ألقينا الضوء سابقًا على “بريق شعار الحرية” إبان الثورة المصرية (25-30) في مقالة منفصلة، ثم تطرقنا إلى تطور مفهوم الحرية تاريخيًا في إحدى عشرة مقالة منفصلة، عن ولادة مصطلح الحرية، وتطور مفهوم الحرية خلال كلًا من الحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية، والمفهوم الإيماني المسيحي للحرية، والعصور الوسطى الأوروبية، والحضارة الإسلامية، والحضارة المصرية القديمة، والعصور الوسطى المصرية، وعصر النهضة الأوروبية، وعصر التنوير الأوروبي، والليبرالية الديمقراطية الكلاسيكية، ومقالتي هذه عن المرحلة الثانية لتطور الليبرالية وهي “الليبرالية الاجتماعية”.
كما أسلفنا سابقًا تحول شعار البرجوازية (دعه يمر.. دعه يعمل..) إلى منطلق اقتصادي للنظام الرأسمالي الذي ساد بعد نهاية النظام الإقطاعي وتحولت معه البرجوازية إلى طبقة تعتمد على هذا النظام الجديد لتثبيت سيطرتها على المجتمع والدولة بهدف زيادة الربح ولا شيء سوى الربح، ومن غير شك أن هذا النظام الرأسمالي تطورت في ظله الديمقراطية وتبلورت معه مفاهيم الحريات الشخصية والفردية وخصوصًا حرية السوق، ولكن هذا النظام تحول شيئًا فشيئًا إلى نظام متوحش تزداد معه الفوارق الطبقية ويزداد الأثرياء ثراءً والفقراء فقرًا بسبب طبيعة هذا النظام الاستغلالية مهمشًا شيئًا فشيئًا مباديء العدالة الاجتماعية التي رُفعت شعاراتها أثناء الثورات البرجوازية الكبرى كما أوضحنا سابقًا، وظهرت الليبرالية مع ظهور هذا النظام، فهي ابنته المباشرة ونتيجته الطبيعية التي اكتسبت مبادئها ومنطلقاتها من مبدئه ومنطلقه الاقتصادي المتمثل بحرية السوق، فالليبرالية هي المذهب السياسي الذي ينطلق من الحرية الفردية ويتمحور حولها ويعتمد النظام الرأسمالي كنظام اقتصادي انطلاقًا من هذه الحرية متناسيًا مبدأ العدالة الاجتماعية الذي ضيعه تقديس الحرية الفردية وبالأخص حرية السوق بشكل مفرط، ولكنها لم تعد تناسب تطور الرأسمالية في مراحلها الاحتكارية اللاحقة التي نتج عنها مساويء اجتماعية عنيفة، وظهور الأزمات المتعددة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية، ومن أبرزها انتشار البطالة والفقر والحرمان الاقتصادي، ووصول طبقات كاملة من المجتمع إلى قريب من الموت، وعدم وجود ضمانات صحية وتعليمية وغيره، بالإضافة إلى زيادة وعي الطبقات الكادحة وفي مقدمتها الطبقة العاملة والفلاحين بذاتهم، وتشكيلهم لنقاباتهم واتحاداتهم وروابطهم العمالية والفلاحية والمهنية، مما أدى إلى زيادة قوتهم المجتمعية والسياسية ولم يعد بمقدور قوى الاستغلال في المجتمع الرأسمالي الاستمرار في حكمهم بنفس الاساليب السابقة، كما أدت تلك الأوضاع إلى ظهور أفكار ونظريات علمية راديكالية، وفي صدارتها نظرية “الاشتراكية الثورية” في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (وهو ما سنأتي إليه لاحقًا)، والتي ترى شيخوخة واحتضار الرأسمالية وقيمها البرجوازية، وقد أدت تلك العوامل والكثير غيرها إلى تهديد تطور واستمرار النظام الرأسمالي.
وبذلك ولد مفهوم الليبرالية الإجتماعية، وهي الليبرالية بشكلها الإصلاحي الذي يشمل العدالة الاجتماعية، وهي تختلف عن الليبرالية الكلاسيكية، حيث ترى الليبرالية الاجتماعية أن من واجب الدولة الليبرالية توفير فرص العمل، والرعاية الصحية، والتعليم الجيد، وغيره، إلى جانب الحقوق المدنية والحقوق الليبرالية، وتحقيق متطلبات حقوق الإنسان، والليبرالية الاجتماعية هي تطور حديث في الأيديولوجيا الليبرالية نشأت منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وتعبر عن فكر الأحزاب الليبرالية التقدمية لتمييزها عن الأحزاب الليبرالية الكلاسيكية، والليبرالية الاجتماعية تقع ما بين الليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية, فهى متأثرة جدًا بافكار الليبرالية و فى نفس الوقت متأثره ببعض الافكار من الاشتراكية خصوصًا موضوع العدالة الاجتماعية، وتقع الأحزاب الليبرالية الاجتماعية عادة في الوسط أو يسار الوسط في الطيف السياسي، وتُسمى “التيار الليبرالي الوسطي”، وتدعوا إلى حكومات شرعية ومنتخبة ديمقراطيًا تقوم بتوفير المستوى الأساسي من المعيشة الطيبة كما أسلفنا، وتتبنى برامج وأفكار تقدمية مثل قوانين مكافحة الاحتكارات الاقتصادية، ووجود هيئات تنظيمية مع قوانين للحد الأدنى من الأجور لتأمين فرص اقتصادية للجميع، ويتم ذلك عن طريق الضرائب التصاعدية، كما تعمل على الوصول إلى أفضل استخدام للمواهب البشرية بما يمنع حدوث ثورات أي تعمل لتحقيق المصلحة العامة، وتدعو الليبرالية الاجتماعية إلى احترام الحرية الفردية والتسامح، مع تشديدها على “الحرية الإيجابية” التي تهتم بقدرة الأشخاص على المشاركة في العمل، وتعتبر أن حق العمل وحق أجر مناسب على العمل لا يقل أهمية عن حق التملك حيث تدعم اقتصاد “السوق الاجتماعي” الذي يسمح بالملكية الفردية لوسائل الإنتاج مع تنظيم الدولة للسوق بما يحقق التنافس الاقتصادي العادل وتقليل نسب التضخم وتقليل البطالة، وتؤيد المدرسة الليبرالية الاجتماعية الاقتصاد المختلط الذي يقوم بالأساس على القطاع الخاص مع قيام الدولة بتوفير أو ضمان وجود سلع عامة، وتوظف عناصر من الرأسمالية والاشتراكية معًا لتحقيق موازنة بين الحرية الاقتصادية والمساواة بما يخدم الصالح العام، أي أن الليبرالية الاجتماعية تقع بين الليبرالية الديمقراطية الكلاسيكية والاشتراكية الراديكالية، فهي ترفض الاقتصاد الرأسمالي المطلق الذي لا يحق فيه بتاتًا للدولة التدخل في الملكية الخاصة (خلافًا لليبرالية الكلاسيكية) بينما تقبل بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (خلافًا للاشتراكية الراديكالية) مع دعمها حق الدولة في التدخل لتحقيق مصلحة الطبقات الأقل انتفاعًا من الحرية الاقتصادية، لذا أطلق عليها ليبرالية دولة الرفاه، وعلي الخريطة السياسية تعارض أخلاق الليبرالية التسلط وتبحث اشراك البشر في صناعة القرار والتركيز علي الديموقراطية وعلي الخريطة الاقتصادية والاجتماعية، وتشجع الليبرالية الاجتماعية إنشاء المؤسسات باحثة التوفيق بين الحرية و المساواة وبخاصة عن طريق تأسيس إعادة التوزيع متأملة في زيادة قدرات الفرد، وتقودها نظرية المعرفة إلي معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية انطلاقًا من دراسة الحقائق نفسها وإذا كانت هذه الوقائع غير سارة (نظرية الحقائق الصعبة) هذا يؤدي بهم إلى أن يكونوا أكثر استقرائية عن طريق التحليل المكثف للمعطيات الذي جادل فيه الكثير من اقتصاديي الليبرالية الاقتصادية بطريقة أكثر استنتاجية.
وبذلك تُعتبر “الليبرالية الإجتماعية ” رؤية تجتهد لإيجاد همزة الوصل بين الفرد والإمكان الاجتماعى، ومن ثم تعترف بالأزمة كظاهرة بنيوية فى التاريخ ومستقبله، وهى لاتسلم بوجود غايات نهائية للتاريخ ولكنها تروم البقاء داخله من خلال التأكيد على قدرتها على إنتاج حلول مناسبة للإشكاليات السياسية والاجتماعية الجديدة و المتلاحقة، ويؤكد أنصار الليبرالية الاجتماعية دومًا على أنها لا تقوم على “عقيدة مسبقة”, وأنها ولدت بشكل تلقائى من رحم المجتمع المدنى فى مرحلة النظام التجارى ماقبل الرأسمالى (المركانتلى), وأنها تفاعلت مع مشكلات هذا المجتمع وارتهن تطورها بتطوره الاقتصادى والاجتماعى وأنها انحازت لفكرة “الدولة القومية” وعيًا بماهيتها التى تصل الفرد بالكل الاجتماعي، فالدولة وفقًا للمفهوم الليبرالى الاجتماعى هى ذروة الفعل الإنسانى داخل حركة التاريخ ومستقبله, فهى ليست نقيض المجتمع المدنى وليس هناك ما يبرر الفصل بينهما، فالمجتمع المدنى الذى يقف فى المسافة بين الفرد و الدولة يظل الحارس على شرعية هذه الدولة كما أن هذه الأخيرة هى الحارس على الحريات المدنية.
يؤمن الليبراليون الاجتماعيون بالحرية الفردية كهدف رئيسي مثل الليبرالية الكلاسيكية باعتبارها قيم انسانية اكتسبتها الشعوب بنضالاتها وتضحياتها ودمائها، لذا تدعم الليبرالية الإجتماعية أمكانية تلبية الحاجات الأساسية اللازمة للفرد باعتبارها حقوقآ أيجابية تستخلص من أفراد آخرين وتقدم عن طريقهم, وتحرص على تأييد التدابير الحكومية الخاصة بتوفير الحد الأدنى من مستوى معيشى يحقق رفاهية البشر و يأتى قبل منظومة الحقوق الاقتصادية الفردية، وأذا كانت الليبرالية الاجتماعية قد انتصرت لحقوق الإنسان, فإن “الكل الإجتماعى” عندها هو وحدة التحليل وليس الفرد أو الطبقة, وهو كل يرتبط بتوسيع رقعة الفئات والشرائح الوسطى بمفهومها الثقافى، فالإنسان فى هذا المجتمع الليبرالى يجب أن يملك فرصة قائمة للعمل ليكون مسئولًا عن استثمارها فى تنمية قدراته وبما يمكنه من المشاركة فى الشأن العام, فهو ليس الفرد الذى يأسره إشباع الحاجة وأنانية الرغبة كما تتمثله الليبرالية الجديدة المعولمة، وإذا كان “الكل الاجتماعى” هو وحدة التحليل الأساسية وفق الليبرالية الاجتماعية فإنه لا يمكن فهم حقوق الإنسان إلا فى ضوء التطور الاجتماعى، ومن هنا يتعين تجاوز الجدل بشأن الماهية الأولى للطبيعة البشرية، ما إذا كانت خيرة بالفطرة كما يقول “روسو” أو شريرة كما يقول “هوبز”، لإن إشكالية هذه الماهية موضوع “خارج التاريخ”, فالمهم هنا هو “الوعى والقدرة على الانتصار للحرية فى سياق تاريخى معين”، الأمر الذى يدفع نحو تزكية التوسع فى منظومة الحريات والحقوق الاجتماعية كى تتطابق مع دائرة الحقوق الطبيعية والسياسية وفق هذا المنطق، في حين يتحدث البعض مثل “ميركوير” عن أن الليبرالية المحافظة تقوم على مفهوم “الحرية السلبية”، أي حينما لا يوجد قانون فلن يوجد تجاوز للقانون أو خرق له، وعلى الفردية وتعدد الأخلاق والحكومة الخاضعة للمساءلة، بينما تركز الليبرالية الاجتماعية على عدم شرعية الحكومات المستبدة التي تتجاوز في استخدام السلطات وعلى الظروف الاجتماعية التي تؤدي إلى وجود هذه الحكومات المستبدة، ويؤمنون بأن نقص الفرص الاقتصادية والتعليم والرعاية الصحية يمكن أن يشكل تهديدات لمفهوم الحرية، ويرفض ليبراليون كلاسيك مثل “نوزيك” وآخرون الليبرالية الاجتماعية بوصفها ليبرالية زائفة، ويتحدثون عن أن تدخل الحكومة في اقتصاد السوق يقضي على الحرية المنشودة (حسب زعمهم).
حصلت الليبرالية الاجتماعية على مصداقيتها من خلال مبادئ التنمية الإنسانية ومحاولة تعظيم المكاسب الحاصلة من الليبرالية السياسية وتخفيض الضرر الذي تتسبب به الليبرالية الاقتصادية من خلال دمج مفاهيم “العدالة الاجتماعية” مع الليبرالية السياسية، إنها محاولة جريئة أثبتت الكثير من النجاح في تعظيم مصداقية الليبرالية السياسية، واستعادة دور اليسار الديمقراطي في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية وكبح جماح اللليبرالية الاقتصادية المتوحشة، مشكلة الليبرالية الاقتصادية أنها تريد إيقاف دور الدولة في المجتمع وتحويل الخدمات الصحية والتعليمية والتنموية المختلفة إلى القطاع الخاص ونظام السوق وهذا ما يشكل تناقضًا تامًا ومباشرًا مع الديمقراطية ومع حقوق الإنسان ومع التنمية، ولهذا جاء الفكر الديمقراطي الاجتماعي ليحاول محاربة التغول الاقتصادي الليبرالي.
تعتمد الليبرالية الاجتماعية على الإصلاح التدريجي للنظام الاقتصادي بإدخال مفاهيم “دولة الرفاه الاجتماعي” والعدالة الاجتماعية ودمجها مع الليبرالية السياسية المعتمدة على الحريات وحقوق الإنسان وتنظيم الحرية الفردية ضمن إطار واضح من المصلحة الجماعية، فهي آلية سياسية تحقق نموذجًا مثاليًا من “الديمقراطية الليبرالية” يحل المشاكل الموجودة في الرأسمالية غير المقيدة، وتعتمد الليبرالية الاجتماعية على هذه المجموعة من المباديء من أهمها الحريات، وهذه الحريات غير مقتصرة على الحريات الفردية مثل النظام الليبرالي الكلاسيكي ولكن الحريات الجماعية مثل حقوق الإنسان ومكافحة التمييز والتخلص من سطوة أصحاب وسائل الإنتاج والنفوذ السياسي، وثانيًا المساواة والعدالة الاجتماعية، وهي لا تقتصر على المساواة أمام القانون بل أيضًا العدالة والمساواة في التنمية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتساوي في الفرص المتاحة أمام الجميع بدون تمييز، وثالثًا التضامن الاجتماعي وهذا يعني الوحدة والإحساس بالتعاطف مع ضحايا السياسات والممارسات غير العادلة ومحاولة تحقيق العدالة للجميع، ورابعًا الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث تتضمن الديمقراطية حقوقًا وواجبات ولكن أهم هدف لها هو ضمان الحقوق المتساوية لكل المواطنين من مختلف الأصول والأعراق والأفكار السياسية وتمتع المواطنين بحق الاختيار ما بين نظريات وبدائل مختلفة ومتعددة، وخامسًا السلام، وهو عنصر أساسي للعيش المشترك ويجب أن يكون مبنيًا على نظام سياسي واقتصادي دولي يحترم سيادة الدول والتحرر ومنع التسلح، وتقترب الليبرالية الاجتماعية من الديمقراطية الاشتراكية إلى حد كبير بخصوص السياسة الاقتصادية، فكلاهما يحتل موقعًا وسطًا بين الرأسمالية والاشتراكية، أما تأريخيًا فيمكن القول أن الليبرالية الاجتماعية قد خرجت من رحم الليبرالية الكلاسيكية (الرأسمالية المطلقة) وأصبحت أكثر اشتراكية، بينما خرجت الديمقراطية الاشتراكية من رحم الاشتراكية الثورية التي تعتقد بصراع الطبقات وأصبحت إصلاحية وأقل بعدًا عن الرأسمالية.
تزايدت أهمية وقيمة أفكار وشعارات “الليبرالية الاجتماعية” مع تعدد وتزايد مشاكل الليبرالية الاقتصادية الكلاسكية المتوحشة، الناتجة عن الخلل البنيوي للنظام الرأسمالي، والمتمثل بعشوائية السوق التي تؤدي إلى فائض في الإنتاج وضعف في الطلب، وبالتالي المزيد من التضخم والبطالة والفقر، فبعد (الكساد الكبير) أو ما تسمى بالأزمة الاقتصادية الكبرى في عام ١٩٢٩م والتي خلفت الكثير من المآسي البشرية، طرح في ذلك الوقت المفكر الاقتصادي الإنجليزي (كينز) حلولاً كان يعتقد بأنها ناجحة وناجعة للتغلب على مشاكل النظام الرأسمالي مثل دعم الطبقات العاملة والفقيرة والمهمشة وتدخل الدولة لصالح ذلك حتى لا يزيد استغلال البرحوازية لهذه الطبقات فيزداد الفقر والعوز فنشأت (الكينزية) كأفكار عملية وواقعية وحتمية تعبرعن “الليبرالية الاجتماعية”، ورغم أنها لا تعالج الخلل البنيوي للرأسمالية وتناقضه الرئيسي اللذين هما أساس هذه المشاكل، إلا أنها كانت بذلك محاولة برجوازية جادة وموضوعية لإصلاح فكر الليبرالية الكلاسكية التي لم تعد تواكب التطورات التي لحقت بتطور النظام الرأسمالي، فشهد القرن العشرون تنامي تدخل جهاز الدولة في معظم الدول الغربية وفي العديد من الدول النامية، واتخذ أغلب هذا التدخل شكل الرفاه الاجتماعي، أي محاولات الحكومة تقديم خدمات الرفاه لمواطنيها من أجل التغلب على الفقر والمرض والجهل، ولو كانت دول “الحد الأدنى” هي النمط السائد في القرن التاسع عشر، فقد أصبحت الدولة الحديثة خلال القرن العشرين “دولة رفاه”، وحدث هذا نتيجة لمجموعة متنوعة من العوامل الأيديولوجية والتاريخية، حيث سعت الحكومات لتحقيق الفاعلية على المستوى القومي وخلق قوى عاملة أكثر صحة وبناء جيوش أكثر قوة، كما تعرضت لضغوط انتخابية من أجل الاصلاح الاجتماعي من جانب العمال الصناعيين الذين نالوا حق الاقتراع حديثًا، ومن جانب الفلاحين في بعض الحالات، ولم يكن الطرح السياسي للرفاه مقصورًا على أيديولوجية ما، بل قدمه بطرق متفاوتة كل من الاشتراكيين والليبراليين وغيرهم، وفى داخل الأيديولوجيا الليبرالية، دافع الليبراليون الاجتماعيون عن قضية الرفاه الاجتماعي، وذلك في فارق صاعق عن الليبراليين الكلاسكيين، الذين أشادوا بفضائل المساعدة الذاتية والمسئولية الفردية، ويدافع الليبراليون الاجتماعيون عن الرفاه على أساس تكافؤ الفرص، فلو حدث أن هناك أفرادًا أو جماعات معينة تعرضت لحرمان بسبب ظروفها الاجتماعية، تقع إذًا على عاتق الدولة مسئولية اجتماعية لخفض أو إزالة ذلك الحرمان ولخلق فرص حياة متساوية أو على الأقل أكثر مساواة، وهكذا اكتسب المواطنون قدرًا من حقوق الرفاه أو الحقوق الاجتماعية كحق العمل وحق التعليم وحق الحصول على مسكن ملائم، وتعد حقوق الرفاه حقوقًا إيجابية لأنها لا يمكن أن تلبى إلا عن طريق الأفعال الإيجابية للحكومة وحسب، من خلال تقديم معاشات من قبل الدولة ومنافع وخدمات صحية وتعليمية تمولها الدولة، وخلال القرن العشرين، تحولت الأحزاب والحكومات الليبرالية إلى الدفاع عن قضية الرفاه الاجتماعي، وعلى سبيل المثال، تأسست دولة الرفاه الواسعة في المملكة المتحدة على تقرير بيفريدج (1942م) الذي شرع في مهاجمة ما يسمى بالعمالقة الخمسة (الحاجة، والمرض، والجهل، والبطالة، والفساد)، ووعدت بصورة قاطعة بحماية المواطنين من المهد إلى اللحد، وفى الولايات المتحدة، تبلور الرفاه الليبرالي في ثلاثينات القرن العشرين وقت إدارة فرانكلين روزفلت، ولكنه وصل إلى مستوى عال في الستينات مع سياسات “الحدود الجديدة” لجون كنيدي، وبرنامج “المجتمع العظيم” لليندون جونسون، وتطورت الليبرالية الاجتماعية بدرجة أكبر في النصف الثاني للقرن العشرين مع ظهور ما يسمى بالليبرالية الاشتراكية الديمقراطية، خاصة في كتابات “جونز رولز”، وتتميز الليبرالية الاشتراكية الديمقراطية بمساندتها للمساواة الاجتماعية النسبية، التى ينظر إليها عادة باعتبارها القيم المحددة للاشتراكية، ففى كتابه “نظرية العدالة” قدم رولز دفاعًا في إعادة التوزيع والرفاه القائمين على فكرة “المساواة كإنصاف”، وجادل بأن الناس لو كانوا غير واعين بظروفهم ومركزهم الاجتماعي فإنهم سينظرون إلى مجتمع المساواة بإعتباره “أكثر إنصافا” من مجتمع عدم المساواة، وذلك على أساس أن الرغبة في تجنب الفقر أكبر من جاذبية الثروة، ولهذا اقترح “مبدأ الاختلاف” أي أن عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية ينبغي أن تنظم بحيث تفيد الأكثر فقرًا، ويتضمن ذلك اعترافًا بالحاجة إلى وجود مقدار ما من عدم المساواة لتقديم حافز للعمل، وقد أصبحت “اللیبرالیة الاجتماعیة” في الوقت الحالي مطلبًا شعبیًا في جمیع المجتمعات الرأسمالیة التي أصبح الظلم الاجتماعي سمة من سماتها بسبب عدم وجود قیود على حریة الأسواق فیها، وتمثل أهم آلیات تطبیق نظریه الليبرالية الإجتماعية في المبادئ الدستوریة والقواعد القانونیة التي یجب أن تكون تجسیدًا للمساواة بین الناس، وذلك بالحفاظ على الحقوق الطبیعیة لجمیع المواطنین، وعدم المساس بها إلا بصفة مؤقتة وفي ظل ظروف استثائیة للغایة یمثل تمتع الناس بحقوقهم الطبیعیة فیها خطورة أكیدة علیهم كما في حالات الحروب الأهلیة التي یتعین فیها فرض حالة الطوارئ، وكذلك بالحفاظ على الحد الأدنى من الحیاة الكریمة لجمیع المواطنین كما أوضحنا، والتأكيد على فكرة عدم وجود عداء بین المساواة الاقتصادیة والاجتماعیة، فالحریة والمساواة وجهان لعملة واحدة ولا سبیل لإحداهما دون الأخرى.
ولإجمال التطور في الليبرالية على الصعيدين السياسي والاقتصادي، يمكن القول أن حريات وحقوق الفرد قد ازدادت وتبلورت عبر العصور حتى قفزت إلى المفهوم الحالي لحقوق الإنسان الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد يكون أهم تطور في تأريخ الليبرالية هو ظهور الليبرالية الاجتماعية، بهدف القضاء على الفقر والفوارق الطبقية الكبيرة التي حصلت بعد الثورة الصناعية بوجود الليبرالية الكلاسيكية، ولرعاية حقوق الإنسان حيث قد لا تستطيع الدولة توفير تلك الحقوق بدون التدخل في الاقتصاد لصالح الفئات الأقل استفادة من الحرية الاقتصادية، كما إن أفكار الليبرالية الإجتماعية لم تتبلور داخل النموذج الغربى الإ عبر الممارسة وتنافس المصالح وتوازن الصراعات الإجتماعية و السياسية داخل النظام والمجتمع والمجال العام، مع قدرة هذا النظام على استيعاب هذه المنافسات والصراعات والضغوط فى إطار سلمى، وتلك أمور لم يخوضها الجماهير العربية التى مازالت تعيش خليطًا من القيم السياسية والأخلاقية التقليدية المنتمية للعصور الوسطى وبعض ملامح العصور القديمة والبدوية، وتختلف الليبرالية الاجتماعية عن “الليبرالية الجديدة” التي جاءت تعبيرًا عن السياسات الاقتصادية للرئيس الأمريكي “رونالد ريجان” ورئيسة الوزراء البريطانية “مارجريت تاتشر” والتي تؤكد على الالتزامات بحرية التجارة وتفكيك البرامج الاجتماعية الحكومية، وجاءت “الليبرالية الجديدة المحافظة” لتدعو إلى دور “الحد الأدنى” للحكومة في الاقتصاد، ولأسباب كثيرة ومتعددة تتعلق أساسًا بتطور الرأسمالية، نما هذا الاتجاه المحافظ ومثل ردة على قيم الليبرالية الاجتماعية وخاصة بعد سيادة القطب الواحد والازمات الاقتصادية المتلاحقة وآخرها الأزمة المالية التي تفجرت في عام 2008م، مما أدى إلى ظهور اتجاهات فكرية يمينية متطرفة تعود بفكرها إلى أفكار الليبرالية الكلاسيكية الأولى وهي ما أطلق عليها “الليبرالية الجديدة”، والتي نراها خارج “حركة التاريخ” ولا نرى لها مستقبلًا في عالمنا المعاصر، وهي موضوع مقالنا القادم.


التعليقات