.وهي الفترة التي تمت خلالها عملية تشكيل الدولة، وأصبحت بادية للعيان، من خلال أسماء الملوك التي تترأس حكومات قوية.
عادة ما يُشار إلى حضارة نقادة الثالثة (الأسرة صفر) أو فترة ما قبل الأسرات، وقد حكم في هذه الفترة حوالي ثلاثة عشر حاكمًا، وكان آخرهم الملك نارمر (مينا) حوالي عام 2950 ق.م، حيث يعتبر كثير من العلماء أن الملك مينا آخر ملوك الأسرة صفر.وفي هذا الوقت تم تسجيل اللغة المصرية لأول مرة في (الهيروغليفية). وقد بدأ تكوين الدولة في هذه الحقبة وربما حتى في وقت سابق، حيث نشأت مختلف الدول والمدن الصغيرة على طول النيل. وكان التبادل التجاري جاريًا بين الشمال والجنوب، وكان النيل أسهل وسيلة للانتقال ونقل البضائع. وتدل الآثار على تقارب كبير في الأفكار والمعتقدات في تلك الفترة، ومن مخطوطات كثيرة وتزيينات مختلفة لأواني ولوحات يتبين أن عهد الملك (العقرب الثاني) كان زاخرًا بتقدم اجتماعي وديني وعقائدي في الجنوب، كما انتشر نفس الفكر أيضًا في الشمال، فكانت معالم وحدة البلاد قد بدت.وقد سعت مملكة الصعيد إلى تحقيق الوحدة مع مملكة الدلتا، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، خاضت حروبًا قاسية، تُوجت بالوحدة بين المملكتين. ويُعد دبوس الملك العقرب وصلاية الملك مينا من أهم الآثار التي تدل رسومها على الحروب التي دارت بين الطرفين، فالملك العقرب حارب أهل الشمال وانتصر عليهم، ولكن مينا هو الذي حقق الوحدة بين القطرين بدليل تتويجه بتاج الصعيد الأبيض والشمال الأحمر. وقد أُسست مدينة (ممفيس) عاصمة للدولة المصرية الموحدة عند رأس الدلتا. وبدأ عصر الأسرات أي الحضارة الفرعونية.وقد عُثر على أقدم بحث عُرف عن الحق والباطل في تاريخ الإنسان، في ثنايا مسرحية (منفية)، تشيد بعظمة مدينة (ممفيس) وسيادتها، ويرجع تاريخها إلى منتصف الألف الرابع قبل الميلاد.
استمرت الحضارة الفرعونية على مدار ثلاثين أسرة حاكمة (ما بين 3200 ق.م تقريبًا حتى 332 ق.م).بدأت بعصر(الأسرات المبكرة) أو العصر الثيني (3200 – 2780ق.م). وقد أصبح مينا أول ملك في عصر الأسرات الفرعونية المبكرة، والذي تكون من الأسرتين الأولى والثانية، وكانت عاصمتها (ممفيس). وكان لهذا التنظيم المدني نظير رمزي داخل نظام أيديولوجي متقن الإعداد، كان الفرعون بمثابة محوره الأساسي إذ يمثل القوة العظمى التي ينتظم العالم ويدور من حولها. ولم يكتف المصريون بصناعة الآلات والأواني من الحجر والعظم والعاج والفخار والخشب بدقتهم المعروفة كما كان في عصر ما قبل الأسرات، بل تخطوا ذلك إلى صناعة آلاتهم من المعادن والأحجار الكريمة وشبه الكريمة بمهارة فائقة. وكذلك نجد أن أعمال النقش والنحت والتلوين عظيمة. ونشاهد منذ بداية هذا العصر التاريخي ظهور المهندسين المعماريين وفن الطب وجمع المتون الدينية وتأليفها.
أُطلق على الأسرات التي تلت (عصر الأسرات المبكرة) اسم (الدولة القديمة)، وكان من أوائل حكام هذه الفترة الملك زوسر صاحب المجموعة الهرمية بسقارة (الهرم المدرج). ويطلق المؤرخون على عصر الدولة القديمة اسم (عصر بناة الأهرام)، إشارة إلى تلك الأهرامات الضخمة التي بُنيت في بطن الصحراء عن شمال الوادي، من إقليم الفيوم جنوبًا إلى الجيزة شمالًا. وما يميز هذه الدولة أنها كانت تتمتع بتنظيم على مستوى فائق من الدقة، يهيمن بشكل منهجي على الممتلكات والرعايا في البلاد، وقادر على تأمين الحدود. وتكونت الدولة القديمة من أربع أسرات (من الأسرة الثالثة حتى نهاية الأسرة السادسة)، وحكمت هذه الدولة حوالي من 2780 ق.م إلى2230 ق.م، واستقر الفرعون في مدينة ممفيس. وفي هذا العصر تطورت الكتابة الهيروغليفية المتطورة والفن الناهض. وكانت مصر في ذلك الوقت الدولة الأكبر والأقوى في نطاق العالم القديم، ولا يوجد لها جيران أقوياء وأنداد يهددون مصالحها الإستراتيجية.
يقول جيمس هنري بريستد في كتابه (فجر الضمير) صفحة124: “كان المصري في عصر الأهرام يشعر بوجود جو من الوازع الخُلقي يزعه، حتى أن متون الأهرام قد أظهرت لنا الآن ذلك الوازع مطلًا على ما قد مضى من تلك العصور التي لم تكن تعرف معنى للخطيئة”، ويقول: “على أن الاعتقاد بوجود عصر للمثال الأعلى، أو على الأقل بوجود عصر للعدالة والسلام، يجب أن نربط بينه وبين ذلك العصر الذي يُشار إليه في متون الأهرام…”. ويتابع بريستد: “استعمل المصري القديم كلمة (قلب) لتدل على (العقل) أو (الفهم)، لأنه كان يعتقد أن القلب هو مركز الفهم، وصار الإله نفسه هو القلب الذي يفكر، واللسان الذي يتكلم… فهل بعد ذلك يمكننا أن نتعرف على الأساس التاريخي السحيق في القدم لعقيدة (الكلمة) في أيام العهد الجديد (الإنجيل)؟]في البدء كانت الكلمة، وكانت الكلمة مع الله والكلمة كانت الله[ وهل نجد هنا صدى لتجارب إنسانية عتيقة على شاطئ النيل؟”.
ساد خلال هذا العصر الاعتقاد بأن حق كل فرد في التحلي بالأخلاق الفاضلة يمكن أن يقوم على أساس النهج والسلوك اللذين يعامل بهما أفراد أسرته، وهم والده ووالدته وإخوته وأخواته. وقد أكدها أحد أشراف رجال الوجه القبلي الذي كان يعيش في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، إذ قال في نقوش قبره بعد أن عدد لنا كثيرًا من أعماله الطيبة: “إني لا أقول كذبًا، لأني كنت إنسانًا محبوبًا من والده، ممدوحًا من والدته، حسن السلوك مع أخيه، ودودًا لأخته.” (المصدر السابق).هذه العلاقات الأسرية الودودة، التي تنطق بها تلك النقوش، وهو ما تكرر في نقوش الأهرامات، تُعد كشفًا ذا أهمية أساسية في تاريخ الأخلاق، ذلك لأن هذه الصورة، مضافًا إليها النقوش المدونة فوق جدران القبور، مع حِكم (بتاح)، تقدم لنا برهانًا تاريخيًا قاطعًا على أن الإدراك الخُلقي نبتت جذوره من حياة الأسرة، ثم تطور هذا الإدراك تدريجيًا حتى أخذ شكل قوة وازعة متزايدة تسيطر على سلوك الإنسان، وهو تطور يسير متجهًا نحو توطيد مكانة (الضمير)، حتى يصير قوة اجتماعية ذات نفوذ في حياة البشر أجمعين.
في الوقت الذي كان فيه مدى السلوك الحسن محصورًا على الأرجح في أول الأمر، في دائرة الأسرة، فإن نطاقه قد أخذ يتسع حتى صار يشمل الجيرة، أو الطائفة قبل عصر الأهرام بزمن طويل، فمن ذلك أننا نجد مدير ضيعة يُدعى (مِنى) في نقوش مأخوذة من مقبرته، التي من عهد الأسرة الرابعة (2900 ـ 2750 ق.م)، وموجودة الآن في متحف (جلبتوتيك) بمدينة ميونخ، ما يأتي: “أما فيما يخص كل رجل عمل هذا لي (أي ساهم في إقامة هذا القبر)، فإنه لم يكن قط غير مرتاح، سواء أكان صانعًا أم حجارًا، فإني قد أرضيته” المصدر السابق ص 130. كذلك ترك لنا أحد حكام المقاطعات، ممن عاشوا في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، البيان التالي عن حياته الصالحة (كما أوردها بريستد)، حيث يقول:”لقد أعطيت خبزًا لكل الجائعين في جبل الثعبان (ضيعته)، وكسوت كل من كان عريانا فيها، وملأت الشواطئ بالماشية الكبيرة، وأراضيها المنخفضة بالماشية الصغيرة، وأشبعت كل ذئاب الجبل، وطيور السماء بلحوم الحيوان الصغير… ولم أظلم أحدا قط في ممتلكاته حتى يدعوه ذلك إلى أن يشكوني لإله مدينتي… ولقد كنت محسنًا لأهل ضيعتي بما في حظائر ماشيتي، وفي مساكن صيادي الطيور، وإني لم أنطق كذبًا، لأني كنت محبوبًا من والده، ممدوحًا من والدته، رفيع الأخلاق مع أخيه، ودودًا لأخته” المصدر السابق. ونجد القدماء المصريون يؤكدون لنا براءتهم من عمل السوء، فيقص علينا رئيس أطباء الملك (سحورع) في منتصف القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد ما يأتي: “إني لم آتِ أي سوء قط ضد أي إنسان”. وهذا ما يكرره كاهنبقوله: “إني لم أرتكب أي عنف ضد أي إنسان” المصدر السابق.
على أن الوازع الخُلقي لم يبق مقتصرًا على علاقة الإنسان بأسرته وجيرانه، أو المجتمع الذي يعيش فيه فحسب، بل كان قد بدأ تأثيره يظهر في ذلك الزمان في الأوساط العليا من المجتمع البشري، حتى صار تأثيره يظهر في واجبات الحكومة نحو عامة الشعب، وتحتوي متون الأهرام على أدلة قاطعة لا تقبل الشك، على أن طلبات (العدالة) و(الحق)، كانت قوتهما أقوى من سلطة الملك نفسه، ونجد في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، أن أحد ألقاب الملك (وسركاف) الرسمية لقب مقيم العدالة (ماعت)، وتمدنا حِكم الوزير (بتاح حتب) بأقدم نصوص موجودة في أدب العالم كله للتعبير عن السلوك المستقيم، فعندما شعر ذلك الوزير المسن بضعفه بسبب تقدمه في السن (110 سنة)، كما ذكر هو في مقدمة حِكمه، طلب من الملك أن يسمح له بتعليم ابنه (أي ابن الوزير بتاح)، ليعده للقيام بأعباء الواجبات الحكومية حتى يكون مساعدًا لوالده وخلفًا له، وقد وافقه الملك على ذلك، وحينئذ قام الوزير الكبير بالنصح لابنه بألا يسيء استعمال الحِكمة التي سيلقنه إياها، بل ينتهج سبيل التواضع، فيقول: “لا تكونن متكبرًا بسبب معرفتك، فشاور الجاهل والعاقل، لأن نهاية العلم لا يمكن الوصول إليها، وليس هناك عالم بلغ في فنه حد الكمال” المصدر السابق، ثم يعقب ذلك ثلاث وأربعون فقرة، يخصص ثلثها (أي 14 فقرة من 43 فقرة)، في تأكيد حسن الذوق، واستعمال الذهن الذي أطلق عليه كالمعتاد كلمة (القلب)، والإصغاء للآخرين، فنجده يقول: “إن المستمع هو الذي يحبه الإله، أما الذي لا يستمع فإنه هو الذي يبغضه الإله، والعقل (القلب حسب النص الأصلي)، هو الذي يجعل صاحبه مستمعًا أو غير مستمع، إن ثروة المرء العظيمة هي عقله”. ومن الواضح أن خبرة ذلك السياسي المسن بتقلبات ظروف الحياة الإنسانية قد علًّمه التواضع، ولذلك قال ينصح ابنه: “إذا أصبحت عظيمًا بعد أن كنت صغير القدر، وصرت صاحب ثروة بعد أن كنت محتاجًا… فلا تنس كيف كانت حالك في الزمن الماضي، ولا تفخر بثروتك التي أتت إليك من الإله (أي الملك)، فإنك لست أفضل من أقرانك الذين حل بهم ذلك… اتبع لبًّك (أي روحك) مادمت حيًا… إذا كنت حاكمًا فكن شفيقًا حينما تسمع كلام المتظلم، ولا تسئ إليه قبل أن يغسل بطنه ويفرغ من قول ما قد جاء من أجله… وإنها لفضيلة يزدان بها القلب أن يستمع مشفقًا… لا تنس أن تحكم بالعدل، وأعطِ كل ذي حق حقه… واعلم أن الخوف من الأمير يأتي من إقامته العدل… واعلم أنه جدير بالمَلك ألا يميل إلى المُستكبر أكثر من المُستضعف… راع القانون الذي أُلقي على عاتقك” المصدر السابق.
استمرت الدولة القديمة إلى أن دب فيها الضعف، وقلت هيبة ملوكها، وبدأت تزداد سلطة حكام الأقاليم خاصة في الأسرة السادسة. وبذلك دخلت مصر مرحلة جديدة أُطلق عليها (عصر الاضمحلال الأول).ساد خلاله رؤية متشائمة عن الكون عملت على تغذية تيار من الأفكار التي استقرت بعد ذلك في التراث الثقافي الأدبي، ولكن من جهة أخرى حدث تطبيق (للديمقراطية) في المعتقدات الجنائزية. فبعد أن كان المصير الشمسي في الماضي من حق الفرعون وحده بعد الموت، أصبح البسطاء يتطلعون إلى نفس هذا المصير بعد ذلك.وربما كان ارتفاع الضرائب في ظل انخفاض المحاصيل هو الشرارة الأولى التي أدت إلى أول ثورة اجتماعية سجلها التاريخ في هذا العصر.ففي الوجة البحري كانت الدلتا في يد الآسيويين القادمين من الشام، وفي مصر الوسطى كان حكام إهناسيا من الجنس الليبي هم المسيطرون، وفي الوجه القبلي كانت البلاد ملتفة حول حكام طيبة. وبمرور فترة تزيد عن ثمانين عامًا من الصراع حاول فيها أربعة ملوك قبل (منتوحتب الأول) توحيد البلاد، نجح البيت الطيبي في تحقيق وحدة البلاد وتكوين الأسرة الحادية عشر، وبناء ما عُرف باسم (الدولة الوسطى)، حوالي 2123 – 1778ق.م.
يُعتبر عصر (الدولة الوسطى) من أزهى عصور مصر الفرعونية، في الاقتصاد والفن والآداب والدين.وشهدت الدولة الوسطى زيادة في التعبير عن (التقوى الشخصية) أو ما يمكن أن يُسمى (ديموقراطية الحياة الآخرة)، التي تعطي لكل فرد روحًا من الممكن أن تكون مُرحبًا بها بجوار الآلهة بعد الموت.ونمت في تلك الفترة فكرة دوائر الأمن القومي المصري وأهمية توسيع الحدود السياسية لمصر. واتسعت فئة المثقفين المميزين، ونمت فئة البرجوازية الصغيرة.واستطاعت الدولة الوسطى أن تقيم نوعًا جديدًا من الكلاسيكية في الأدب والفن والثقافة، وبهذا أصبحت أكثر من مرة بمثابة نموذجًا يُحتذى به فيما بعد بل معيارًا ثقافيًا وفنيًا. وحدث في هذا العصر تطور أخلاقي كبير،ويظهر ذلك في خطاب التكليف الذي وجهه (أمنحوتب) المؤسس العظيم للدولة الوسطى المصرية، إلى وزيره الأعظم (رئيس الوزراء) يدعوه إلى أن يقيم العدل ولا يستكبر على الضعيف، وأن قوة الحاكم في عدله، وليس في بطشه: “لا تنس أن تحكم بالعدل، وأعطِ كل ذي حق حقه… واعلم أن الخوف من الأمير يأتي من إقامته العدل… واعلم أنه جدير بالملك ألا يميل إلى المُستكبر أكثر من المُستضعف… راعِ القانون الذي أُلقي على عاتقك” المصدر السابق. وكانت هذه رسالة الفرعون المصري منذ آلاف السنين، لكل من يعتلي حكم مصر أو غير مصر، فالعدل هو ميزان المُلك، في أي عصر أو أي مكان.
وبنهاية الدولة الوسطى حدث توتر اقتصادي كبير، وتأجج التنافس بين أفراد الأسرة الحاكمة على العرش، مما ساعد على انفلات في هجرة الزنوج إلى مصر من الجنوب، وهجرة الآسيويين من الشمال (الهكسوس)، وهجرة الليبيين من الغرب، وقد أدى ذلك كله إلى (عصر الاضمحلال الثاني).وبعد مرور ما يقارب مائة عام على سيطرة الهكسوس على الحكم في الشمال، استطاعت قوات طيبة في الجنوب من جمع ما يكفي من القوة لتحدي حكام الهكسوس لصراع استمر لمدة ثلاثين عامًا. ويمكن أن نحدد نهايتهم بتاريخ تتويج الملك (أحمس) وبداية الأسرة الثامنة عشرة. بينما ذاب الآسيويين تمامًا في نسيج الشعب المصري خلال حكم ثلاث أسر متتالية.
بمجرد أن توحدت مصر سياسيًا في نهاية عصر الاضمحلال الثاني، بدأت نهضتها على الفور، وتمثل ذلك في ولادة (الدولة الفرعونية الحديثة)1570 – 1070 ق.م، والتي يُشار إليها مجازًا باسم (الإمبراطورية المصرية) في التاريخ المصري القديم، وتغطي الأسرات الثامنة عشرة، والتاسعة عشرة، والعشرين من سلالات مصر. وتبدأ بالملك أحمس الأول، مؤسس الدولة الفرعونية الحديثة، بعد أن طارد ملوك الهكسوس شمالًا، وقضى على ثورات النوبيين جنوبًا. وبدت طيبة في عهد الملك تحتمس الثالث في أبهى صورها وازدانت بالمعابد والهياكل والمسلات والتماثيل. كما كان أقصى حدود لمصر القديمة في عصره، حيث وصلت حدود مصر إلى الفرات شرقًا، وإلى ليبيا غربًا، وجنوبًا إلى الشلال الرابع في السودان (بين مروي وصحراء المناصير).وشهد هذا العصر اعتلاء أول ملكة أنثى لعرش مصر، وهي (حتشبسوت). كما شهد هذا العصر حوالي العام 1350 ق.م، وصول أمنحوتب الرابع إلى العرش، الذي وضع سلسلة من الإصلاحات الأخلاقية والدينية الثورية، بتغيير اسمه إلى إخناتون (أي عبد آتون)، حيث روج لإله الشمس آتون على أنه الإله الأعلى، وعلى أنه واحد لا شريك له، وهاجم سلطة وقوة المؤسسة الكهنوتية في ذلك الوقت. وبعد وفاته، تم التخلي سريعًا عن ديانته.وعندما تولى رمسيس الثاني العرش، والمعروف أيضًا برمسيس العظيم، وذلك في حوالي 1279 ق.م، عمل على بناء المزيد من المعابد، وإقامة المزيد من التماثيل والمسلات، وقاد بجرأة معركة قادش ضد الحيثيين، وأسفرت تلك المعارك عن أول وأقدم معاهدة سلام عرفها التاريخ (معاهدة قادش)، وكان ذلك في العام 1258 ق.م. كما أُطلق على الأسرتين التاسعة عشر والعشرين اسم (الرعامسة) نسبة إلى (رمسيس الأول)، وشكل الرعامسة الجزء الثاني للدولة الفرعونية الحديثة (1293 – 1089 ق.م)، وقد عملت فترة الرعامسة على إحياء الأعمال الكلاسيكية الخاصة بالدولة القديمة والدولة الوسطى وفي الوقت ذاته ساعدت على إثراء الأدب المكتوب باللغة المصرية الحديثة آنذاك.وبعد انتهاء حكم الملك (رمسيس الثالث) ضعفت البلاد نتيجة لضعف الملوك وتدخل كهنة (آمون) بطيبة في شؤون الحكم، وتعاظم تعرض البلاد للأخطار الخارجية. واستمر التدهور حتى استطاع كبير كهنة الإله (آمون) تولي الحكم وأن يعلن نفسه ملكًا، وبذلك انتهى عهد الدولة الحديثة عام 1085ق.م، وسقط الحكم في يد الكهنة ورجال الدين.
وقد أثرت عوامل انهيار الدولة الحديثة على التوازن الحضاري المصري، ونقلت مصر إلى (عصر الاضمحلال الثالث)، وهو الاسم الذي أطلقة علماء المصريات على الفترة ما بين نهاية الدولة المصرية الحديثة وحلول الأسرة السادسة والعشرين. وسادت في هذه الفترة كثير من التقلبات التي استمرت طوال ما يزيد عن أربعة قرون، وخلال هذا الوقت، استقر الليبيون ضمن قبائل في منطقة غرب الدلتا، وبدأ شيوخ تلك القبائل في زيادة سلطتهم تدريجيًا، وسيطر أمرائهم على الدلتا تحت إمارة شيشنق الأول الذي أسس الأسرة الثانية والعشرين (945-850 ق.م)، أي ما يُسمى أسرة بوباستيس التي حكمت لنحو مائتي عام.
كما شكل زعماء النوبة مملكة مستقلة كأغلب أقاليم مصر في ذلك الوقت، وتمكن الملك النوبي (بعنخي) من القضاء على هؤلاء الحكام الضعاف وأسس الأسرة الخامسة والعشرين، وتمكن ملوك النوبة من الاستيلاء على مصر كلها (730 – 656ق.م)، ولكن لم يحكم الملوك النوبيين مصر إلا بضع عشرات من السنين.وبعد دورات من الصراع دفع الآشوريون الكوشيين وأجبروهم على العودة إلى النوبة، واحتلوا ممفيس، وعزلوا معابد طيبة، وبذلك انتهت فترة حكم الأسرة الخامسة والعشرين النوبية.
ومع عدم وجود خطط دائمة للغزو، ترك الآشوريون السيطرة على مصر لسلسلة من التوابع التي أصبحت تُعرف باسم ملوك سايت من الأسرة السادسة والعشرين. وبحلول عام 653 ق.م تمكن ملك السايت بسماتيك الأول من طرد الآشوريين بفضل المرتزقة اليونانية الذين تم تجنيدهم لتشكيل أول بحرية مصرية. وبتوحيد مصر بدأ الملك بسماتيك عصرًا جديدًا، فقام بإصلاحات عديدة، وعاد المصريون إلى عصور الازدهار والرقي واستعادوا جزءًا من حضارتهم القديمة، ثم مات بسماتيك بعد أن حكم مصر حوالي أربعة وخمسين عامًا. وفي عهد اخر ملوك هذه الأسرة وهو بسماتيك الثالث، الذي لم يزد حكمه عن عامين. هجم في عهده الملك الفارسي قمبيز على مصر عام 525 ق.م، وهزم المصريين عند بلوزيم (تل الفرما)، وأسر بسماتيك بعد معارك متفرقة، وبذلك انتهت الأسرة السادسة والعشرون.
ولكن لم يهدأ المصريون، وظلت نيران الثورة مشتعلة، إلى أن تم تحرير البلاد وطرد الغزو الفارسي. ثم أصبح(آمون حر) أمير سايس ملكًا على مصر، وأسس الأسرة الثامنة والعشرين، وأتخد سايس عاصمة للحكم، واستمر حكمه حوالي ست سنوات.وفي عهد خلفه نختمبو الثانيعاد الفرس لغزو مصر، وفر نختنبو إلى النوبة. ويمثل الغزو الفارسي الثاني الأسرة الحادية والثلاثين، التي استمرت حوالي عشر سنوات، وانتهت بتسليم الحاكم الفارسي مازاسيس مصر إلى الإسكندر الأكبر من دون قتال سنة 332 قبل الميلاد، الذي ضمها إلى ملكه الواسع، وهكذا ينتهي التاريخ الفرعوني على يده ليحكمها بطليموس أحد قواده، ومن بعده خلفاؤه فيما يُعرف بالعصر البطلمي.
ساوى قدماء المصريين قانونيًا بين جميع الطبقات الاجتماعية من الرجال والنساء، حيث كان لأقل الفلاحين التقدم بالالتماس إلى الوزير وحاشيته طلبًا للعدل. ومُنح كل من الرجال والنساء الحق في امتلاك وبيع الممتلكات، وتنظيم العقود والحق في الزواج والطلاق، بالإضافة للحق في الميراث وإنشاء محاكم للفض بين المنازعات القانونية، وقد أمكن للمتزوجين التملك معًا، وبصورة مشتركة، بالإضافة إلى حماية المرأة عند الطلاق، حيث تنص عقود الزواج على الالتزامات المالية للزوج على زوجته وأولاده حتى بعد الطلاق. وبمقارنة النساء مع نظرائهن في اليونان القديمة، بل وحتى مع حضارات أكثر حداثة، كانت للمرأة المصرية في ذلك الوقت حرية اختيار، وفرص متاحة للتحقيق أكثر من أي امرأة أخرى في تلك الحقبة. فأصبحت نساء مثل (حتشبسوت) من الحكام الفراعنة، في حين أن البعض الآخر مارس سلطة كبيرة مثل زوجات آمون المقدسة. ومن ناحية النظام القانوني، رأس الفرعون النظام القانوني رسميًا، وكان مسؤولًا عن سن القوانين وتحقيق العدالة، والحفاظ على القانون والنظام، وهو مفهوم لدى المصريين القدماء ويشار إليه بالإله (ماعت). وقد تجلى حرص المصري القديم على إبراز أهمية القيم في المظاهر الحياتية، فكان أهم ما في وصية الأب قبل وفاته تتحدث عن الجانب الأخلاقي، حيث نجد الكثير من الحكماء والفراعنة يوصون أبناءهم بالعدل والتقوى، كذلك كانوا يحرصون على توضيح خلود تلك القيم في عالم الموت، لذا؛ نحتوا على جدران مقابرهم رمز إلهة العدل (ماعت) ليتذكروا أن العمل باقٍ معهم. وفي مجال الزراعة، ونتيجة للتربة الخصبة الغنية والناجمة عن الفيضان السنوي لنهر النيل، كان المصريون القدماء قادرين على إنتاج كمية وافرة من الغذاء، والتي تسمح للسكان بتكريس مزيد من الوقت والموارد للأنشطة الثقافية والتكنولوجية والفنية. وقام المصريون القدماء بزراعة قمح إيمر والشعير، وعدد آخر من محاصيل الحبوب، والتي تُستخدم لصنع مكونا الغداء الرئيسان، الخبز، وشراب الشعير. وزرعوا الكتان لاستخدامة في صناعة نسيج الملابس، كما استُخدم البردي النامي على ضفاف النيل لصنع الورق. واعتقد المصريون أن العلاقة المتوازنة بين الناس والحيوانات عنصرًا أساسيًا في النظام الكوني، ومن ثم اعتقدوا أن الإنسان والحيوان والنبات أعضاء من كيان واحد، ولذلك كانت الحيوانات، سواء المستأنسة أو البرية، تشكل مصدرًا حيويًا للروحانية، والرفقة، ومؤازرة القدماء المصريين.وصُنفت اللغة المصرية كلغة شمال أفرو آسيوية، وهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالبربرية واللغات السامية، ولها تاريخ أطول من أي لغة على وجهه الأرض، حيث كُتبت منذ عام 3200 ق.م إلى العصور الوسطى والمتبقية، وظلت تُنطق لفترة أطول بعد توقف كتابتها، وقد تطورت اللغة المصرية ومرت بمراحل عدة، فبدايةً كانت اللغة المصرية القديمة، ثم أصبحت المصرية الوسطى، وبعد ذلك ظهرت اللغة المصرية المتاخرة، ثم الديموطيقية والقبطية. وقد ظهرت الكتابة لأول مرة مع المَلَكية، على العلامات والتسميات للمواد التي وجدت في المقابر المَلَكية. كان هذا في المقام الأول هو مهنة الكُتاب، الذين عملوا من مؤسسة (مفتاح الحياة) أو دار الحياة، وقد ضم الأخير مكاتب ومكتبات سُميت (دار الكتب) ومعامل ومراصد فلكية.وحفظ المصريون القدماء تراثًا ثقافيًا غنيًا تكامل مع الأعياد والمهرجانات المصحوبة بالموسيقى والرقص. واهتم المصريون القدماء بدرجة كبيرة بالنظافة والمظهر، مستخدمين صابونًا مُصنع من الدهن الحيواني والطباشير، واستخدموا الزيوت العطرية لتغطية روائح الجسد. وشملت الأدوات الموسيقية بدايةً المزامير والعيدان، قبل أن تتطور لاحقًا وتنتشر الأبواق وأنابيب القرع وتصبح أدوات شعبيةمنتشرة. وفي عصر الدولة الفرعونية الحديثة، استخدم المصريون الجرس والصنج والدف والطبلة والعود في العزف، واستوردوا القيثارة من آسيا، وكانت الآلات الشبه جلجلية مثل الصُلاصل تُستخدم بشكل مهم في المراسم والاحتفالات الدينية. وكانت لعبة سينيت من أوائل الألعاب الترفيهية لدى المصريين القدماء، وظهرت بعدها لعبة أخرى تُدعى ميهين، وكلاهما ألعابًا لوحية تُلعب على لوح، بينما استخدم أغنياء المجتمع المصري القديم الصيد وركوب القوارب كنوع من الترفيه.كما حافظ المطبخ المصري القديم على استقرار نسبي لفترات طويلة على مر الزمن، حتى أنه ما زالت توجد تشابهات بين المطبخين الحديث والقديم.
كان استيلاء الإسكندر على سوريا ومصر والعراق وغيرها من بلاد الشرق القديم أكثر من مجرد سيطرة حربية وتوسع عسكري، إذ أن هذه الأقاليم كانت صاحبة حضارات عريقة نمت وازدهرت على مر العصور وأفاد منها الإغريق، هذا بالإضافة إلى أن الإسكندر نفسه أظهر إعجابه بها واحترامه لها، وبدا ذلك واضحًا في مصر على وجه الخصوص. وقد بدأت العلاقات بين مصر وبلاد اليونان وبحر إيجة مع بواكير التاريخ المصري القديم، حيث كان هناك اتصال بين مستوطنات من عصور ما قبل التاريخ في مصر وبين سكان جزر بحر إيجة. وطوال (الدولة الفرعونية الحديثة) وبينما مصر تدعم أركان إمبراطوريتها، سُجل ممثلوا جزر البحر المتوسط وهم يقدمون الجزى لملوك مصر، وكانت هذه الجزر بمثابة بوابة مصر الشمالية نحو عالم البحر المتوسط.
فكر الإسكندر في تكوين حضارة جديدة تجمع بين مزايا الحضارات الشرقية العريقة والحضارة الإغريقية الناشئة، ولتحقيق ذلك عمل على فتح أبواب الشرق على مصراعيها أمام الإغريق للإقامة بها، كما أقام بعض المدن الجديدة كالإسكندرية في مصر وغيرها لتصبح مراكز لنمو تلك الحضارة الجديدة ولتعمل على نشرها في كل مكان، وقد سُميت تلك الحضارة الجديدة باسم (الحضارة الهيلنستية). وازدهرت الحضارة الهيلنستية في مصر إذ وجدت فيها تربة خصبة للنمو على نحو لم تشهده في بلاد الإغريق نفسها، وأصبحت مدينة الإسكندرية المركز الرئيس للحضارة الهيلنستية والنموذج الأمثل لها في العالم القديم، وعاصمة العالم المتمدن آنذاك، ومنها أشعت تلك الحضارة على باقي أجزاء العالم، وفيها احتفظ أجدادنا بعناصرها من مئات السنين.ورغم أن الإسكندر دخل مصر غازيًا، إلا أنه بعد تنصيب خلفه بطليموس الأول واليًا على مصر قام بفصلها عن الإمبراطورية اليونانية، وأعلن نفسه واليًا عليها من عام 323 إلى 305 ق.م، ثم بصفته ملكًا عندما استقل بمصر تمامًا عن خلفاء الإسكندر إلى عام 284 ق.م.كما أسس بطليموس جامعة الإسكندرية التي كانت تضم مكتبة الإسكندرية المشهورة. ولكي يوحد المصريين واليونانيين ابتدع بطليموس الأول ديانة جديدة تجمع ما بين الديانة المصرية والديانة اليونانية، وعمل إله سماه (سيرابيس) الذي كان توليفة مصرية يونانية وكان له معبد ضخم في منطقة أبو قير. وإلى جانب الإله سيرابيس الذي أُدمج مع الإله (أوزيريس – أبيس) أصبحت إيزيس إلهة يونانية، وحرصت الملكات الهيلينيات على استعارة شارات هذه الإلهة.
خلال حكم البطالمة ظهر مفهوم آخر للجمال والحكم والإنسان، وتفسيرات أخرى للكون اجتذبت إلهيا صفوة المجتمع. وأسس البطالمة نظام حكم قوي يتشبهون فيه بالنظام الفرعوني.واهتم البطالمة اهتمامًا كبيرًا بالنواحي الاقتصادية وخاصة فيما يتعلق بالزراعة والصناعة والتجارة.وقد اجتمعت التقاليد المصرية والشرائع اليونانية على إقامة نظام تشريعي أخذت بعضه عن القانون الأثيني وحسنت فيه من جميع نواحيه ما عدا ناحية (الحرية)، وكانت حكومة البطالمة أقدر الحكومات وأحسنها نظامًا في العالم الهيلنستي. وحرص البطالمة على الظهور أمام الشعب المصري بمظهر الحكام العادلين الوطنيين، فاحترموا عاداتهم وتقاليدهم التي ورثوها من الفراعنة القدامى، والتدرج الهرمي للمجتمع. وعرفت مصر في عصر البطالمة اللغة الإغريقية التي اُعتبرت لغة رسمية وتحدثت بها الجاليات الإغريقية وكانت لغة الدواوين والمنشآت العلمية والثقافية بمدينة الإسكندرية، ولكن المصريين استمروا طوال ذلك العهد يتكلمون ويكتبون باللغة المصرية القديمة وكان من الطبيعي أن يحدث تأثير متبادل بين اللغتين في استعارة بعض الألفاظ من إحداها وشيوع استخدامها في الأخرى. وتطورت مصر وتمددت في عصر خلفاء بطليموس حتى أصبحت شبه إمبراطورية، حيثتمكنوا من تكوين جيش وأسطول قويين نجحا في ضم النوبة وليبيا وفلسطين إلى مصر، وفرض سيطرتهم على كثير من جزر حوض البحر المتوسط الشرقي. ومن أبرز العلماء اللذين درسوا في الإسكندرية (إقليدس) في الرياضيات، و(أرشميدس) في الفيزياء، و(أرستارخوس) في الفلك الذي توصل إلى نظرية دوران الشمس قبل (كوبرنيكوس) بعدة قرون، وكذلك (أراتوستيثنز) الذي نجح في قياس محيط الشمس.
وبذلك نجد أن مصر بحضارتها الكونية العريقة وتراثها الثقافي والأدبي والعلمي، ورسالاتها الأخلاقيةوالإنسانية، استطاعت أن تبتلع الغزاة الإغريق وأن تمصرهم بشكل كامل، وأن تصبح عاصمة الكون، ومنارة العالم، وأن تحافظ على استقلالها التام طيلة حكم الأسرة البطلمية، وأصبحت الهُوية المصرية المازجة للحضارات أكثر استنارة وتحضرًا، وأضحت القومية المصرية أكثر شموخًا وتفردًا. ولكن لتطورات تاريخية وعالمية كبرىبرزتإمبراطورية ناشئة وفتية، ورثت العالم الإغريقي وأدخلته ضمن عالمها الجديد، وهي الإمبراطورية الرومانية، التي نعتبرها بداية الاحتلال الحقيقي لمصر.
احتل الروماني مصر بعد هزيمة كليوباترا السابعة على يد (أوفتكانوس) في معركة أكتوم عام 30 قبل الميلاد.وترتب على ضم مصر إلى الإمبراطورية الرومانية فقدانها لاستقلالها في كافة النواحي. ورغم ذلك أَولَى أكتافيوس منذ اللحظات الأولى مصر وضعًا خاصًا نظرًا لأهميتها الاقتصادية والإستراتيجية، فجعلها من الولايات التابعة لإدارته مباشرة وليس إلى إدارة مجلس (السناتو) كباقي الولايات الرومانية الأخرى، حيث كانت مصر مخزن غلال روما إذ كانت تمدها بحوالى ثلث حاجتها من الغلال، كما كانت ذات أهمية إستراتيجية تمكن أي والي طموح من الاستقلال عن سلطة روما.وفي القرن الثالث الميلادي بدأت ثورات المصريين تأخذ الطابع الديني مستخدمة الاستقلال عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وسيلة لتأكيد الخصوصية المصرية وبديلًا عن الحكم الذاتي المدني. وبذلك نشأت الكنيسة القبطية المصرية كمحاولة للاستقلال عن روما، وأخذت القومية المصرية تعبر عن نفسها بالتفافها حول الزعماء الدينيين المصريين. لقد كانت حركة تأسيس الكنيسة القبطية المصرية أول حركة اعتراض على الكنيسة الكاثوليكية في تاريخ المسيحية، وسبقت الحركة البروتستانتية الأوروبية بإثني عشر قرنًا.
ظلت مصر في وجهتها الحضارية تتجه بإتجاه الغرب فلم يكن العصر الروماني في كثير من جوانبه الحضارية سوى امتداد للعصر اليوناني السابق ولم تكن روما سوى أثينا أخرى وإن بدت أكثر مجدًا وأعظم قوة. وبقيت اللغة اليونانية في ذلك العهد الروماني هي اللغة الرسمية، وعادت الإسكندرية لتصبح أكبر مركز للصناعة والتجارة في الإمبراطورية الرومانية كلها وأخذت تصطبغ بصبغة الحواضر الشرقية في أخلاق أهلها ولغاتهم وفي جوها الشرقي، وكان سكانها خليطًا من شعوب البحر الأبيض كلهم تقريبًا. وكان الإمبراطور الروماني يُعد وريث الفرعون، وأصبحت صورته تظهر على المعابد في زي الفراعنة، مثلما كان يفعل البطالمة، واسمه محفور داخل خرطوش بالهيروغليفية.وكانت هناك قناة كبرى يبلغ عرضها مائة وخمسين قدم وتمت في عهد تراجان تربط البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الهندي عن طريق النيل والبحر الأحمر.
وإذا كانت النظم الاقتصادية للرومان قد أتت أكلها في البداية وشهدت مصر حالة من النمو والازدهار في كافة القطاعات الاقتصادية، فإنها ما لبثت أن انهارت ولم تصمد أمام الرياح العاتية التي تمثلت في الاضطرابات التي شهدتها مصر في كثير من الأحيان. ومع مرور الوقت ازادات سوءًا معاملة الرومان للمصريين، وشعر المصريون باضطهاد كبير لهم، مما دفعهم للثورات.
في عام 364م قسم الإمبراطور فالنتينيان الأول الإمبراطورية إلى قسمين غربي وشرقي، ووضع نفسه على السلطة في الغرب وشقيقه فالنس في الشرق. وكانت الإمبراطورية الشرقية (البيزنطية) تضم كل من مصر،والأناضول، واليونان، وجزر بحر إيجة، وأرمينيا، وآسيا الصغرى، والشام، والجزيرة الفراتية السورية، وبرقة، وهي الولايات الأكثر تحضرًا وتطورًا حضاريًا داخل الإمبراطورية الرومانية، حيث سبق لها أن خضعت للإمبراطورية المقدونية وللثقافة الهيلنستية الراقية. وفي عام 313م أصدر الإمبراطور قسطنطين مرسومه الشهير الذي سمح بممارسة العبادات والشعائر المسيحية علنًا بعد أن كانت تُمارس في السر من قبل أتباعها، وفي نهاية القرن الرابع قام الإمبراطور تيودوسيوس الكبير بإكمال خطوة قسطنطين، وأصدر قراره بجعل المسيحية الدين الوحيد المسموح به في الإمبراطورية وعد كل ما عداه كفرًا وهرطقة تستوجب الموت.وكانت الديانة المصرية الفرعونية التي عاشت قرونًا في مصر وظلت مركزًا رئيسًا للقومية المصرية تحولت في آخر أيامها لمجرد ديانة طقوسية ومجموعة رموز ليس لها معنى وانحدرت لمستوى السحر والتعاويذ والتمايم وأصبحت ديانة ممسوخة. كما كانت المسيحية تحوي عناصر كثيرة تلائم العقلية المصرية، وتشبه عناصر موجودة أصلًا في الديانة المصرية مثل الثالوث المصري المقدس (أوزوريس وإيزيس وحورس) والثالوث البطلمي (سيرابيس)، والأم إيزيس والابن حورس، والروح با و كا، والصليب رمز الحياة الأبدية (عنخ)، والبعث والكثير غيره. كما كان منظر العذراء مريم وابنها الطفل يسوع في المراحل الأولى للفن القبطي تشبه صورة إيزيس وهي ترضع طفلها حورس، وظل هذا الثماثل صورة ثابتة في الأيقونات القبطية. كما كان للظروف الدينية والفكرية والمناخ الفلسفي للإسكندرية قبل المسحية تأثير قوي على المفكرين اللاهوتيين المسيحيين الأوائل الذين عاشوا وعملوا في الإسكندرية بحيث اشتهرت كنيسة الإسكندرية في أنحاء عالم البحر المتوسط بأكاديميتها التعليمية المسيحية وبالمعرفة الإنجيلية والفلسفية لأساتذتها.
كان المصري في أسفل السلم الاجتماعي، يعلوه اليهودي، والإغريقي يعلو اليهودي، والروماني يعلو الجميع، وكانوا جميعًا ينظرون إلى المصري باحتقار، فجاءت الكنيسة المصرية لتقدم بأساقفتها ورهبانها القيادة الوطنية المُفتقدة، ولتقدم إطارًا مذهبيًا للصراع ضد الرومان كمحتلين وكمستغلين. وقد برز نضال الكنيسة المصرية في الانتفاضات الشعبية والفلاحية التي قادها الرهبان، والتي اتسع مدى إحداها حتى تحولت إلى ما يشبه الثورة الشاملة.
ظهر في العصر القبطي فن بأسلوب جديد عُرف باسم (الفن القبطي)، وهو فن مصري أصيل لكن بتأثيرات جديدة من وحي المسيحية والاتصال بالعالم البيزنطي.ولكن كان انتشار المسيحية عن طريق اللغة القبطية التي استخدمت الحروف اليونانية في كتابة اللهجات المصرية مثل اللهجة البحيرية، والصعيدية، والفيومية، والأخمينية، والبشمورية… وغيرها، كان سببًا في فقدان المصريين القدرة على القراءة باللغة الديموطيقية، فاندثرتالحروف الديموطيقية التي أثرت سلبًا على معرفة تاريخ القدماء المصريين الذي تحول إلى طلسم من الطلاسم، وبذلك حدث الانقطاع التاريخي الكبير الأول للحضارة المصرية القديمة بعد تواصل دام آلاف السنين، حتى استطاع العالم الفرنسي شامبليون فك شفرة الحروف المصرية القديمة. ومن جهة ثانية خلقت المسيحية حالة من العداوة للثقافة المصرية القديمة التي اعتبرتها وثنية. وفي سنة 618م احتل الفرس مصرلمدة عشر سنوات فقط وسط سخط المصريين وعادت مصر إلى الإمبرراطورية البيزنطية بعد انتصار (هرقل) على الفرس في معركة (نينوى) في عام 627م.
هنا تظهر على مسرح الأحداث العالمية دولة وليدة في الشرق وهي الدولة العربية التي حملت دينًا جديدًا هو الإسلام، وبعد أن بسطت هذه الدولة سيادتها على الجزيرة العربية بدأت تتطلع إلى خارج الجزيرة فوجدت امبراطوريتين طحنتهما الحروب هما إمبراطورية فارس (الفرس) وإمبراطورية الروم (الرومانية أو البيزنطية)،واستطاع الجيش العربي الغازي الذي كان عدده الأصلي قبل دعمه بجيوش أخرى حوالي أربعة آلاف محارب أن يهزم البيزنطيين ويخرجهم من مصر سنة 642م. وبطبيعة الحال فإن الاقباط الذين امتلأت نفوسهم مرارة وكراهية لكل ما هو بيزنطي فرحوا وأحسو بالراحه وهم يشاهدون الجلاد البيزنطي يترنح ويسقط مدحورًا على الأرض. فكان دخول مصر في الدولة العربية على يد عمرو بن العاص سنة 640م. لتولج مصر من عصور (الريادة) العالمية، إلى عصور (الندية) إبان (العصور الوسطى المصرية)، وذلك مع اتساع محيط القوى العالمية وتعدد أقطابها.
هكذا ظلت القومية المصرية دائمًا عبر تاريخ مصر هي الكلمة السحرية للمصريين، وقد لاحظ هيرودوت تمسك المصريين بتقاليدهم وعاداتهم والمحافظة عليها عبر التاريخ. وقد حافظت مصر طيلة العصور القديمة حتى نهاية عصر الدولة البطلمية، على استقلاليتها الكاملة، وريادتها العالمية، وهُويتها المتميزة، وقوميتها المتفردة، وقدرتها على مواكبة العصور المتلاحقة بإبداعات علمية وأدبية، وقيم أخلاقية، ومثل عليا، وضعتها في مقدمة الأمم تقدمًا وتحضرًا وازدهارًا متواصلًا ومتجددًا. وذلك رغم بعض العثرات الصغيرة والهامشية خلال تلك المسيرة، ممثلة في فترات الانتقال الثلاثة (فترات الاضمحلال) بين العصور الفرعونية، أو خلال فترات تغلغل بعض الاحتلالات القصيرة مثل الاحتلال الآشوري، والاحتلال الفارسي الأول والثاني لعدة سنوات صغيرة لم يكن لها تأثير يُذكر في استقلالية وهُوية الأمة المصرية. ورغم تعرض الأمة المصرية لأول انتكاسة حضارية على يد الاحتلال الروماني إلا أن مصر ظلت حضاريًا ضمن العالم الروماني، ولم تخرج من التاريخ، بل كانت من أهم ولايات الإمبراطورية الرومانية وذات وضع خاص إداريًا وتنظيميًا. ورغم ذلك ظلت مصر بما تملك من تمايز جغرافي فريد، وحدود طبيعية حادة وقاطعة، ظلت على خلاف أغلب الأمم والشعوب المحتلة، محتفظة بحدودها وجغرافيتها، كما سهل هذا الوضع للمحتل حماية حدودها، بقدر ما صعب من صهرها في غيرها من الشعوب المتغلبة، واستحالة تغيير جغرافيتها، وقدرة طاغية على احتواء ثقافة الغازي وصبغها بنكهة مصرية، بل احتواء الغزاة وابتلاعهم وتمصير عوامهم وإدماجهم في بوتقة القومية المصرية المازجة للحضارات.
المراجع
مصر القدية (ثمانية أجزاء) – د. سليم حسن – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000.
فجر الضمير – جيمس هنريبريستد– ترجمة د. سليم حسن– الهيئة المصريةالعامة للكتاب 2008م.
تاريخ مصر منذ أقدم العصور إلى العصر الفارسي- جيمس بريستد – ترجمة حسن كمال.
تطور الفكر والدين في مصر القديمة – جيمس هنري بريستد – ترجمة زكي سوس – دار الكرنك للنشر 1961م.
تاريخ المصريين القدماء- جيمس هنري بريستد – ترجمة عبدالله أبو السعود أفندي – المجلس الأعلى للثقافة – الطبعة الأولى 2007م.
الأدب المصري القديم (جزئين) – د. سليم حسن– الهيئة المصرية العامة للكتاب 2001.
الأمة المصرية قومية متفردة – محمد السني- دار الأدهم للنشر والتوزيع -2018م.
العديد منالدراسات والترجمات.
التعليقات