ألقينا الضوء سابقًا في مقالتين متصلتين، على الجذور الفكرية للوهابية، ثم تطرقنا لنشأة الحركة الوهابية في مقالتين متصلتين، ثم نشأة وملامح وسقوط الدولة الوهابية السعودية الأولى في ثلاث مقالات متصلة، ومقالة عن نشأة وسقوطالدولة السعودية الثانية، ومقالتين متصلتين عن التأسيس الثاني للدولة المصرية الحديثة، ومقالتين متصلتين عن الدولة السعودية الثالثة، ومقالتنا هذه الأولى عن “الأمة المصرية قبل الغزو الفكريالوهابي1-3”.. وكنا قد أوضحنا سابقًا في غضون المبحث الأول من دراستنا عن “الأمة المصرية والوهابية”، كيف تناقض المساران على جانبي البحر الأحمر في ظل أفول عصر الإمبراطورية العثمانية، حيث اتخذت الأوضاع في شبه الجزيرة العربية مسارًا رجعيًا وظلاميًا وسلكت في سبيل ذلك كل الطرق الإرهابية سواء كان إرهابًا فكريًا أو مسلحًا، وأغرقت بيئتها في بحر من التكفير والدماء. بينما اتخذت مصر مسارًا مغايرًا تمامًا يسعى إلى اللحاق بحضارة العصر الحديث، والسير في طريق التقدم والتطور، والاتصال بمنابع الفكر الحديث في الغرب، والأخذ بالأساليب العصرية في بناء الدولة المصرية الحديثة على أيدي محمد علي، ورغم بعض العثرات مثل تدخل الغرب لتحجيم الدولة المصرية الكبرى التي أنشأها محمد علي وحصرها في مصر والسودان، وتحديد عدد أفراد جيشه، والتضييق عليه في التواصل الدبلوماسي مع المجتمع الخارجي، وتزايد النفوذ الغربي، وضعف واضطراب بعض خلفائه، إلا أنالمسار التحديثي ظل يسير في إتجاه التقدم، وامتد وتواصل على أيدي أحفاده وأسلافه حتى شاهدنا التأسيس الثاني للدولة المصرية الحديثة على أيدي حفيده الخديوي إسماعيل، الذي أصبحت مصر في عصره قطعة من أوروبا. وظل الإتجاه العام يسير على الطريق الصحيح الذي يتناسب مع حجم ومكانة مصر الحضارية والبشرية.وترسخت الحياة النيابية في مصر مبكرًا، حيث واكبت نشأة وتطور البرجوازية المصريةخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر،وتصاعد الإتصال بالغرب والأخذ بأساليب الحكم الحديثة، مثل مجلس شورى النواب عام 1866م. وبعد خلع الخديو اسماعيل ونفيه من مصر عام 1879م ، وتولي ابنه توفيق الخديوية، استمر مجلس شورى النواب في عهده يحاول أن ينتزع لنفسه حقوقًا تشريعية تجعله طرفًا في الموافقة علي أي قوانين أو تشريعات جديدة، وهي الحقوق التي حصل عليها بالفعل مناصفة مع الخديوي، بالإضافة إلى حق إقرار الضرائب والمسائل المالية بعد مناقشتها والتصويت عليها. وقد توجت تلك الجهود بإصدار أول دستور مصري عام 1882م، والذي وضع تصورًا كاملًا عن حياة سياسية دستورية برلمانية في مصر كما أوضحنا سابقًا، فكان ذلك يبشر بقيام حياة نيابية نشطة في مصر، ومن ثم قيام نظام ديموقراطي يكون الأول من نوعه في المنطقة. ولكن القوى الأوروبية الاستعمارية التي كانت تريد السيطرة على أسواق المنطقة وخيراتها، رأت أن احتلال مصروالسيطرة علي قناة السويس أقصر الطرق لتحقيق ذلك، وأدركت أن الوقت لا يسير في صالحها، وإنما في صالح القوى الشعبية الممثلة في مجلس النواب الذي دخل في مواجهة سافرة مع رموز التدخل الأجنبي في مصر، لذلك جاء عام 1882م و جاء معه الاحتلال البريطاني وأجهضالتجربة الديمقراطية المصرية الأولى، وقضي علي هذا الحلم الوليد وقضى علىجهود مصر في أن تصبح من طليعة الدول التي تقيم نظام ديموقراطي راسخ، وإذا قدر لمجلس النواب أن يستمر لتغير التاريخ السياسي لمصر حتى وقتنا هذا.وقد قوبل الاحتلال البريطاني لمصر بمواجهة أسطورية من عرابي ورفاقه والتي افشلتها في الأساس الفجوة الحضارية بين الغرب والأمة المصرية في تلك الأثناء، إضافة إلى تخاذل الخديوي توفيق عن مناصرة عرابي، وغيره من الأسباب المباشرة وغير المباشرة كما أوضحنا سابقًا. ورغم الاحتلال والأوضاع الاجتماعية الطبقية الحادة، إلا أن الاحتلال البريطاني لمصر أجج المشاعر الوطنية،وسرعان ما نهضت الحركة الوطنية والسياسية والثقافية المصرية الخالصة، واتخذت أشكالًا متعددة مثل الكفاح والنضال ضد الاحتلال البريطاني، ونشأة الأحزاب التي غلب على أكثرها الطابع الوطني، والدعوة إلى النهوض بالأمة المصرية، وانعكس ذلك في برامجهم وأنشطتهم، وامتد نطاق الاهتمام بقضايا الوطن ليشمل كافة أرجاء المحروسة، ممتزجًا برغبة عارمة في تحرير الوطن، وجعل قضية “التحرر الوطني” القضية المحورية للأمة المصرية، مما خلق مناخًا ملائمًا لنمو الأفكار المتعددة والمتنوعة، وتولدت كافة التيارات الفكريةوالسياسية، فأوجدت زخمًا فكريًا وسياسيًا وثقافيًا وفنيًا، تشكل وتشابك مع تطور الحركة الوطنية منذ الاحتلال الإنجليزي لمصر وحتى قيام ثورة 1919م.
وفي الوقت التي حرمت الوهابية تدريس العلوم الحديثة باعتبارها بدعة، وحاربت المبدعين والمفكرين والمبتكرين واتهمتهم بالذندقة والإلحاد، واتخذت موقفًا عدائيًا واستعلائيًا ضد الحضارة الحديثة بشكل عام، وقصرت التدريس على العلوم الشرعة وقيدت تلك العلوم بالمذهب الحنبلي وامتداده التيمي الوهابي التكفيري. نجد مصر الناهضة تسلك كل الطرق وتبذل كل الجهود للحاق بمنظومة العلوم والآداب الحديثة، ففي عام 1906م، أرسل الزعيم الوطني الكبير مصطفى كامل رسالة إلى الشيخ علي يوسف صاحب جريدة “المؤيد” يدعوا فيها إلى فتح باب التبرع لمشروع “الجامعة الأهلية”، فنشرت الجريدة رسالة مصطفى كامل، في عددها الصادر بتاريخ 30 ديسمبر 1906م. ولم تكد جريدة المؤيد تنشر رسالة مصطفى كامل حتى توالت خطابات التأييد للمشروع وسارع بعض الكبراء وأهل الرأي بالاكتتاب والتبرع، ونشرت الجريدة قائمة بأسماء المتبرعين، وكان في مقدمتهم سعد زغلول وقاسم أمين المستشاران بمحكمة الاستئناف الأهلية. وبعد مباحثات وترشيحات لبعض الأمراء أذن الخديوي عباس حلمي بإسناد الرئاسة الفعلية للأمير أحمد فؤاد في22 ديسمبر 1907م، وقد صادف اختيار الأمير أحمد فؤاد (الملك فيما بعد) ارتياحًا عامًا، لما عُرف عنه من حب للعلم وتشجيع للمشروعات العلمية. وتابعت لجنة الاكتتاب عملها بنشاط بعد تولي الأمير أحمد فؤاد رئاستها، وقررت تأليف لجنة فنية تختص بوضع البرنامج الذي سيبدأ العمل به، وتضمن البرنامج المقترح البدء بعملين: الأول ابتعاث عشرة من الطلاب، خمسة لتلقي العلوم، ومثلهم لتلقي الآداب في الجامعات الأوروبية، ليكونوا أساتذة للجامعة في المستقبل. وأما العمل الآخر فهو برنامج التدريس بالجامعة الوليدة، حيث تقرر تدريس أربعة علوم يدرسها أربعة أساتذة يأتون من الخارج، وهذه المواد هي تاريخ التمدن القديم في الشرق، وتاريخ التمدن الإسلامي، وتاريخ الآداب العربية، وتاريخ الآداب الفرنسية والإنجليزية. وأُرجئ تدريس بقية العلوم حتى توفر الإمكانات اللازمة. وقررت اللجنة قبول جميع المتخرجين في المدارس العليا وطلبتها، وكذلك جميع طلبة الأزهر ومدرسة دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي. وعلى الرغم من الصعوبات التي قابلت أعضاء اللجنة وحملات الهجوم التي تعرض لها القائمون على المشروع، فقد انتهى مجلس إدارة الجامعة من الاستعدادات والتجهيزات التي سبقت حفل افتتاح الجامعة، وتحدد يوم 21 من ديسمبر 1908م لهذه المناسبة المهمة، وقد حضر الحفل كبار رجال الدولة والأمراء والأعيان ورجال السلك الدبلوماسي، وشيخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية، والمكتتبون، وأعضاء الجمعيات العلمية الذين ساعدوا على خروج الجامعة إلى النور. وبدأت الجامعة عملها من سراي علي باشا شريف بصفة مؤقتة بعد انتقال مدرسة البوليس منها، وكان عملها منذ العام الأول مبشرًا بالنجاح بعد أن تجمع لها رأسمال ثابت قدره نحو أربعة عشر ألف جنيهًا من الاكتتاب والتبرعات والاشتراكات، وبدأت الدراسة بإلقاء محاضرات تاريخ حضارة الشرق القديم، وأدبيات الجغرافيا والتاريخ وآداب اللغة الإنجليزية والفرنسية. وكان يحضر دروس الجامعة قطاعات مختلفة من الناس تضم الطلبة والموظفين ورجال القضاء والتجار والعلماء، وغيرهم. ولم يقتصر حضور دروس الجامعة على المصريين فقط، بل تردد عليها طلبة من أجناس مختلفة، ولكن بأعداد قليلة. وفي العام التالي أُدخلت تعديلات وتحسينات في خطة الدراسة، وعني القائمون بإلحاق المرأة بهذا النوع من التعليم، وكن في البداية يحضرن دروسًا خاصة بهن، تشمل محاضرات بالفرنسية في التربية والأخلاق ومحاضرات باللغة العربية في تاريخ مصر القديم والحديث. وإلى جانب ذلك كانت هناك محاضرات متفرقة في الجامعة تتناول حفظ الصحة والعناية بالأطفال. وتلا النجاح الذي حققته الجامعة أن ظهرت بواكير الأقسام الجامعية، وكان قسم الآداب هو أول الأقسام ظهورًا وتحددت الدروس التي سوف تُدرس في قسم الآداب، وحُدد المدرسون الذين سيقومون بالتدريس، واللغة التي تُدرس بها، وتم اختيار أربعة من المصريين للتدريس في هذا القسم، وهم: حفني ناصف، والشيخ محمد الخضري، وسلطان محمد أفندي. وثلاثة من إيطاليا، وهم: فلينو، وليتمان، ودميلوني. وواحد من إنجلترا، وآخر من فرنسا. وكان ذلك القسم هو نواة لكلية الآداب فيما بعد، وتحددت مدة الدراسة في هذا القسم بأربع سنوات يمكن للطالب في نهايتها التقديم للامتحان، ووضعت الجامعة شروطًا للالتحاق بهذا القسم بأن يكون الطالب حاصلًا على شهادة الدراسة الثانوية المصرية أو ما يعادلها من الشهادات الأجنبية. والجدير بالذكر أن طه حسين أتم دراسته بهذا القسم، وتقدم لامتحان العالمية (الدكتوراه) برسالة عن أبي العلاء المعري. وتوسعت الجامعة الوليدة في إنشاء قسم للعلوم الاجتماعية والاقتصادية، وآخر لقسم الحقوق، واستعانت بأساتذة أكفاء لتدريس هذه المواد ولقيت الجامعة في حياتها الأولى دعمًا ومساندة من الأفراد والمؤسسات، فغُذيت مكتبة الجامعة بمئات الكتب من داخل البلاد وخارجها وبخاصة من إيطاليا وإنجلترا والنمسا، كما حصلت الجامعة على أدوات وأجهزة لإنشاء معمل للطبيعة والكيمياء بفضل مساعي الأمير أحمد فؤاد لدى ملك إيطاليا. وظلت الجامعة بدون بناء خاص بها حتى تبرعت الأميرة فاطمة بنت الخديوي إسماعيل سنة 1914م بقطعة أرض وأموال للصرف على إنشاء مبنى للجامعة. ولكن مع سنوات الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م) واجهت الجامعة صعوبات مالية بسب قلة الاكتتاب، وفي هذه الأثناء كانت وزارة المعارف تخططلإنشاء جامعة حكومية، وتلاقت رغبة وزارة المعارف مع رغبة القائمين على الجامعة الأهلية نظرًا للصعوبات المالية التي تواجهها، فرحبوا بفكرة تسليم الجامعة إلى وزارة المعارف أو تحويلها إلى جامعة حكومية، وتم إدماج المدارس العالية التابعة لوزارة المعارف في الجامعة الأهلية، واُتخذ قرار في هذا الشأن في الثاني عشر من ديسمبر 1923م، وبدأت الجامعة الجديدة باسم “الجامعة المصرية” بميزانية قدرها ثلاثمائة جنيه، ومنحتها الحكومة تسعين فدانًا لبناء كليات الحقوق والآداب والعلوم والمكتبة ومساكن الطلبة وميادين الألعاب الرياضية، كما منحتها أربعين فدانًا لكلية الطب ومستشفاها بمنيل الروضة. وفي التاسع عشر من يونية عام 1925م كان صدور المرسوم الملكي بإنشاء الجامعة المصرية (جامعة القاهرة) من كليات الآداب والعلوم والطب والحقوق، وقد وقع الاختيار على د. أحمد لطفي السيد رئيسًا لها. وهكذا قامت الجامعة الوليدة من عثرتها لتصبح أعرق جامعات مصر والعالم العربي.
وبينما كان الكيان الوهابي السعودي الوليد يوثق علاقاته مع الاستعمار البريطاني لبلاده طبقا لمعاهدة دارين عام 1915م، ومعاهدة جدة عام 1927م واللتان كرستا الهيمنة والاحتلال البريطاني للكيان الوهابي الجديد (الدولة السعودية الثالثة)، ويتفاعل مع البريطانيينمجتمعيًا عن طريق عصابات الوهابية والوهابيون الجدد (الإخوان)، ويتشارك معهمفي بسط شبكة المصالح الاستعمارية البريطانية في الوطن العربي والشرق الأدنى، ويسعى لكتم أنفاس التحرر قدر استطاعته على محيطه الإقليمي.كانت الأمة المصرية تمهد لتفجر ثورة 1919م، كواحدة من أعظم الثورات الشعبية فيتاريخ الشعب المصري، وإحدى أهم الثورات في التاريخ الإنساني،والتي أولجت مصرللقرن العشرين،لتستكمل بناء نهضتها التاريخيةوتنجب جيلًا فريدًا من الساسة الليبراليين الثوريين بقيادة سعد زغلول (1859-1927)، الذي تتلمذ على يد الشيخ الإمام محمد عبده.فعندما أوشكت الحرب العالمية الأولى على الانتهاء، كان الجميع يتأهب لكي يتقرر مصير مصر، ولكن تمسكت إنجلترا باحتلال مصر بعد انتصارها في الحرب، ففكر بعض المصريين في تكوين وفد مصري للسفر لباريس لعرض قضية استقلال مصر على مؤتمر السلام هناك، وانتهى الأمر بتشكيل وفد مصري واحد يعبر عن كل طوائف الأمه مسلميها ومسيحييها كما يعبر عن أحزابها القائمه آنذاك، وأجمع كل الأعضاء على اختيار “سعد زغلول” رئيسًا للوفد، وتشكل الوفد المصري الذي ضم سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وآخرين وأطلقوا على أنفسهم “الوفد المصري”، وقد جمعوا توقيعات من أصحاب الشأن وذلك بقصد إثبات صفتهم التمثيلية وجاء في الصيغة “نحن الموقعين على هذا قد أنبنا عنا حضرات: سعد زغلول و(……) في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلًا في استقلال مصر تطبيقًا لمبادئ الحق والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى”، على أثره غضبت قوات الاحتلال الموجودة في مصر من موقف سعد وزملاءه، فقامت بنفي اللجنة المكونة للوفد إلى جزيرة مالطة في 8 مارس 1919م لتنفجر أول ثورة شعبية بعد الحرب في عام 1919م، وفي اليوم التالي لاعتقال الزعيم الوطني المصري سعد زغلول وأعضاء الوفد، أشعل طلبة المدارس العليا في القاهرة شرارة التظاهرات، وفي غضون يومين، امتد نطاق الإحتجاجات ليشمل جميع الطلبة بما فيهم طلبة الأزهر، وبعد أيام قليلة كانت الثورة قد اندلعت في جميع الأنحاء من قرى ومدن،وقدم المصريون نموذجًا فريدًا من العصيان المدنى. وعلى الجانب الآخر كان رد فعل القوات البريطانية من أفظع أعمال العنف الذي لاقاه المصريون.وفي النهاية اضطرت إنجلترا إلى عزل الحاكم البريطاني وأفرج الإنجليز عن سعد زغلول وزملائه وعادوا من المنفى إلى مصر، ويصف المؤرخ عبد الرحمن الرافعي، وهو أحد زعماء الحزب الوطني المشهورين بمنافستهم الشديدة لسعد زغلول، يصف استقبال الجماهير لسعد زغلول يومذاك بقوله: “وقُوبل في الإسكندرية وفي الطريق منها إلى القاهرة وفي العاصمة بأعظم مظاهر الفرح والحماسة بحيث كانت مقابلته سلسلة لا نهاية لها من الزينات والمظاهرات والحفلات والأفراح مما لا مثيل له في تاريخ مصر الحديث”، وسمحت إنجلترا للوفد المصري برئاسة سعد زغلول بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس، ليعرض عليه قضية استقلال مصر، ولم يستجب أعضاء مؤتمر الصلح بباريس لمطالب الوفد المصري فعاد المصريون إلى الثورة وازداد حماسهم، وقاطع الشعب البضائع الإنجليزية، فألقى الإنجليز القبض على سعد زغلول مرة أخرى، ونفوه مرة أخرى إلى جزيرة “سيشل” في المحيط الهندى، فازدادت الثورة اشتعالًا، وحاولت إنجلترا القضاء على الثورة بالقوة، ولكنها فشلت ليعود سعد زغلول، وبعثت قوات الاحتلال لجنة لمعايشة الأحوال في مصر بقيادة اللورد “ملنر” التي قاطعها المصريون مقاطعة تامة وتم التصدى لها بكافة الطرق، لإجبارها على التفاوض مع “سعد” ممثل الأمة، وتم بالفعل التشاور حول الأوضاع المصرية، فجاء قرار اللجنة بضرورة منح مصر الاستقلال الذي تريده مع وضع عدد من التوصيات عين الاعتبار لحماية المصالح البريطانية (أي استقلال منقوص)، وأخيرًا عاد “زعيم الأمة للوطن” في عام 1923م.
أنشأ سعد زغلول حزب الوفد الذي مثل، حينذاك، رأس حربة الحركة الوطنية المصرية، حيث كان الوفد بمثابة “جبهة وطنية”، ضمت شتى القوى السياسية والاجتماعية التي شاركت في ثورة 1919م، وعكست تشكيل الأمة المصرية بأسرها، ليكون، حسب تعبير المؤرخ طارق البشري “تنظيم الحركة الوطنية الديمقراطية المصرية لثورة 1919م، الذي استطاع أن يجمع المصريين، ويستوعب نشاطهم وطموحهم الوطني والحضاري، وحقق بذلك أسمى ما يمكن تحقيقه في إطار ما تتيحه الظروف التاريخية، والذي أسهم بتكوينه الجامع في تكوين الجامعة المصرية”. وكان “الوفد” الحزب السياسي الحقيقي الوحيد في تاريخ مصر الحديث، حيث تمكن من التمدد والتشعب بلجانه في طول البلاد وعرضها، بحضرها وريفها، وتمثلت نقطة قوته الرئيسية في أن تأسيسه لم يكن بقرار “فوقي” سلطوي، أو نخبوي منعزل عن الشعب، وإنما استجابة لرغبة شعبية ووطنية جارفة، كما أنه كان بمثابة “جبهة وطنية”، ضمت شتى القوى السياسية والاجتماعية التي شاركت في ثورة 1919م، وعكست تشكيل الأمة المصرية بأسرها، فقد ضمت صفوفه المسلمين والأقباط، وكبار الملاك من الباشوات إلى جانب العمال، والحضريين والريفيين، والمثقفين والفلاحين. وصدر دستور 1923م، الذي وضعته لجنة مكونة من ثلاثين عضو ضمت ممثلين للأحزاب السياسية والزعامات الشعبية وقادة الحركة الوطنية وتزعم تلك اللجنة عبد الخالق ثروت، وقد أكد دستور 1923م أن جميع سلطات البلاد مصدرها الأمة أي الشعب، وأن البرلمان هو السلطة التشريعية ويتكون من مجلسين، مجلس النواب وأعضاؤه منتخبون وهو الذي يمنح ويسحب الثقة من الوزارة ويراقب أعمال الوزارات، ومجلس الشيوخ ينتخب ثلاثة أخماسه والباقي بالتعيين، وأن المواطنين متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وتحمل الأعباء الوطنية دون تمييز بسبب الدين أو الأصل أو اللغة،ومن أهم مواده المادة(3) التي تنص على أن المصريين لدى القانون سواء وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين وإليهم وحدهم يُعهد بالوظائف العامة مدنية كانت أو عسكرية ولا يُولي الأجانب هذه الوظائف إلا في أحوال استثنائية يعينها القانون. والمادة (4) وتنص على أن الحرية الشخصية مكفولة. والمادة (5) وتنص بأنه لا يجوز القبض على أي إنسان ولا حبسه إلا وفق أحكام القانون. والمادة (14) وتنص على أن “حرية الرأي مكفولة. ولكل إنسان الإعراب عن فكره بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك في حدود القانون. والمادة (22) وتنص على أن “لأفراد المصريين أن يخاطبوا السلطات العامة فيما يُعرض لهم من الشؤون وذلك بكتابات موقع عليها باسمائهم. أما مخاطبة السلطات باسم المجاميع فلا تكون إلا للهيئات النظامية والأشخاص المعنوية.”. ورغم أن هذا الدستور كان جيدًا وخطوة مهمة للحياة الديموقراطية، حيث أرسى دعائم القومية المصرية، ورسخ مبدأ المواطنة،إلا أنه لم يخل من أوجه القصور مثل أنه أعطى الملك الحق في حل البرلمان وإقالة الوزارة، فمكن الملك وهو صاحب السلطة التنفيذية من التحكم في السلطة التشريعية وهي البرلمان. وفي ظل دستور 1923م كرم الشعب المصري سعد زغلول ورفاقه خير التكريم بحصول حزب الوفد على 90% من مقاعد البرلمان، كما شهدت واقعةً تاريخيةً فريدة لم تتكرر مطلقًا عندما سقط يحيى إبراهيم باشا الذي كان رئيس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك في دائرته الانتخابية أمام مرشح “الوفد” الذي كان أحمد مرعي “أفندي”، في دليل ناطق على مدى نزاهة تلك الانتخابات. وتولى زغلول على أثرها مقعد رئيس الوزراء، وظل سعد محاربًا ورافضًا لتعسفات الاحتلال البريطاني.وفي خضم محاولات الجانب البريطاني لاقتطاع السودان من مصر على أثر توصيات ملنر، والتعسف المتواصل للاحتلال البريطاني، وعدم دعم الملك فؤاد حاكم مصر لسعد زغلول، قدم زعيم الأمة استقالته من منصب رئيس الوزراء عام 1924م، وواصل نضاله ضد الإنجليز وخاض صراعًا مع الملك فؤاد وأحزاب الأقلية المتعاونة مع الملك دفاعًا عن الدستور. وتوج كفاحه بفوز حزب الوفد بالأغلبية البرلمانية مرة ثانية عام ١٩٢٧م واُنتخب سعد رئيسًا لمجلس النواب حتى وفاته عام 1927م. وقد شقت ثورة 19 مجرى الحركة الوطنية المصرية حول ثابتين، سيادة الأمة بوجهيها الاستقلال والدستور، والوحدة الوطنية بقاعدتيها المواطنة والعدالة الاجتماعية، فقد كان من اسهامات ثورة 1919 في مجال الوحدة الوطنية شعار “الدين لله والوطن للجميع” و”يحيا الهلال مع الصليب”، حيث لا يستقيم مفهوم المواطنة دون أن تكون مصدر الحقوق والواجبات العامة بصرف النظر عن الدين. وفي ثورة 1919م تجلت فيها أروع وأعظم مظاهر الوحدة الوطنية والاتحاد الوطني باتحاد عنصري الأمة وتصديهم للمؤامرات الخبيثة لتفتيت الجبهة الداخلية وضرب الوحدة الوطنية. وفي هذه الثورة الوطنية خطب القساوسة في منابر المساجد وخطب الشيوخ في الكنائس في مشهد وطني حقيقي، ولهذا لم يكن غريبًا أن نجد القمص سرجيوس فى الأزهر خطيبًا للثورة، والشيخ القاياتى فى الكنيسة خطيبًا للثورة. وقد أسفرت تلك الثورة بعد ثلاثة أعوام من نشوبها إلى منح مصر استقلالها، وإلغاء الأحكام العرفية فيها شريطة أن تبقى القوات البريطانية على أرضها، ووصل قبطى إلى منصب رئيس مجلس النواب هو ويصا واصف باشا، وأصبح مكرم عبيد الرجل الثانى فى حزب الوفد بعد مصطفى النحاس. لكن الاستقلال جاء منقوصًا وشكليًا، ولم يتحقق الاستقلال إلا عبر ثلاث مراحل أخرى، وهي الهبة الشعبية في عام 1946م التي قادتها “اللجنة الوطنية للطلبة والعمال”، وقد حققت إنجازات على طريق الاستقلال، وإبان فترة حكم الزعيم “مصطفى النحاس” بين 11 يناير 1950م وحريق القاهرة في 26 يناير1952م، تحقق خطوات أيضًا على طريق الاستقلال من أهمها إلغاء معاهدة 1936م التي كانت تربط مصر ببريطانيا، وجاءت بعد ذلك ثورة 23 يوليو 1952م واستكملت هدف ثورة 1919م، وهو التحرر التام من الاستعمار.
يُعتبر سعد زغلول من مؤسسي الليبرالية في مصر، ومن أهم الإضاءات التي كانت اُتخذت كشعارات من أقوال الزعيم الكبير سعد زغلول قوله: “الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة”، ليؤكد للجميع رسالة الحرية لشعب ناضل من أجلها للتحرر من الظلم والاستعمار، كما كان يكرر دائمًا: “نحن لسنا أوصياء على الأمة، بل وكلاء لها”، ومن الحريات التي ناضل زغلول من أجلها حرية المرأة وتحريرها من الاضطهاد والاستعباد والظلم حيث قال بشأن هذا الأمر:”إنني من انصار تحرير المرأة، ومن المقتنعين بهذا الأمر، لأنه بغير تحرير المرأة لن نتوصل لبلوغ غاياتنا في التحرر”، كما ساند سعد زغلول كتاب “تحرير المرأة ” وكاتبه قاسم أمين، وسمح سعد لزوجته أن تتزعم الحركة الوطنية خلال منفاه وتفتح بيتها في غيابه لزعماء الثورة وتخرج وتحتج وتزاول نشاطها السياسي والاجتماعي، ولم يكن ليحدث ذلك في هذا الوقت لولا مساندة سعد لتحرير المراة وتنوير المجتمع. وأكد على أن دفاعه عن تلك الأمة هو فرض ملزم عليه العمل به للوصول إلى حرية هذه الأمة من كل ما يعرضها للخطر باعتباره فردًا من هذه الأمة “نحن نحب الحرية، ولكن نحب أكثر منها أن تستعمل في موضعها”، إيمانًا من الزعيم بأن للحرية قوانين وضوابط تحكمها، أي أن حرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، وبذلك كان سعد زغلول مفجر الثوره ومؤكد الوحده الوطنية ورائد هام من رواد التنوير.ويصف شاعر النيل حافظ إبراهيم دور المرأة في ثورة 1919م بقوله:“خرج الغوانى يحتججـن ورحت أرقب جمعهن.. فإذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهن.. وأخذن يجتزن الطريق، ودار سعد قصدهن.. يمشين فى كنف الوقار وقد أبَنَّ شعورهن.. وإذا بجيش مقبل والخيل مطلقة الأعنة.. وإذا الجنود سيوفها قد صُوبت لنحورهن”. حيث خرجت المظاهرة النسائية الأولى في صباحالعشرين من مارس بقيادة هدى شعراوي (زوجة علي شعراوي باشا، ثالث الثلاثة الذين قابلوا المندوب السامي، مطالبين باستقلال وطنهم)، في سياق الاحتجاج على اعتقال سعد زغلول ورفاقة، وسرعان ما لحقتها غيرها من مظاهرات نسائية، انتقلت عدواها من الطبقة الأرستقراطية إلى شرائح الطبقة الوسطى، ومنها إلى نساء الطبقة العاملة، التي سقط منهن شهيدات في ثورة 1919م.وبحسب رواية عبدالرحمن الرافعي، خرجت السيدات والآنسات في مظاهرات حاشدة تعبيرًا عن الاحتجاج على ما أصاب الأبرياء من القتل والتنكيل في المظاهرات السابقة.ووصف الرافعي مشهد المظاهرة النسائية قائلا:”خرجت المتظاهرات في حشمة ووقار، وعددهن يربو على الثلاثمائة من كرام العائلات، وأعددن احتجاجًا مكتوبًا ليقدمنه إلى معتمدي الدول، طالبن فيه بإبلاغ احتجاجهن على الأعمال الوحشية، التي قوبلت بها الأمة المصرية، ولكن الجنود الإنجليز لم يمكنوا موكبهن من العبور، فحين وصلت المتظاهرات إلى شارع سعد زغلول (ضريح سعد زغلول حاليًا)، قاصدات بيت الأمة ضربوا نطاقًا حولهن ومنعوهن من السير، وسددوا حرابهم إلى صدورهن، وبقين هكذا مدة ساعتين تحت وهج الشمس الحارقة، بل تقدمت هدى شعراوي وهي تحمل العلم المصريإلى جندي، وقالت له بالإنجليزية:”نحن لا نهاب الموت، أطلق بندقيتك إلى صدري لتجعلني مس كافيل أخرى”، فخجل الجندي، وتنحى للسيدات عن الطريق وجعلهن يعبرن.. و(مس كافيل)ممرضة إنجليزية، أسرها الألمان في الحرب العالمية الأولى وأعدموها رميًا بالرصاص، وكان لمقتلها ضجة كبيرة في العالم.. ظهرت المشاركة الإيجابية النسائية في صورة لم يعتدها المجتمع، بخروجهن لأول مرة فى المظاهرات الحاشدة والمنظمة إلى الشوارع في ثورة 1919م، وكانت أول شهيدتين في هذه الثورة السيدتين حميدة خليلوشفيقة محمد”.وفى عام 1920م تم تشكيل لجنة الوفد المركزية للسيدات، نسبة لحزب الوفد بزعامة سعد زغلول، واُنتخبت السيدة هدى شعرواي رئيسًا لها.. ويذكر لمعي المطيعي في بحثه المعنون باسم رؤية نقدية لشخصيات ثورة 1919م:”إن السيدة صفية زغلول واحدة من أبرز الشخصيات، التي أسهمت إسهامًا عظيمًا في إشعال جذوة الثورة، فقد شاركت في تكوين هيئة وفدية من النساء عام 1919م، بهدف تحقيق المطالب القومية للمرأة المصرية. وفيالثالث عشر من ديسمبر من نفس العام اجتمع عدد كبير من نساء مصر في الكاتدرائية المرقصية، وقدمن احتجاجًا شديد اللهجة على ما يجري من سلطات الاحتلال. وفيالتاسع من مارس 1920م اجتمعت السيدات في منزل سعد زغلول، وألهبت (أم المصريين) صفية زغلول حماسة السيدات، وأكدن مطالبهن القومية، التي كان على رأسها تعليم المرأة حتى مرحلة الجامعة، والسماح لها بالانخراط في العمل السياسي، وتكوين الأحزاب، والإسهام فى دفع عملية التنمية والإصلاح”.وقد قدمت ثورة 1919م نموذجًا بديعًا وملهمًا لدول العالم الثالث التي ترزح تحت نير الاستعمار آنذاك، فقد كانت مثالًا يحتذى للثورة الشعبية التي رفعت راية التحرر الوطني في وجه الاحتلال الأجنبي. وقد روى المؤرخ الراحل عبد العظيم رمضان عن لقاء لأحد كبار المصريين بالزعيم الهندي، المهاتما غاندي، في لندن عام 1921م، والذي قال له: “قلدنا سعد زغلول في حركته الوطنية… قلدناه في تأليف الحزب من طبقات، كلما اعتقل الإنجليز طبقة حلت محلها طبقة أخرى، ولكننا فشلنا في أمرين، توحيد الهندوس والمسلمين، كما وحد سعد بين الأقباط والمسلمين، وإضراب الموظفين”.
وعلى الرغم من قصر المدة التي تولى فيها “الوفد” السلطة، إلا أنها كانت حافلة بالإنجازات، وكان أبرزها معاهدة 1936 التي حققت استقلالًا مبدئيًا لمصر، وأخرجت قوات الإنجليز إلى قناة السويس، وحققت الاستقلال للجيش المصري، وإلغاء الامتيازات الاجنبية لاثنتي عشرة دولة عام 1937م، وهو قرار استعاد سيادة مصر، وبسط سيادة الحكومة المصرية على الأجانب في التشريع، والإدارة، والأمن العام. كما أطلق مصطفى النحاس، وحكومة الوفد شرارة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني، بعد إلغائه معاهدة 36 في عام 1951م، وبدء معارك الفدائيين ضد الاحتلال في القناة. فضلا عن ذلك، يُحسب لحكومات “الوفد” تأسيس جامعة الدول العربية، وتوقيع معاهدة للدفاع المشترك بين الدول العربية، وإنشاء ديوان المحاسبات “الجهاز المركزي للمحاسبات”، ومحكمة النقض، والبنك المركزي، واتحاد العمال. وإصدار عشرات التشريعات المنظمة للحقوق في مصر، مثل قانون العمال، ومجانية التعليم على مرحلتين، للتعليم الابتدائي في حكومة النحاس في 1942م، وفي حكومة النحاس الأخيرة في 1950م لتمتد إلى التعليمين، الثانوي والفني، بالإضافة إلى قوانين التأمين الإجباري علىالعامل، واستقلال القضاء. وعلى الرغم من القصر النسبي للحقبة شبه الليبرالية التي جاءت عقب ثورة 1919م، واستمرت حتى يوليو 1952م، إلا أنها كانت شديدة الثراء على المستويات، السياسي والفكري والثقافي، فقد كانت مصر تشهد فترةً شبه ليبرالية، وتعددية سياسية، وفكرية، وحزبية، في حين كانت دول جنوب أوروبا ترزح تحت وطأة الحكم العسكري، ولم تكد أي من دول اسيا قد خرجت إلى النور بعد بما فيهم اليابان والصين، حيث اتسمت تلك الفترة في مصر بقدر كبير من الحرية، وانفتاح المجال العام أمام فاعلين عديدين، وامتلاك المجتمع، بشكل نسبي، زمام المبادرة وحرية الحركة، حيث كان المجال مفتوحًا لتأسيس الأحزاب والجمعيات الأهلية، والتنظيمات النقابية، كما كان مفتوحًا أيضًا أمام حراك مختلف المشارب والمذاهب الفكرية والسياسية وتفاعلها، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فقد كان المجتمع، في تلك الفترة، يضمكل الاتجاهات، والأجناس، والأعراق، والطوائف، من دون إقصاء أو وصاية من طرف على آخر، وهو ما تؤكده ضراوة المعارك السياسية والفكرية التي اتخذت طابعًا سجاليًا بين أطرافها، وقد كانت ساحاتها صفحات الصحف المختلفة المعبرة عن مختلف الأحزاب السياسية والتوجهات الفكرية، حيث كان سمتها الرئيسي لغة الخطاب البالغة الرقي، حتى في أعتى لحظات النقد والهجوم. وقد انعكس هذا على الإنتاجين الأدبي والفني للحقبة شبه الليبرالية، فقد كانت ثورة 1919م بمثابة مخاض كبير لجيل رائع من المبدعين في مختلف ميادين الإبداع، من الأدباء والكتاب والشعراء، وبدا وكأن الثورة قد فجرت طاقات الإبداع فيهم، وقد أثرى هذا الجيل المكتبة العربية بإنتاجه الرفيع فكريًا وأدبيًا. ويُعد التراث الأدبي والفني لتلك الفترة القاعدة الأساسية لـ”القوّة الناعمة” المصرية في محيطيها، وقد جسد فنان الشعب سيد درويش عبر ألحانه وصوته مطالب الثورة، كان أبرزها نشيد مصر الحالي “بلادي بلادي” من تأليف الشيخ يونس القاضي والمأخوذ عن خطاب الزعيم مصطفى كامل. إضافة إلى الأغنيتين: “قوم يا مصري” و”أنا المصري كريم العنصرين”. كما انعكس أيضًا على السمت المعماري البديع الذي اتسمت به طرز المباني التي شُيدت في تلك الفترة. والإنتاج الأدبي والفني والمعماري لحقبة بعينها مرآة عاكسة لحالة المجتمع، ودرجة حيويته السياسية، والفكرية، والثقافية، وما يتمتع به من ذائقة جمالية، وقد اتسمت تلك الحقبة بقوة منظومتها التعليمية (على الرغم من قلة عدد المتعلمين فيها وانتشار الأمية)، وهو ما انعكس على تكوين الطبقة الوسطى وسماتها، فقد كانت متجانسة، ومتميزة. بعبارة أخرى، كانت طبقة صغيرة كمًا، لكنها كبيرة كيفًا، فقد كان التعليم الرافعة الوحيدة تقريبًا للحراك الاجتماعي. وكان توفر تلك الظروف الموضوعية المتعددة والمتنوعة لأمة تمتلك رصيد حضاري عظيم وثقافة غنية ورحبة وطاقات بشرية هائلة، ينبأ بمولد دولة عصرية وديمقراطية ومجتمعًا مدنيًا حرًا، وأمة مصرية ناهضة وقوية.كما أدى نشأة وتطور البرجوازية المصرية كما أوضحنا سابقًا إلى ميلاد جيلًا منالمفكرين والمثقفين والأدباء والسياسيين يعبرون عن تلك البرجوازية الوليدة، وكان أبرزهمالشيخ الإمام محمد عبده، الذي أدت آرائه التجديدية والتقدمية إلى ميلاد حركة تنويريةووطنية وفكرية شاملة وفريدة، وقد ألقينا الضوء على بعض ملامحها سابقًا، وامتدت آثارها لبعد وفاته، حيث كان لها دورًا هامًا وحيويًا في بناء زخم سياسي وفكري وثقافي، وضمت تلك الحركة رجالًا من كافة التيارات السياسية والفكرية والدينية والفلسفية والاجتماعية والعلمية، أدت إلى الزخم الفكري والتنويري في تلك الفترة الهامة والحيوية من تاريخ بناء وعي ووجدان الشعب المصري، وإدراكه لذاته.. وهو موضوع مقالتنا القادة.
التعليقات