الجمعة - الموافق 25 أبريل 2025م

(12) الليبرالية الديمقراطية.. بقلم الكاتب والباحث : محمد السني

٢٠١٥٠٩١٧_٠٧٥٢٣٣

ألقينا الضوء سابقًا على “بريق شعار الحرية” إبان الثورة المصرية (25 – 30) في مقال منفصل، ثم تطرقنا إلى تطور مفهوم الحرية تاريخيًا في عشر مقالات منفصلة، عن ولادة مصطلح الحرية، وتطور مفهوم الحرية خلال الحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية، والمفهوم الإيماني المسيحي للحرية، والعصور الوسطى الأوروبية، والحضارة الإسلامية، والحضارة المصرية القديمة، والعصور الوسطى المصرية، وعصر النهضة الأوروبية، وعصر التنوير الأوروبي، ومقالتي هذه عن “الليبرالية الديمقراطية” باعتبارها أهم ثمار انتصار الثورات البرجوازية.
أدت الظروف التاريخية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية “الاستثنائية”، التي مرت بها أوروبا الغربية ابتداءًا منذ عصر النهضة وحتى عصر التنوير كما أسلفنا، إلى ولادة الرأسمالية من رحم النظام الإقطاعي، وتمثل ذلك في ولادة الطبقة الوسطى التجارية على تخوم الإقطاعيات، ونشأة المدن وتطورها، وتشكل الرأسمالية التجارية وظهور البنوك، وولادة فكر تقدمي جديد يعبر عن تلك الطبقات الجديدة، التي تطورت وأصبحت ندًا ومنافسًا مع الطبقات الاجتماعية السائدة من الإقطاعيين ورجال الدين، ووجود تعارض جوهري بين الطبقة البرجوازية الوليدة وبين القيم الفيودالية البائدة، وكان بذلك تحالف البرجوازية مع سلطة الملوك ضد سلطة الإقطاع والكنيسة، باعتبارها المهمة التاريخية الثورية للبرجوازية طيلة عصري النهضة والتنوير، خلال القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر الميلادية، ورغم أن سلطة الملوك المطلقة ساعدة الطبقة الوسطى الوليدة على التنفس وبناء صروحها الاقتصادية وأبنيتها الاجتماعية وفرض هيمنتها الفكرية والايدولوجية، إلا إنها لم تستطع مواكبة تطور الرأسمالية في مراحلها اللاحقة، وهي المرحلة التنافسية التي واكبت الثورة الصناعية، ومنذ منتصف القرن الثامن عشر حتى سبعينيات القرن التاسع عشر تشكلت الرأسمالية الصناعية، نتيجة لتحالف البنوك مع رأس المال الصناعي، مما أفضى إلى تراكم هائل لرأس المال لدى الطبقات البرجوازية الجديدة، وأدى ذلك إلى زيادة نفوذها، وهيمنة إيدولوجيتها وفكرها التحرري التنويري، وانتشار بريق شعاراتها المتمثلة في “الليبرالية الديمقراطية” في تلك المرحلة، بقيمها المتعارف عليها وهي هيمنة العقل، والعلمانية، والفردية، والمدنية، وحقوق الإنسان، والتي أصبحت ضرورية لتقدمها وتطورها، ولم يتبق للبرجوازية سوى السيطرة السياسية وإعلان انتصارها الكامل على النظام الإقطاعي البائد، وكانت أولى وأهم العقبات لتحقيق هذا الانتصار النهائي هي سلطة الملوك المستبدين، وكانت تلك هي المهمة التاريخية الثورية للبرجوازية آنذلك، وبدأ بذلك الصراع النهائي للبرجوازية مع سلطة الملوك بثورات اجتماعية شاملة قامت في أغلب الدول الرأسمالية المتقدمة، ورغم تنوع الأسباب والظروف الخاصة لكل منها، لكنها جميعًا تميزت بتقدمية أهدافها وأفكارها.
كانت الثورة الإنجليزية أو الثورة المجيدة (1642- 1689م)، باكورة الثورات البرجوازية ضد سلطة الفيودالية، وهي ثورة قام بها البرلمانيون الإنجليز بالتحالف مع “ويليام الثالث” الحاكم الأعلى لجمهورية هولندا، وقد تمثّل نجاحها في عزل الملك “جيمس الثاني”، وتنصيب ابنته “ماري” وزوجها “وليم أورانج” ملكين على إنجلترا، كما تمثّل ذلك النجاح بشكل واضح في “إعلان الحقوق الإنجليزي” الذي أصدره البرلمان الإنجليزي عام 1689م، وقد استعرض إعلان الحقوق المظالم التي ارتكبها الملك “جيمس الثاني” في حق الشعب، واشترط على الملك الجديد عدم القيام بأي عمل يؤدي إلى الانتقاص من حقوق الشعب، بالإضافة إلى ذلك أن حق الملك في التاج مستمد من الشعب الممثل في البرلمان وليس من الله، وليس للملك إلغاء القوانين أو وقف تنفيذها أو إصدار قوانين جديدة إلا بموافقة البرلمان، وألا تفرض ضرائب جديدة، ولا يشكل جيش جديد إلا بموافقة البرلمان، وأن تكون حرية الرأي والتعبير في البرلمان مكفولة ومصانة، ورغم تعرج طريق انتصار الثورة الإنجليزية كسائر الثورات الكبرى في التاريخ الإنساني حيث لا مجال هنا للخوض في أحداثها ومساراتها، إلا أن نتائجها كانت كبيرة وهامة على الصعيد الإنجليزي والأوروبي، فمن الناحية السياسية، نتج عن الثورة أن بدأت الملكية الدستورية تتطور نحو نظام برلماني تمارس فيه سلطة تشريعية حقيقية بوزراء مسؤولين أمام نواب الشعب، يختارون من الحزبين الكبيرين بالبلاد اللذان يمثلان الرأي العام الإنجليزي مما أدى إلى تحول بريطانيا إلى ملكية برلمانية، وأدت إلى تقدم كبير في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية، مما أدى في النهاية إلى تقوية موقع البورجوازية الإنجليزية وتعزيز الوجود الاستعماري البريطاني عبر مناطق العالم، وكان لهذه الثورة أثر كبير في الحياة في إنجلترا، حيث أنها قضت نظريًا وعمليًا على فكرة حق الملوك الإلهي، كما أصبح البرلمان هو صاحب الكلمة العليا في شئون الحكم، كما كان لها أثر كبير خارج إنجلترا، حيث تطلعت شعوب أوروبا إلى تحقيق نظام “الحكم البرلماني” كما شاهدوه في النموذج الإنجليزي.
وعلى الجانب الآخر على ساحل المحيط الأطلسي، قامت “الثورة الأمريكية” نتيجة للأحداث التي وقعت في أواخر القرن الثامن عشر والتي قامت ضد بريطانيا العظمى، وأدت إلى استقلال دولة الولايات المتحدة الأمريكية عن الإمبراطورية البريطانية، حيث كان من النتائج الهامة التي ترتبت على حركة الكشوف الجغرافية، تدفُّق الهجرة من أوروبا إلى الأراضي المكتشفة، وقام المهاجرون الإنجليز بتأسيس المستعمرات على الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية، وقد تأسست أول مستعمرة إنجليزية في عام 1607م في جيمس تاون بولاية فرجينيا، وتوال منذ ذلك التاريخ وصول المهاجرين الإنجليز بشكل أساسي والمهاجرين الأوروبيين بشكل عام، وقد تضافرت عدة عوامل في دفع حركة الهجرة وتنميتها، كان في مقدمتها الحاجة الملحة للرأسمالية الصناعية لأسواق جديدة نتيجة للفائض الهائل في السلع المنتجة وعدم استيعاب الأسواق المحلية لتلك السلع والمنتجات، إضافة إلى عوامل أخرى عديدة مثل الضيق الاقتصادي للطبقات الكادحة الأوروبية والاستبداد السياسي والاضطهاد الديني، وهكذا نشأ في المستعمرات مجتمع جديد يرتبط بالولاء للوطن الأم إنجلترا، ولكنه يتمتع في الوقت نفسه بحرية سياسية لا مثيل لها في أي مكان في الأرض في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، حيث أن سكان هذه المستعمرات كانوا يحملون معهم أفكار البريطانيين الأحرار، كما كانت لهم مجالسهم النيابية المنتخبة، التي تضع القوانين وتفرض الضرائب وتحدد الاعتمادات المالية وتسيطر على الخزانة، ورغم تنوع الأصول التي انحدرت منها شعب المستعمرات الأمريكية، إلا أن اللغة والثقافة والنظم الإنجليزية ظلت هي السائدة، ذلك أن المهاجرين الجدد كانوا يختلطون بالوافدين الإنجليز الأوائل، ويتخذون لغتهم ويعتنقون وجهات نظرهم، ونتج عن هذا الاندماج ظهور شعب جديد هو الشعب الأمريكي، الذي أخذ يتميز بالتدريج عن الشعوب الأوروبية التي ينتمي إليها، وبحلول عام 1733م تمكن المهاجرون الإنجليز من تأسيس ثلاث عشرة مستعمرة على ساحل المحيط الأطلسي، من نيوهامشير في الشمال إلى جورجيا في الجنوب، أما في مناطق أمريكا الشمالية الأخرى، فقد سيطر الفرنسيون على كندا ولويزيانا، التي ضمت منابع نهر الميسيسيبي الهائلة، وخاضت فرنسا وإنجلترا حروبًا عديدة ضد بعضهما البعض خلال القرن الثامن عشر، ومع نهاية حرب الأعوام السبعة بينهما، كانت إنجلترا تسيطر على كندا وجميع مناطق أمريكا الشمالية الواقعة شرق نهر الميسيسيبي، وبعد ذلك بفترة قصيرة دخلت إنجلترا مع مستعمراتها في صراع، لأسباب كثيرة كان أهمها نشوب الصراع بين حكام المستعمرات الإنجليز الذين يمثلون المصالح الإنجليزية، وبين المجالس النيابية المنتخبة التي تمثل مصالح الشعب في المستعمرات، مما أدى إلى إيقاظ إحساس المستعمرات بما هنالك من تباعد بين المصالح الأمريكية والإنجليزية، على أن أهم أسباب التذمر في المستعمرات الأمريكية كان يرجع إلى سياسة الاستنزاف الاقتصادي التي اتبعتها إنجلترا هناك، وتلخصت في القوانين التجارية الجائرة، وزيادة الضرائب وفرض ضرائب جديدة، وأصر الأمريكيون على عدم دفع الضرائب إلا لمجالس المستعمرات التشريعية، والتفوا جميعًا حول شعار “لا ضرائب بدون تمثيل”، فرفعت جميع الضرائب، فيما عدا الضريبة المفروضة على الشاي، التي أدت إلى رد فعل عنيف من سكان المستعمرات، وصفها الإنجليز بالهمجية، وتوالت مواجهة الجنود الإنجليز مع متمردي المستعمرات، ثم تطورت إلى حرب طاحنة بين أمريكا وبريطانيا انتصر فيها الجانب الأمريكي عام 1781 بعد معركة يوركتاون بولاية فرجينيا، ثم وقَّع الطرفان معاهدة فرساي عام 1783م في فرنسا، وكانت المعاهدة بمثابة إعلان نهاية الثورة الأمريكية، وفي عام 1787م وقع المندوبون من جميع الولايات المتحدة الثلاثة عشرة آنذاك على اتفاقية دستور البلاد التي تم التصديق عليه عام 1788م، وهكذا ظهرت إلى الوجود دولة جديدة أخذت في النمو والاتساع، حتى أصبحت بعد الحرب العالمية الثانية القوة العظمى في العالم.
وكان من أهم القضايا التي واجهت الدولة الوليدة هو تحديد شكل الحكم، وحقوق المواطنين وواجباتهم، والروابط التي تربط الولايات بالدولة وبالولايات الأخرى، وفي مايو عام 1787م اجتمع مندوبون عن الولايات لإقرار دستور للبلاد، واختير “جورج واشنطن” بالإجماع ليكون رئيسًا للدولة، وبرزت شخصيتان في فترة الثورة، وهما “جورج واشنطن” البطل العسكري وأول رئيس للولايات المتحدة، الذي ترأس حزبًا يؤيد وجود رئيس قوي وحكومة مركزية، و “توماس جيفرسون” المؤلف الرئيسي لوثيقة الاستقلال، الذي ترأس حزبًا يفضل منح الولايات قدرًا أكبر من السلطة، استنادًا إلى النظرية التي تقول أن من شأن ذلك جعل الولايات أكثر تعرضًا للمساءلة تجاه الشعب، ويعتبر دستور الولايات المتحدة من أوضح الدساتير التي أُعدت في العالم وأكثرها فعالية، وقد ساعد هذا الدستور على قيام حكومة تتوازن فيها السلطات الثلاثة، كما أقام التوازن بين الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات، وتم الحفاظ على مرونة الدستور ومسايرته للتطور، بالنص على إمكانية التعديل والإضافة إلى الدستور، وإن وضعت بعض القيود التي تحميه من التغييرات المتسرعة.
وأعتبر الدستور الاختراع الأمريكي الأهم، بوصفه مجموعة من المبادئ السياسية والقانونية يعني في المقام الأول، خير المجتمع بأكمله وآلية لصيانة حقوق الأفراد، ويضمن الدستور الأمريكي الدفاع عن حق الفرد في الحياة والملكية، وفي حرية العبادة والتعبير، ومن أجل ضمان هذه الحريات، شدد واضعو الدستور الأمريكي على ضرورة وجود قيود لصلاحيات كل من سلطات الحكم، إضافة إلى مساواة الجميع أمام القانون، وفصل الدين عن الدولة، وتستمد مواد الدستور الأمريكي مضمونها من نظريات الفيلسوفين الإنجليزيين “توماس هوبز” و “جون لوك”، والفيلسوف الفرنسي “جان جاك روسو”، وآمن هؤلاء المفكرون بأن قبول الأفراد بالالتزام السياسي تجاه المجتمع على أساس المصلحة الذاتية والمنطق، وأدركوا تمامًا مزايا مجتمع مدني تكون لأفراده حقوق وواجبات، ومن أهم مبادئ الدستور الأمريكي سيادة الشعب، “نحن الشعب …نسن وننشئ هذا الدستور”، هذه الكلمات تتضمنتها مقدمة الدستور وتعبر عن مبدأ سيادة الشعب، أو حكم الشعب، لقد صاغ واضعو الدستور وثيقة للحكم، وعرضوها على الشعب لنيل موافقته، استنادًا إلى المفهوم القائل أن السلطة السياسية النهائية لا تكمن لدى الحكومة أو لدى أي مسئول حكومي، بل لدى الشعب، “نحن الشعب” نملك الحكم، ولكن بموجب ديمقراطيتنا التمثيلية، نفوض هيئة مؤلفة من ممثلين لنا منتخبين صلاحيات القيام بأعمال الحكم اليومية نيابة عنا، ولكن تفويض هذه الصلاحيات، لا ينال أو ينقص بأي شكل من الأشكال من حقوق الناس ومسؤولياتهم باعتبارهم هم أصحاب السيادة العليا، إن شرعية الحكم تبقى معتمدة على المحكومين، الذين يحتفظون بحقهم المكرس في أن يغيروا حكومتهم، أو يعدلوا دستورهم، بطريقة سلمية، وثانيًا مبدأ “سيادة القانون حيث يقضي الدستور الأمريكي بأن يكون الحكم عادلًا، آمن المؤسسون بأن سيادة القانون هي شريان حياة النظام الاجتماعي الأمريكي والحريات المدنية الأساسية، وتعني سيادة القانون أن نكون محكومين في علاقاتنا مع بعضنا البعض ومع الدولة بمجموعة من القواعد غير المتحيزة نسبيًا، وفي هذه الحالة يقل احتمال أن يصبح الشعب ضحية حكم تعسفي أو سلطوي، وتجدر الإشارة هنا إلى أن مبدأ سيادة القانون لا ينطبق على حقوق وحريات المواطنين فحسب، ولكنه ينطبق بالمثل على الحكام، أقام واضعو الدستور حاجزًا حاميًا لحقوق وحريات الأفراد بمنعهم الفرد والدولة من تجاوز القانون الأعلى للبلاد، والمبدأ الثالث هو الفصل بين السلطات، ضمن واضعو الدستور بتوزيعهم للعمل الحكومي على ثلاث سلطات مستقلة، أن لا تكون سلطات الحكم الرئيسية، أي التشريعية والتنفيذية والقضائية، خاضعة لاحتكار أي واحدة منها، كما حال توزيع السلطة الحكومية على ثلاث سلطات مستقلة دون قيام حكومة مركزية قوية جدًا قادرة على فرض سلطتها على حكومات الولايات، وكان من المقصود جعل سلطات ومسؤوليات الحكم متداخلة، ومن أمثلة ذلك كيفية ضبط صلاحية الكونغرس في إصدار القوانين بواسطة حق النقض (الفيتو) الذي يتمتع به الرئيس، ولكن حق الرئيس هذا يمكن أيضًا إبطاله بتصويت ثلثي أعضاء مجلسي الكونغرس على ذلك، وأيضا يتمتع الرئيس بصلاحية تعيين كل القضاة الفيدراليين، والسفراء، وسائر كبار الموظفين الحكوميين، ولكن كل هذه التعيينات يجب أن تقترن بموافقة مجلس الشيوخ لتصبح نافذة، والمبدأ الرابع الفيدرالية، يوزع الدستور الأمريكي السلطة بين مستويين من الحكم، الأول مستوى البلاد ككل، أو المستوى القومي، والثاني مستوى الولايات، بما يعرف بنظام الفيدرالية، وهي النظام الذي تتقاسم فيه السلطة حكومة مركزية أو قومية واحدة مع حكومات الولايات، وقضى الدستور بأن تكون الحكومة المركزية صاحبة السلطة العليا في بعض المجالات، ولكنه لم يجعل حكومات الولايات مجرد وحدات إدارية تابعة للحكومة المركزية، فعلى سبيل المثال، تكون حكومات الولايات هي المسئولة بصورة عامة عن إدارة ميزانياتها وعن سن وتنفيذ القوانين في العديد من المجالات التي تؤثر في حياة سكانها، فيما تتمتع الحكومة المركزية بإدارة السياسة الخارجية والدفاع، والمبدأ الخامس الكفاح في سبيل الحقوق الفردية، فعكست التعديلات العشر الأولى للدستور الأمريكي رغبة كبيرة في الحفاظ على حقوق المواطنين الأساسية، حقوق مثل حرية التعبير، والصحافة، والتجمع، والعبادة، كما تمنع الكونغرس من سن فوانيين تتعلق بإنشاء دين رسمي، أو تفضيل دين على آخر، إضافة على الحق في محاكمات عادلة وعدم محاكمة نفس الشخص أكثر من مرة على نفس الجريمة.
وفي عام 1789م اندلعت الثورة الفرنسية، وهي من أهم الثورات الاجتماعية والسياسية في تاريخ البشرية عامة، باعتبارها نقطة تحول بين عصرين عالميين متمايزين وهما العصر الإقطاعي والعصر الرأسمالي، كما تعتبر الثورة الفرنسية من أهم الأحداث السياسية التي عرفتها أوربا خلال القرن الثامن عشر لما كان لها من انعكاسات مختلفة على كافة مظاهر الحياة، حيث كان المجتمع الفرنسي يتشكل من ثلاث هيئات طبيقة متمايزة، تكونت الهيئة الأولى من النبلاء الذين يتمتعون بحقوق فيودالية، وهيئة الإكلوروس التي تستفيد من مداخيل الأرض، والهيئة الثالثة تضم التجار ورجال الصناعة والحرفيين والعمال والفلاحين، وتعاني من التهميش وأداء الضرائب، وقد أدت عدة عوامل إلى اندلاع الثورة الفرنسية، منها التفاوت الطبقي والحكم الفردي، واستمرار نظام الملكية المطلقة (البوربون ) مدعومة من طرف هيئتي النبلاء والإكليروس، كما ساهمت الأزمة الاقتصادية والمالية آنذاك في حدوث الثورة، حيث عرف الميدان الفلاحي تراجعًا وانخفضت أرباح المزارعين، وتدهورت الصناعة بسبب منافسة منتجات الصناعة الإنجليزية، وأثرت كثرة الرسوم والضرائب على النشاط التجاري، وأثر فقدان فرنسا لمستعمراتها في أمريكا الشمالية والهند على تجارتها الخارجية، وتراجعت مداخيل الدولة التي أصبحت تعتمد بصفة خاصة على الضرائب، وحاول “لويس السادس عشر” ملك فرنسا إحداث إصلاحات، بفرض الضرائب على أساس الأرض ورفع الحواجز الجمركية بالنسبة للتجارة الداخلية، ودعم حرية العمل بإلغاء الطوائف المهنية وكسر الاحتكار الممارس من طرف الأرستقراطية في هذا المجال، ولكنها واجهت الرفض من طرف النبلاء.
مرت الثورة الفرنسية بمراحل ثلاثة أساسية دامت عشر سنوات، فكانت المرحلة الأولى (يوليو 1789 – اغسطس 1792م) فترة الملكية الدستورية، وتميزت هذه المرحلة بقيام ممثلي الهيئة الثالثة بتأسيس الجمعية الوطنية واحتلال سجن الباستيل، وإلغاء الحقوق الفيودالية، وإصدار بيان حقوق الإنسان ووضع أول دستور للبلاد، والمرحلة الثانية (اغسطس 1792 – يوليو 1794م)، وهي فترة بداية النظام الجمهوري وتصاعد التيار الثوري حيث تم إعلان إلغاء الملكية ثم إعدام الملك وإقامة نظام جمهوري راديكالي، والمرحلة الثالثة (يوليو 1794 – نوفمبر 1799م) فترة تراجع التيار الثوري وعودة البورجوازية المعتدلة التي سيطرت على الحكم ووضعت دستورًا جديدًا وتحالفت مع الجيش، كما شجعت الضابط “نابليون بونابارت” للقيام بانقلاب عسكري ووضع حدًا للثورة وإقامة نظام ديكتاتوري توسعي.
ترتب عن الثورة الفرنسية نتائج سياسية و اقتصادية واجتماعية هامة ومصيرية، فمن الناحية السياسية ظهر لأول مرة النظام الجمهوري، وتم الإقرار بحقوق الإنسان، وفصل الدين عن الدولة، وإلغاء الحقوق الفيودالية، واعتبار السيادة للأمة، وتوحيد الشعب الفرنسى، واعتبار الفرنسبة اللغة المتداولة، وكان للثورة الفرنسية صدى لدى الشعوب الأوروبية وكذلك في أمريكا اللتينية، وفي المجال الاقتصادي تم القضاء على النظام الإقطاعي القديم، وفتح المجال لتطور النظام الرأسمالي وتحرير الاقتصاد من رقابة الدولة، واستفادت الطبقة البورجوازية بوضع تشريعات جديدة وبتوحيد المقاييس والمكاييل، وتم إلغاء الضرائب المفروضة على الفئات الشعبية ووضع ضرائب على أساس الثروات، وإلغاء الحواجز الجمركية الداخلية، ومن الناحية الاجتماعية تم إلغاء الحقوق الإقطاعية وامتيازات النبلاء ورجال الدين ومصادرة أملاك الكنيسة كما أقرت الثورة مبدأ مجانية وإجبارية التعليم والعدالة الاجتماعية كما حدثت تحولات اجتماعية بسبب الثورة الفرنسية حيث أصبحت البورجوازية في قمة الهرم الاجتماعي، وبذلك بزغ العصر الحديث في ظل الثورة الفرنسية، ونظرت تقريبًا كل الحركات الثورية في المستقبل إلى الثورة الفرنسية كسلف لها، والاهتداء بشعاراتها المركزية مثل الحرية، والمساواة، والإخاء، وأصبحت شعارات مركزية للاضطرابات الرئيسية الأخرى في التاريخ الحديث، وكذا رموزها الثقافية، مثل لامارسييز، ولا تزال قيم ومؤسسات الثورة تهيمن على السياسة الفرنسية إلى يومنا هذا، وعلى الصعيد العالمي ساهمت الثورة الفرنسية في الإسراع بصعود الجمهوريات والديمقراطيات، وأصبحت نقطة محورية لتطوير كل الأيديولوجيات السياسية الحديثة، وأدت إلى انتشار قيم “الليبرالية الديمقراطية”، ثم الراديكالية، والقومية، والاشتراكية، ونصرة المرأة، والعلمانية، من ضمن مفايهم أخرى عديدة، مثل إعلان حقوق الإنسان، الذي وسع مجال حقوق الإنسان ليشمل المرأة والعبيد، مما أدى إلى حركات التحرير من العبودية والاقتراع العام في القرن التالي.
وبذلك نشأت الليبرالية كردة فعل غير واعية بذاتها ضد مظالم الكنيسة والإقطاع، ثم تشكلت في كل بلد بصورة خاصة، فهي تتحرك وفق أخلاق وقيم المجتمع الذي يتبناها وتتكيف حسب ظروف كل مجتمع، إذ تختلف من مجتمع إلى مجتمع، وكانت وراء الثورات الكبرى في العالم الغربي (الثورة الإنجليزية، والأمريكية، والفرنسية) كما أسلفنا، والليبرالية هي فلسفة سياسية أو مذهب فكري تقوم على قيمتي الحرية والمساواة، وتختلف تفسيرات الليبراليين لهذين المفهومين وينعكس ذلك على توجهاتهم، ولكن عموم الليبراليين يدعون في المجمل إلى دستورية الدولة، والديمقراطية، والانتخابات الحرة والنزيهة، وحقوق الإنسان، وحرية الاعتقاد، والسوق الحر، والملكية الخاصة، والليبرالية هي كلمة لاتينية تعني التحررية، أي أنها مذهب أو حركة وعي اجتماعي سياسي داخل المجتمع، تهدف لتحرير الإنسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاث (السياسية، والاقتصادية، والثقافية)، والليبرالية أيضا مذهب سياسي واقتصادي معًا، ففي السياسة تعني تلك الفلسفة التي تقوم على استقلال الفرد والتزام الحريات الشخصية وحماية الحريات السياسية والمدنية، وهي مذهب فكري يركز على الحرية الفردية، ويرى وجوب احترام استقلال الأفراد، ويعتقد أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين مثل حرية التفكير، والتعبير، والملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغيرها، ولهذا يسعى هذا المذهب إلى وضع القيود على السلطة، وتقليل دورها، وإبعاد الحكومة عن السوق، وتوسيع الحريات المدنية، وبخصوص العلاقة بين الليبرالية والأخلاق أو الليبرالية والدين، فإن الليبرالية لا تأبه لسلوك الفرد طالما أنه لم يخرج عن دائرته الخاصة من الحقوق والحريات، ولكنها صارمة خارج ذلك الإطار، وترى الليبرالية أن الفرد هو المعبر الحقيقي عن الإنسان، بعيدًا عن التجريدات والتنظيرات، ومن هذا الفرد وحوله تدور فلسفة الحياة برمتها، وتنبع القيم التي تحدد الفكر والسلوك معًا، فالإنسان يخرج إلى هذه الحياة فردًا حرًا له الحق في الحياة والحرية وحق الفكر والمعتقد والضمير، بمعنى حق الحياة كما يشاء الفرد ووفق قناعاته، لا كما يُشاء له، فالليبرالية لا تعني أكثر من حق الفرد – الإنسان أن يحيا حرًا كامل الاختيار وما يستوجبه من تسامح مع غيره لقبول الاختلاف، الحرية والاختيار هما حجر الزاوية في الفلسفة الليبرالية، ولا نجد تناقضاً هنا بين مختلف منظريها مهما اختلفت نتائجهم من بعد ذلك.
تطورت الليبرالية عبر أربعة قرون ابتداءً من القرن السادس عشر حيث ظهرت نتيجة للحروب الدينية في أوربا لوقف تلك الصراعات باعتبار أن رضا المحكوم بالحاكم هو مصدر شرعية الحكم وأن حرية الفرد هي الأصل، وكما أسلفنا فقد اقترح الفلاسفة “توماس هوبز” و “جون لوك” و “جان جاك روسو” و “إيمانويل كانط” نظرية العقد الاجتماعي والتي تفترض أن هنالك عقدًا بين الحاكم والمحكوم وأن رضا المحكوم هو مبرر سلطة الحاكم، وبسبب مركزية الفرد في الليبرالية فإنها ترى حاجة إلى مبرر لسلطة الحاكم وبذلك تعتبر نظرية “العقد الاجتماعي” ليبرالية رغم أن بعض أفكار أنصارها مثل “توماس هوبز” و “جان جاك روسو” لم تكن متفقة مع قيم الليبرالية، ورغم أن “هوبز” كان سلطوي النزعة سياسيًا، لكن فلسفته الاجتماعية، بل حتى السلطوية السياسية التي كان ينظر لها، كانت منطلقة من حق الحرية والاختيار الأولي، وكان “جون لوك” ديموقراطي النزعة، وكان ذلك كان نابعًا من حق الحرية والاختيار الأولي، و “بنثام” كان نفعي النزعة، ولكن ذلك كان نابعًا أيضًا من قراءته لدوافع السلوك الإنساني (الفردي) الأولى، وكانت الحرية والاختيار هي النتيجة في النهاية، وفي خلال القرن الثامن عشر الميلادي، أو خلال ما يُعرف بعصر التنوير، تجلت الليبرالية كحركة سياسية مستقلة حيث أصبحت شائعة جدًا بين الفلاسفة وعلماء الاقتصاد في العالم الغربي، اعترضت الليبرالية على أفكار شائعة في ذاك الزمان كالمزايا الموروثة، وتدين الدولة، والملكية المطلقة، وحق الملوك الإلهي، ويعتبر المفكر الإنجليزي “جون لوك” المؤسس لليبرالية كفلسفة مستقلة، فقد كانت فلسفته تقول بأن للفرد حق طبيعي في الحياة، والحرية، والملكية الخاصة، ووفقًا لنظرية العقد الاجتماعي، فإنه يتوجب على أي حكومة ألا تضطهد أيًا من هذه الحقوق الطبيعية للفرد، وكان الليبراليون معارضين للفلسفة المحافظة التقليدية وسعوا إلى استبدال الحكومات المطلقة بالديمقراطية، والجمهورية، فانتهج قادة الثورة الأميركية والثورة الفرنسية المنهج الليبرالي، ورأوا فيه مبررًا للإطاحة بالحكومات الدكتاتورية المستبدة، كما أن القرن التاسع عشر الميلادي شهد قيام حكومات ليبرالية على نطاق أوروبا وأميركا الشمالية، في تلك الفترة كانت الفلسفات المحافظة الكلاسيكية في صراع مع الليبرالية، وقد مرت الليبرالية في تكوينها بأربعة مراحل أساسية، كانت المرحلة الأولى هي مرحلة التكوين، وقامت على مفهوم ذات الإنسان باعتباره الفاعل صاحب الاختيار والمبادرة، والمرحلة الثانية مرحلة الاكتمال، وقامت على مفهوم الفرد العاقل المالك لحياته وبدنه وذهنه وعمله, وعلى أساسها شيد علم الاقتصاد العقلي المخالف للاقتصاد الإقطاعي, وشيد علم السياسة العقلية المبني على نظرية العقد, والمخالف لسياسة الاستبداد، والمرحلة الثالثة هي مرحلة الاستقلال, ومفهومها الأساسي هو مفهوم المبادرة الخلاقة بالمحافظة على الحقوق الموروثة, والاعتماد على التطور البطيء من الخيال إلى الواقع، والمرحلة الرابعة هي مرحلة التقوقع, ومفهومها الأساسي هو مفهوم المغايرة والاعتراض وعدم مسايرة الآراء الغالبة, لأن الخلاف والاعتراض يبعد عن التقليد ويولد الإبداع، والعلاقة وثيقة بين الليبرالية والديمقراطية، حيث تقوم الليبرالية على الإيمان بالنزعة الفردية القائمة على حرية الفكر والتسامح واحترام كرامة الإنسان وضمان حقه بالحياة وحرية الإعتقاد والضمير وحرية التعبير والمساواة أمام القانون ولا يكون هناك دور للدولة في العلاقات الاجتماعية فالدولة الليبرالية الديمقراطية تقف على الحياد أمام جميع أطياف الشعب ولا تتدخل فيها أو في الأنشطة الاقتصادية إلا في حالة الإخلال بمصالح الفرد، وتقوم الليبرالية الديمقراطية على تكريس سيادة الشعب عن طريق الاقتراع العام وذلك للتعبير عن إرادة الشعب واحترام مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية، والقضائية، والتنفيذية وأن تخضع هذه السلطات للقانون من أجل ضمان الحريات الفردية وللحد من الامتيازات الخاصة ورفض ممارسة السيادة خارج المؤسسات لكي تكون هذه المؤسسات معبرة عن إرادة الشعب بأكمله، ويظهر التقارب بين الليبرالية والديمقراطية في مسألة حرية المعارضة السياسية خصوصًا، فبدون الحريات التي تحرص عليها الليبرالية فإنه لا يمكن تشكيل معارضة حقيقية ودعايتها لنفسها وبالتالي لن تكون هنالك انتخابات ذات معنى ولا حكومة منتخبة بشكل ديمقراطي نتيجة لذلك، ولكن التباعد بينهما يظهر من ناحية أخرى، فإن الليبرالية لا تقتصر على حرية الأغلبية بل هي في الواقع تؤكد على حرية الفرد بأنواعها وتحمي بذلك الأقليات بخلاف الديمقراطية التي تعطي السلطة للشعب وبالتالي يمكن أن تؤدي أحيانًا إلى اضطهاد الأقليات في حالة غياب مبادئ ليبرالية مثبتة في دستور الدولة تمنع الأغلبية من اضطهاد الأقليات وتحول نظام الحكم إلى ما يدعى بالديمقراطية اللاليبرالية، وكذلك نجد الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق هو النظام الاقتصادي لليبرالية الكلاسيكية التي تكون الليبرالية الاقتصادية مكونا أساسيًا فيها، وفكرة الاقتصاد الحر هو عدم تدخل الدولة في الانشطة الاقتصادية وترك السوق يضبط نفسه بنفسه، والليبرالية كما أشرنا من قبل تعتمد بالأساس على فكرة الحرية الفردية، وبذلك يمكن تعريف فكرة الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق بأن على الدولة ألا تقوم بأى نشاط اقتصادي يستطيع فرد أو مجموعة أفراد القيام به، بمنطق أن الفرد ولد حرًا حرية مطلقة بالتالى فإن له الحرية في أن يقوم بأى نشاط اقتصادي.
وهكذا نجد أن الرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي هي التي أوجدت الطبقة الوسطى، وطبقة البرجوازية، ومن ثم الإيدولوجية البرجوازية التي تعبر عن مصالهم والتي تعارضت حتمًا مع القيم الفيودالية السابقة لها، وبعد انتصارها الحتمي، قدمت للبشرية في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والحضارية في قرابة مائة عام فقط، ما لم تستطع الحضارات الإنسانية السابقة لها تحقيقة في آلاف السنين، ولكن بسبب طبيعتها القائمة على الاستغلال كما الأنظمة السابقة، فإنها خلقت بداحلها عناصر فنائها، وهي الطبقات الكادحة وفي صدارتها الطبقة العاملة، وعندما تحولت الرأسمالية من مراحل المنافسة إلى مراحل الاحتكار والصراع، تفاقمت مشاكل المجتمعات الرأسمالية من زيادة الفقر وتفاقم الفوارق الطبقية، ونشوب الحروب الطاحنة للمنافسة على الأسواق الخارجية، فكان بذلك ولادة مفهوم “الليبرالية الاجتماعية”، وهي موضوع مقالنا القادم.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك