الجمعة - الموافق 25 أبريل 2025م

(16) الاشتراكية والحرية.. بقلم الكاتب والباحث: محمد السني

محمد السني

ألقينا الضوء سابقًا على “بريق شعار الحرية” إبان الثورة المصرية (25–30) في مقالة منفصلة، ثم تطرقنا إلى تطور مفهوم الحرية في أربع عشرة مقالة منفصلة عن ولادة مصطلح الحرية، وتطور مفهوم الحرية خلال الحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية، والمفهوم الإيماني المسيحي للحرية، وعصور الظلام الأوروبية، والحضارة الإسلامية، والحضارة المصرية القديمة، والعصور الوسطى المصرية، وعصر النهضة الأوروبية، وعصر التنوير الأوروبي، والليبرالية الكلاسيكية، والليبرالية الاجتماعية، والليبرالية الجديدة، وحقوق الإنسان، ومقالتي هذه لإلقاء الضوء على المفهوم الاشتراكي العلمية للحرية.
نشأ الفكر الاشتراكي العلمي كرد فعل للمساويء التي كانت تئن فيها الجماهير في إطار النظرية الرأسمالية في أسوء مراحلها في منتصف القرن التاسع عشر، وهي المرحلة الاحتكارية، والتي عبرت عنها سياسيًا الليبرالية الكلاسيكية، حيث أدى التنافس المحتدم والصراع على الأسواق والمستهلكين إلى تصفية أغلب الصناع والملاك الصغار والمتوسطين، وتراكم رأس المال بأيدي قلة قليلة من البشر، واتساع نطاق الفقر، وزيادة الأغنياء غنى، وزيادة الفقراء فقرًا، وولدت جحافل من العاطلين عن العمل والبؤساء في كافة المجتمعات الرأسمالية وفي مقدمتها القارة الأوروبية، ووُلد الفكر الاشتراكي العلمي وسط كل هذه التناقضات، ورأى ماركس أن الليبرالية الاقتصادية تؤدي إلى عبودية الإنسان، ويقول “لقد جعلتنا الملكية الخاصة حمقى وضيقي الأفق إلى درجة أننا لا نعتبر موضوعا ما موضوعًا إلا إذا امتلكناه، أي إلا إذا كان بالنسبة لنا رأسمالًا أو شيئًا يملك، يؤكل يشرب يلبس يسكن”، فالإنسان الحر لم يولد بعد، وأنه مشروع مستقبلي، حيث اعتبر أن التاريخ الذي نعرفه ما هو إلا مقدمة للتاريخ الإنساني الحقيقي، التي لم تكتب فصوله بعد.
حددت الاشتراكية موقعها من نظرية الحريات العامة على أساس “جدلي ديالكتيكي”، وتعمل على حل الصراع على الصعيد الزمني، وتفرق بين ثلاث مراحل متمايزة، ففي المرحلة الأولى توجد الدولة الرأسمالية البرجوازية وترى الماركسية أن الحريات العامة فيها شكلية ووهمية، إلا أنها وبالرغم من ذلك، تنطوي على فائدة واضحة هي تحسين الأوضاع المعيشية للطبقات الكادحة وإخراجهم من حالة البؤس المزري، كما أنها تدعم مركز الأحزاب العمالية وحركة الجماهير الشعبية وتمكينها عن طريق الدعاية المناسبة من تعجيل الوصول إلى مرحلة الثورة والقضاء على النظام الرأسمالي سلمًا أو عن طريق الوصول إلى مرحلة الثورة، وما أن تنهار الطبقة البرجوازية حتى يبدأ الطور الثاني الذي تقوم فيه سلطة الطبقة العاملة، حيث تستولي قيادتها على جهاز الحكم البرجوازي وتوجهه ضد الاستغلال الرأسمالي في جميع صوره، وهذه المرحلة تفترض قيام نظام حكم منظم وواسع، ويتحدد نظام الحرية على مدى إسهام كل مواطن في السلطة الثورية التي تسعى إلى تقييد سلطة الحكام السابقين وإلغائها، أما السلطة الاشتراكية فتخلق الظروف الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لتمكين المواطنين من ممارستهم الحرية فعليًا، فهي إذن أداة تحرير، ويصبح الناس في الواقع أحرارًا ويتم التوفيق بين جميع مفاهيم الحرية.
بهذا تؤكد الاشتراكية على الشروط الاقتصادية والاجتماعية للحرية وتعتبر أنها تتمثل في تحرر المجتمع من كل أشكال الاستغلال الطبقي، إلا أن ماركس لم يهمل ناحية أساسية للحرية بالنسبة للفرد، وهي تنمية طاقاته وقدراته الذاتية الخلاقة خارج العمل الاقتصادي، وهذه “الحرية الحقيقية” في نظره لا تتحقق ولا تنمو إلا بالتغيير الثوري للمجتمع ككل، واعتبر أن مملكة الحرية لا تبدأ في الواقع إلا حيثما ينتهي العمل الذي تفرضه الحاجة والضرورة الخارجية، لذا توجد بالطبع خارج دائرة الإنتاج المادي ذاته، وينبغي على الإنسان أن يدخل في صراع مع الطبيعة لإرضاء حاجاته وللمحافظة على حياته، وتجديد قواه الحيوية، وهذا الإلتزام يوجد في كل الأشكال الاجتماعية وكل نمازج الإنتاج أيًا كانت، وكلما تطور الإنسان إتسعت مملكة الضرورة الطبيعية طردًا مع نمو الحاجات ولكن في آن واحد تزداد قوى الإنتاج التي توفر تلك الحاجات، ومن هذه الوجهة تنحصر الحرية في أن ينظم الإنسان الاجتماعي والمنتجون المجتمعون بصفة عقلية عملية التكييف هذه التي تربطهم بالطبيعة وأن يخضعوها لرقابتهم المشتركة، عوض أن يستسلموا لها وكأنها قوة عمياء، وأن ينجزوا هذه العملية في نفس الوقت بأقل الجهود الممكنة وفي الظروف التي تكون أكثر تلاؤما مع كرامتهم وطبيعتهم الإنسانيتين، ولكن هذا الميدان يبقى دائما ميدان الضرورة، وفيما بعد، يبدأ ازدهار القوة الإنسانية التي تشكل غاية لذاتها، أي تبدأ المملكة الحقيقية للحرية، ولكن هذه المملكة لا تزدهر إلا استنادًا إلى مملكة الضرورة، ويظل التخفيض في أوقات العمل اليومي هو الشرط الأساسي لذلك.
وكما سبق أن أوضحنا فأن الليبرالية تقدس اقتصاد السوق، لإنه برأيها هو الاقتصاد “الطبيعي”، أي الناظم لنفسه بنفسه كآلة ذاتية الحركة، تقوم على تبادل المتساويات (السلعة بالسلعة، أو السلعة بالنقود، أو العمل بالسلعة، أو العمل بالنقود)، ويرى الفكر الليبرالي الكلاسيكي أن السوق موضوعي بطبيعته، أي غير شخصي، فهو يكافيء المنتجين، ويعاقب الكسالى والفاشلين، والسوق في نظرها لا يحتاج إلى تدخل الدولة الذي يربك سيره، وأنه بحاجة إلى جهاز حكم صغير وقليل التكاليف، كما أن اقتصاد السوق يفصل السلطة الاقتصادية عن السلطة السياسية ما يسمح عبر تمويل هذه الاخيرة بمحاسبتها واستبدالها.. إلا أن الماركسية جاءت على نقيض ذلك، فالسوق عندها ليس جنة التوازن بل جحيم المنافسة والأنانية والصراع، وأن تبادل المتساويات يصح على الجميع إلا على قوة العمل، وأن الليبرالية تخترق أساس وجودها الأخلاقي والقانوني القائم على تبادل المتساويات، وأن آليات السوق الذاتية لا تقود إلى التنظيم المتسق بل إلى الأزمات، وأخيرًا فإن قوة المال، أي سلطة الثروة تهيمن على المجال السياسي فلا حرية ولا ديمقراطية إذًاً، ورغم كل تلك الانتقادات، إلا أنه في الواقع هناك تشابكات موضوعية بين الفكر الاشتراكي والليبرالية، من ضمنها العداء للفكر الغيبي الظلامي، وينبع هذا العداء من جذور مشتركة لفكر الليبراليين واليساريين في فلسفة التنوير الأوروبية التي دعت إلى رفض أي سلطة على الفكر غير سلطة العقل، حيث نشأ اليسار الأوروبي في هذه البيئة التنويرية الغربية، وظل سائدا إتجاه أن ثمة علاقة بين الماركسية والليبرالية ووجود نبع مشترك لهما في (عصر الأنوار) الفرنسي بالقرن الثامن عشر، حتى جاء “جورج لوكاش” عام 1923م في كتابه “التاريخ والوعي الطبقي” برأي مغاير اعتبر فيه أن كارل ماركس قد قام بقطيعة نقدية، عبر الهيجلية، مع “المادية الفرنسية” التي أسماها “الشكل الأيدولوجي للثورة البرجوازية”، مشككًا بفهم إنجلز ولينين وبوخارين للماركسية أثناء محاولتهم تأسيس ما أسموه “المادية الديالكتيكية”، حيث لم يستعمل ماركس هذا المصطلح ولا مصطلح المادية التاريخية على أساس مادية عصر الأنوار الفرنسي، ومتهما إياهم بأنهم يريدون إعادة ماركس إلى ما قطعه مع مادية “ديدور” و “دوهلباخ” وغيرهم، والتي قامت على أسسها الفلسفة الوضعية التي جسدها فكر “أوغست كانت”، التي استمد منها “جون ستيوارت ميل” مؤسس الليبرالية أسسه الفلسفية لمذهبه الليبرالي في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وتشارك مع لوكاس في هذا الرأي كل من المفكر الألماني الماركسي “كارل كورش” ومؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي “أنطونيو غرامشي” وقد تعرض لوكاتش وكورش إلى هجوم شديد وصريح من قبل “بوخارين” و “زينوفييف” بسبب ذلك، حيث إتهم بالإرتداد نحو الهيجيلية القديمة، فيما نجد “غرامشي”، الذي ربط ماركس بالفلسفة وهيجل، يعبر عن تشكيك بإنجلز وعن رفضه لتصديق أن كل ما نسبه إنجلز لماركس صحيح كليًا ولا يحتاج إلى إعادة نظر، في رفض لمحاولة إنجليز تحويل الماركسية إلى “علم”، بدلا من “فلسفة ومنهج تحليلي”، وهو ما تشارك فيه، مع إنجلز كل من لينين وبوخارين، حتى تتوج ذلك مع ستالين في كتابه “المادية الجدلية والمادية التاريخية” الصادر عام 1938م، ويعتبر أصحاب هذه الرؤية أن هذا المنطق يفسر تحول جناحي الحزب الشيوعي السوفياتي إلى الاشتراكية الديمقراطية بزعامة جورباتشوف، والفكر الليبرالي بزعامة يلتسين، وايضا يفسر انتقال الكثير من الشيوعيين الستالينيين من البلدان الصناعية المتقدمة إلى الاشتراكية الديمقراطية بعد عام 1986م، وعلى انتقال العديد من نظرائهم في البلدان المتخلفة إلى الفكر الليبرالي، ويرجع الكثير هذا إلى الخيط الرفيع الذي يربط بين كارل ماركس وجون ستيوارت ميل.
يؤكد “لينين” إن الحرية التي لا تقوم على قاعدة مادية لا مستقبل لها، وذلك بقوله ” لا يمكن أن تقوم حرية واقعية فعلية في مجتمع قائم على سلطة النقود، وتعاني فيه الجماهير الكادحة من البؤس وتحيا فيه حفنة من الأغنياء حياة الكسل والطفيلية، إن الطبقة العاملة والجماهير الشعبية الواسعة لا يكسبون الحرية السياسية والاجتماعية إلا عندما يأخذون السلطة في أيديهم ويبنون مجتمعا جديدًا خاليًا من المستغِلين والظالمين، إن الإنسان لا يشعر بنفسه حرًا إلا إذا توفر لديه الأساس المادي لتحقيق أهدافه ومساعيه، لذلك كتب إنجلز يقول “الاشتراكية” هي قفزة من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية، فقط في ظروف الاشتراكية يتمكن الناس من وضع مجرى التطور الاجتماعي تحت إشرافهم، ومن التصرف بحرية بمصيرهم، وستتعاون جميع الظروف من أجل العمل الخلاق الحر، ومن أجل تطور جميع كفاءات الإنسان ومواهبه، وبهذا سيجري تخطي آخر حاجز في طريق البشرية إلى ملكوت الحرية حقًا.
وتبعًا لذلك تظهر مفاهيم أخرى متلازمة للاشتراكية ووثيقة الصلة بقضية “الحرية”، مثل التشيؤ والاغتراب، فالاشتراكية تعكس في نضال الطبقة العاملة توق جماهير الفقراء والكادحين للحرية الكاملة، أي التخلص والانعتاق نهائيًا من الاستغلال والاضطهاد والتشيؤ والاغتراب في ظل الأنظمة الرأسمالية والسابقة للرأسمالية، والاغتراب أو الانسلاخ، يعني انعزال الإنسان عن وجوده كذات بشرية فاعلة في الطبيعة، أي أن الإنسان لا يمارس فعاليته كقوة ذاتية فاعلة في التاريخ أو في سيرورة فهمه للعالم الذي يحيط به، وعندما يضع الإنسان كل قواه في شيء ويعول عليه ويتضرع له، فهو يتواصل بذلك مع ذاته فقط بدلًا من أن يمارس نفسه كقوة خلاقة، وقد تمظهر الاغتراب بداية في عبادة الأوثان (الأصنام) قديما، فالإنسان الذي يركع ويتوسل لشيء من صنع يديه قد وضع قواه فيه، يتحول بذلك ذات الإنسان إلى “شيء” متصل مع ذاته فقط وينقل إليه جميع خصائص ومميزات حياته كذات بشرية، ثم تفاقم الاغتراب نتيجة لظهور الطبقات، والتشكيلات الاقتصادية الاجتماعية سواء العبودية أو الإقطاعية أو الرأسمالية (التي جسدت الاغتراب في ذروته)، فاغتراب الإبداع البشري عن ذات الإنسان قد ينصب في عدة مواضيع تتبدل باستمرار، ولطالما أن الرأسمالية هي المنظومة التي تدير تطور أدوات الإنتاج، والتكنولوجيا جزء منها، ستضاعف الأدوات الحديثة وأنماط الإنتاج الحديثة اغتراب الإنسان، والمطلوب هنا ليس إيقاف تطور أنماط الإنتاج، وإنما نسف البنية الاقتصادية الرأسمالية الحاضنة لها، لذا كانت رؤية ماركس ومفهومه للاشتراكية هي في التحرر والانعتاق من الاغتراب، حيث كان ماركس معنيًا بتحرير الإنسان وإعادته إلى العالم محتفيًا بقدراته وطاقاته، وعودته بذلك لممارسة ذاته كقوة بشرية فاعلة، كما كانت صرخة الاحتجاج التي عبر عنها في أعماله ضد “اغتراب” الإنسان بمجمله (وقد تجلت في مخطوتات عام 1844م)، ولكنه كان أكثر تركيزًا على العمل والعامل والرأسمال في سياق نقده لمفهوم الاغتراب، حيث راى أن العامل ضمن نطاق عمله ومنهجية الرأسمالية في ملكية وسائل الإنتاج وتوظيف قوى العامل في إنتاج سلعة ما، لا يملك أدوات إنتاجها كما لا يملكها هذا العامل بالاساس، فهو يصبح مغتربًا بالنسبة لما صنعه هو، في حين تخدم عملية صناعة السلع ومراكمة الأرباح إلى رأس المال مستفيد واحد وهو الرأسمالي المالك لوسائل الإنتاج، ولتجاوز الانسان للاغتراب نحو الإنسان العامل الموجود بفاعلية في معادلة خلق التاريخ، يحتاج إلى الاشتراكية كصيغة ضامنة لتحقيق ذلك ضمن إطار المجتمع، فالملكية العامة لوسائل الإنتاج، وتحويل نمطية الإنتاج من أجل السوق، إلى الإنتاج من أجل الحاجات الأساسية للبشر، كفيل بتحرير طاقات الإنسان، وإعادته لإنسانيته، وعودته من اغترابه إلى العالم الموضوعي الحقيقي، كإنسان حر في ظل ملكيته لوسائل الإنتاج وعمله من أجل ذاته ومن أجل المجتمع، لذا ارتكزت الفلسفة الماركسية التي أسس لها كارل ماركس في القرن التاسع عشر على إعادة الاعتبار للإنسان والإنسانية، كما عكست في جوهرها ومضمونها أنها نقد للأطروحات السابقة التي حاولت تقديم الحلول للمشكلة الوجودية، كما أكد ماركس على ذلك في الملاحظات الإحدى عشر التي نشرها إنجلز بعد وفاته، “أطروحات حول فيورباخ” والتي صاغها عام 1845م، فكما جاء في الملاحظة الثالثة “إن إتفاق تبدل الظروف والنشاط الإنساني لا يمكن بحثه وفهمه فهما عقلانيًا إلا بوصفه عملًا ثوريًا”، وليس كما رأى “فيورباخ” في نظرته للإنسان أنه مجرد مفعول به في تلك المعادلة، يتلقى ما يُفرض عليه ولا يسعه إلا تشرب تلك المعطيات المفروضة وتأملها لا تغييرها، بمعنى أن الفجوة الطبقية التي تخلقها الرأسمالية، واتساع الاستقطاب كنتيجة لتضخم وتراكم رأس المال، إضافة إلى الفقر والاضطهاد الذي تولده أيضا لا يمكن تغييره، بل على الإنسان القبول به والخضوع له بحجة أنه عامل موضوعي منفصل عن الإنسان وخارج عن وعيه وإرادته الذاتية، وبذلك الصدد أيضا يرى ماركس أن الاستغلال والاغتراب في الرأسمالية (وليس الفقر ووعي الفقر فقط) هما عاملان أساسيان محركان للصراع الطبقي، مع الأخذ بعين الاعتبار الارتباط الوثيق لهذين العاملين بظاهرة الفقر كظاهرة اجتماعية تولدها الرأسمالية، لذلك كانت الغاية التي صب ماركس اهتمامه عليها، هي كيفية قضاء الفقراء بالثورة الاجتماعية المنبثقة من رحم الرأسمالية على الفقر كظاهرة، وما ينتج عنها من استغلال واغتراب، وبالتالي تحرير طاقات الإنسان والتحقيق التام لذاته وانعتاقه من هذه الظواهر المتجسدة في اغتراب الإنسان واستغلاله من قبل الآخرون والمجتمع والطبيعة، وبالتالي تحويله من كونه كائن مُغرب إلى إنسان حقيقي “حر” قادر على تطوير نفسه، إيمانًا بعظمته وقدرته على تحرير ذاته من سجن المجتمع وقواه الاجتماعية التي تقيده.
تناولت الماركسية قضيتي الحتمية والضرورة وعلاقتهما بالحرية، فعلى مر القرون دار الجدل بين من يسمون بالقدريين الذين يعتقدون بالقضاء والقدر، والإراديين أنصار المذهب الإرادي، فنسب “الإراديين” للإرادة البشرية الدور الحاسم في تطور العالم، دون الأخذ في الحسبان الظروف الموضوعية والقوانين الموضوعية والضرورة التاريخية، ويفهمون الحرية على إنها عدم تقييد الإرادة البشرية، وعلى النقيض هو رأي القدريين أو الحتميين، إنهم يؤمنون بالقدر الحتمي، وإيمانهم هذا يقوم على التصور بأن كل شيء في العالم قد تقرر سلفًا وأن الإنسان عاجز عن تغيير شيء، لذا اعتبرت الماركسية كلتا وجهتي النظر الإرادية والقدرية خاطئة، لإنهما تعتمدان وترتكزان على حل المسألة بطريقة ميتافيزقية، فتعترفان إما بالحرية وإما بالضرورة، إما أن كل شيء يتم بحكم النشاط البشري الحر وعندها لا يمكن أن توجد الضرورة، وإما الإيمان بالضرورة والحتمية وعندها لا يمكن للحرية أن توجد، في حين ترى الماركسية أن الحرية الحقيقية تكمن في معرفة القوانين الطبيعية والاجتماعية (الضرورة) والاستفادة منها، لقد عبر “لينين” عن هذه الفكرة بقوله “الضرورة عمياء طالما هي لم تُعرف، ولكن إذا عُرفت الضرورة، إذا عُرف القانون، وإذا أخضعنا فعله لمصالحنا، فإننا أسياد الطبيعة”، وقد كتب إنجلز في مؤلفه “ضد دوهرينغ” يقول “لا تكمن الحرية في الاستقلال الموهوم عن قوانين الطبيعة، وإنما في معرفة هذه القوانين وفي الإمكانية القائمة على هذه المعرفة لإرغام قوانين الطبيعة بصورة منهاجية على الفعل من أجل أهداف معينة”، وهذا القول يصح بالنسبة لظواهر الطبيعة والحياة الاجتماعية على السواء، فقبل ظهور الماركسية، لم تكن قوانين التطور الاجتماعي معروفة، وقد بقي الناس عبيدًا للضرورة التاريخية، أما الماركسية فقد كشفت عن هذه القوانين وعرفتها، ولقد كانت تلك أول خطوة لكي يصبح الكادحون المتسلحون بهذه القوانين، قوانين المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية صانعين، أحرارًا لمصيرهم، ولكي يبنوا حياتهم على نمط جديد طبقًا للضرورة التاريخية، والماركسية تؤكد بأن ضرورة الظواهر الطبيعية تختلف اختلافا جوهريًا عن ضرورة الظواهر الاجتماعية، إن الضرورة في التطور الاجتماعي تتحقق بصورة تختلف عن تناوب النهار والليل، فمثل هذه الظواهر الطبيعية تجري بدون اشتراك الإنسان، أما في المجتمع، فإن كل شيء ناتج عن عمل يدي الإنسان، عن نشاطه العملي الإنتاجي، فالضرورة الاجتماعية موضوعية بقدر ما هي علية الضرورة في الطبيعة، غير أن هنا فرقًا جوهريًا، ففي الطبيعة لا تفترض الضرورة نشاط الناس، أما في الحياة الاجتماعية، فإن نشاط الناس يدخل في عداد الظروف التي بدونها لا تتحقق الضرورة ولا تتجلى، وإذا لم يفعل الناس أو فعلوا بدون دأب ومثابرة في السعي إلى الهدف المنشود فإن هذا يعني أن جهودهم بالذات لا تكفي في الوقت المعني لبلوغ الهدف، ويتضح من ذلك ضرورة وعي الضرورة، أي معرفة قوانين التطور الاجتماعي وقوانين الطبيعة وامكانية استخدامها بصورة صحيحة لتحقيق غايات محددة واعتبار وعي الضرورة ماهية الحرية بل اعتبارها الشرط اللازم للإنسان للتأثير في تغيير أوضاعه السياسية والاجتماعية، كما يجب ربط الحرية بالارادة، أي القدرة على اتخاذ القرارات بعد معرفة الاسباب، وإدراك أن الحرية مفهوم مشروط بظروف الواقع، وأن مفهوم الحرية مرتبط بالوعي الثقافي العام ويتأسس على اللإرادة الحرة واستقلالية القرار، فالاغتراب كما سبق وإن قلنا أنه انعزال الإنسان عن واقعه وعن مجتمعه وعن عمله ككائن مغرب، وعودته عن ذلك الاغتراب تكمن في ضرورة التحقيق التام لذاته عبر الملكية العامة لوسائل الإنتاج والتي تنتج من أجل المجتمع.
أما بالنسبة للضرورة والحتمية، فالماركسية تهدف إلى التحرر من الحتمية، أي أن الماركسية تعترف بالضرورة ولا تعترف بالحتمية (الحتمية التي تأخذ منحنى قدريًا في التوصيف)، فالحتمية تهمش وتلغي الفعل البشري الخلاق بذلك، والفعل الثوري العامل في التاريخ تحديدًا، أما الضرورة فتكسب الفعل البشري معنى، حيث أن تدمير المنظومة الرأسمالية التي يقع في عمقها الاغتراب والاستغلال والاضطهاد، والتي تحتضن كافة المفاهيم المشوهة بداخلها، ومن ثم الانتقال عبرها إلى الاشتراكية يستلزم بالضرورة فعل بشري ثوري، ولكن ذلك الانتقال على الرغم من أهميته لتخطي الرأسمالية وحل تناقضاتها ليس أمرًا محتومًا، أي أن الحتمية تحتمل نتيجة واحدة غير قابلة للتأويل وذلك ينفي دور الفعل البشري الخلاق، أما الضرورة كمعنى فلسفي في جوهرها فلا توازي فعل القدر والمصير المحتم، فهي تحتمل نتيجتين، بمعنى أنها قد تتحقق أو لا تتحقق، ولذلك يكون دور الفعل الواعي المدرك للضرورة هو البوصلة الأساسية لأي فعل سياسي، ولأي حزب سياسي، ففي حال عدم تحقيق المجتمع للاشتراكية بنضاله المستمر ستنزلق به الرأسمالية كمنظومة عالمية متآكلة نحو الهمجية والهلاك و”الانتحار الكوني” والمزيد من العبودية والاغتراب، لذلك تكمن الضرورة من هذا المنطلق في الانتقال نحو الاشتراكية لتجذير آفاق الحرية الحقيقية، أي في تحطيم هذه المنظومة الرأسمالية وهدم أسسها والوقوف المبدئي أيضا في وجه الامبريالية والرأسمالية وعبثية فوضى السوق الوهمي بلا تخاذل وتهاون.
لم ينظر ماركس إلى الدولة على اعتبار أنها ظاهرة حتمية أو سرمدية بقدر ما هي حدث تاريخي عارض جاء نتيجة لانقسام الجماعة إلى طبقات متسارعة، واحتكار البعض منها ملكية أدوات الانتاج، والتي استطاعت بواسطتها استغلال سائر طبقات المجتمع وتسخيرها لخدمتها، لذلك يصف ماركس الدولة البرجوازية بأنها ظاهرة طفيلية تمتص دماء المجتمع وتعوق حركته ويكون الحكام فيها بمثابة سلطة مستقلة عن الشعب ومُسخرة لخدمة طبقة على حساب مصالح الطبقات الاخرى، لذا فإن الدولة عند ماركس لا تعدو أن تكون ظاهرة ثانوية تمثل الطبقات وسيطرة إحداها على المجتمع الذي تحكمه هذه الدولة، وعلى ذلك فإن ظهور الدولة ووجودها مرتبط بظاهرة الصراع الطبقي لما تمثله من سيطرة إحدى الطبقات في المجتمع مستمدة قوتها مما تملكه من ادوات الإنتاج، وسيطرتها الاقتصادية، كما يرى ماركس يتبعها سيطرة حتمية على الجانب السياسي على أساس أن الأخيرة ليست إلا انعكاسًا للأولى، وأن التنظيمات السياسية السائدة ستكون حتمًا تعبيرًا صادقًا عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية السائدة في المجتمع، ومن هنا يقول ماركس “إن أبحاثي قد أكدت على الاعتقاد بأن العلاقات القانونية وأشكال الدولة نفسها لا يمكن تفسير نفسها، ولا يمكن أن يفسرها التطور المذعوم للنفس البشرية، فهذه العلاقات والأشكال إنما تؤخذ بذورها من ظروف الوجود المادي، وبالتالي فإن الحقوق والحريات التي لا تضمنها الظروف الاقتصادية هي حقوق وحريات شكلية فقط”، لأن الدولة البرجوازية رغم رغبتها في الظهور في ثوب ديمقراطي، فهي ليست سوى جهاز لإخضاع الكادحين وغرضها الحقيقي هو حماية الملكية الخاصة ومصالح الطبقة الحاكمة الرأسمالية والإبقاء على عبودية الأجراء وسحق حركة البروليتاريا.
وطبقا للفكر الماركسي فإن حقوق الإنسان لن تتحقق ولا يمكن كفالتها إلا عن طريق إقامة نظام اقتصادي اجتماعي يضمن المساواة، التي هي أساس الحرية الحقيقية، فالحقوق والحريات يعجز الكادحون بطبيعة الحال عن ممارستها، فهي حقوق وحريات وهمية وشكلية، ولا تعدو أن تكون إمكانيات قانونية لا يستطيع ممارستها إلا لمن تتوافر لهم الوسائل المادية، فنجد ماركس يصف الحقوق والحريات التي جاءت في إعلان حقوق الإنسان والمواطن والثورة الفرنسية لعام 1789م بأنها في الواقع ما هي سوى حقوق وحريات شكلية وصورية مادام لا يوجد للأفراد نفس الوضعية الاجتماعية والاقتصادية، وأنها ليست إلا أقنعة لدكتاتورية الطبقة البرجوازية، على الرغم مما ترفعه من شعارات الحرية والمساواة، وما تأخذ به من أشكال مختلفة للحياة النيابية، ففي ظل المجتمع الليبرالي لا يوجد هناك مبدأ قانون التكافؤ في خلق فرص العمل، وتوزيع الثروات بين الأفراد، ويطرح ماركس حوله تساؤلات كثيرة مثل، ما الحاجة للحرية لمن يوجد في علاقة تبعية لرب العمل؟ وما جدوى الحق في الملكية لمن لا يملك شيئا؟ وما الحاجة إلى الحق في ضمان الأمن بالنسبة لمن يكون جائعًا أو مشردًا أو متسولًا؟، وما جدوى الحق في الوظيفة والسكن لمن لا يملك أيًا منهما؟، وبالتاي فإن كل حرية خارج النظام الاشتراكي هي حرية خيالية غير واقعية إلا لطبقة معينة، أو على أحسن الفروض حريات قانونية لا يستطيع ممارستها إلا الرأسماليون، إن أساس السلطة هو ملكية طبقة خاصة لوسائل الإنتاج، وهذه الملكية هي التي تمكنها من استثمار الطبقة الكادحة، التي لا تملك إلا قدرتها على العمل، ولهذا فلا غنى للوصول إلى الديمقراطية الحقيقية بهدم اسس الاضطهاد “استغلال الإنسان لأخيه الإنسان” بإلغاء التملك الفردي لوسائل الإنتاج وإقامة نظام اشتراكي.
نظرت الماركسية الي قضية تحرير المرأة في ارتباط وثيق مع تحرير المجتمع من كل أشكال الاضطهاد الطبقي والقومي والاثني والديني، فقد أشار ماركس في مؤلفات متفرقة الي قضية المرأة، موضحًا أن تطور المجتمع يقاس بتقدم المرأة، وأن خروج المرأة للعمل مع الرجل، لابد أن يصبح بالضرورة مصدرًا للتقدم الانساني، ويخلق أساسًا اقتصاديًا جديدًا لشكل أعلي من الأسرة وللعلاقات بين الجنسين، لأن مكان العمل يفتح أمام النساء أوسع الفرص للنضال والتنظيم، وأن النضال ضد اضطهاد المرأة مهمة الرجال والنساء معًا، وليس مهمة النساء وحدهن، لأن تحسين أحوال العاملات تفيد المجتمع وكل العاملين مثل رياض الاطفال، والمساواة في الأجر، والإجازة مدفوعة الأجر في حالة الولادة، والحضانات المجانية.. الخ، وكان من رأي ماركس وانجلز أن تحرير المرأة يتطلب ليس فقط دخولها الي مجال الانتاج الاجتماعي، إنما كذلك إحالة الخدمات من أمثال العناية بالاطفال والمسنين والعجزة إلي المجتمع، كما يمثل إزالة الفوارق الطبقية وتقسيم العمل بين الجنسين شرطا مسبقا لبلوغ النساء المساواة التامة، كما بين إنجلز في أول بحث رائد في الماركسية حول قضية المرأة في مؤلفه ( اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة)، والذي نشر لأول مرة عام 1884م، والذي استند فيه علي بحث عالم الاجتماع الأمريكي الشهير “مورغان” الذي عاش لفترة عشرين عامًا وسط القبائل البدائية للهنود الحمر، حيث انطلق إنجلز من الفهم المادي للتاريخ الذي يقول أن التحول في أسلوب الإنتاج يؤثر علي الوجود الإنساني بأسره، بما في ذلك شكل العلاقات بين الرجال والنساء، ولايمكن الفصل بين الإنتاج وتجديد النوع البشري في تطور المجتمع، وكانت أهم استنتاجات إنجلز تتلخص في أن النظرة إلي دونية المرأة هي نتاج تطور تاريخي اجتماعي، لاتتعلق بالفروق البيولوجية بين المرأة والرجل، وأن المجتمعات البدائية شهدت المساواة بين المرأة والرجل، وكانت العلاقات الجنسية تقوم علي الاختيار الحر من الطرفين، كما شهدت تلك المجتمعات حق الأم، حيث كان الابناء ينسبون الي الأم، وبين أنه مع ظهور المجتمعات الزراعية والرعوية والفروق الطبقية والدولة، وتركز الثروة في يد الرجال ( ملكية الأراضي الزراعية وقطعان الماشية)، بدأت تظهر عدم المساواة بين المرأة والرجل، وأصبحت الوراثة من جهة الأب لاستمرار سيطرة الرجل، كما أشار إنجلز إلي أن الإطاحة بحق الأم كان الهزيمة التاريخية العالمية لجنس النساء، ومن هنا بدأت سيطرة الرجل وهيمنته في المجتمع، وتراجع دور المرأة الي المنزل، وهذه الهزيمة ارتبطت بانقسام المجتمع إلي طبقات مستغِلة ومستغَلة، وبالتالي يستحيل فصل النساء عن تحرير المجتمع ككل من الاضطهاد الطبقي وكل أشكال القمع والاضطهاد الأخرى، وقد ساهمت تلك الأبحاث القيمة في البحث عن الجذور الحقيقية لاضطهاد المرأة والتي شكلت سلاحا هاما في الحركة النسوية في نضالها من أجل التحرر، كما رأى ماركس أنه من الخطأ النظر إلي تحرر المرأة في مستوي العلاقات الاقتصادية والإنتاجية فقط، ولكن للمسألة شقها الثقافي الذي يتعلق بالبنية الفوقية للمجتمع، فبمجرد تحرير المجتمع كله من الاضطهاد الطبقي ومساواة المرأة مع الرجل في الأجر وبقية الحقوق، لايعني ذلك أن قضية المرأة قد تم حلها، ذلك أن لقضية المرأة شقها الثقافي والذي يتعلق بالصراع ضد الايديولوجية التي تكرس اضطهاد المرأة ودونيتها، والتي هي نتاج قرون طويلة من قمع واضطهاد المرأة، وبالتالي لابد من مواصلة الصراع في الجبهة الثقافية أو البنية الفوقية للمجتمع، ضد الأفكار والمعتقدات التي تكرس دونية المرأة والتي كرستها مجتمعات الرق والإقطاع وحتي الرأسمالية التي تعيد إنتاج عدم المساواة في توزيع الثروة وبين البلدان المتخلفة والرأسمالية، وتعيد إنتاج عدم المساواة بين المرأة والرجل، اضافة للقهر الطبقي والثقافي والاثني والجنسي، فلا يكفي فقط التحرر الاقتصادي وزوال المجتمع الطبقي، بل لابد من خوض صراع فكري وثقافي طويل النفس ضد البنية العلوية التي تكرس اضطهاد ودونية المرأة.
وقد أسهم انتشار حق وتقرير الاقتراع العام في الربط بين الحرية السياسية والحرية المدنية، وأدى إلى قيام أغلبية شعبية تنادي بتدخل الدولة للقضاء على مساويء المذهب الفردي ومفهوم الدولة الليبرالية وسوء توزيع الدخول، وبعبارة أخرى فإن التمثيل السياسي عندما يقترن بالاقتراع العام يطرح بالضرورة على بساط البحث المشكلة الاجتماعية، فما قيمة حق الاقتراع في نظر الجماهير إن لم يكن من شأنه تمكينها من تغيير العلاقات الاجتماعية، وإن لم يكن أداة تستخدمها لوضع يدها على مقاليد السلطة السياسية لتعديل البنيان الاقتصادي وإعادة توزيع الدخول واحلال دولة الرفاة محل الدولة الحامية، وكان للأفكار الماركسية دورها في ظهور الحقوق الجديدة، من اقتصادية واجتماعية هدفها توفير الظروف المادية اللازمة لتمكين المواطنين من ممارسة الحريات العامة المعترف بها على نحو فعال، ومن ذلك الحق في العمل وضمان حد أدنى من الدخل اللازم لتأمين المعيشة على نحو مناسب، وحق الحصول على سكن ملائم، وحق الاستفادة من نظام التأمين الاجتماعي ليحمي الطبقات الكادحة من طواريء الحياة والأمراض والحوادث والشيخوخة ورعاية الطفولة، إلى جانب هذه التدابير ظهر إتجاه يهدف إلى اضعاف أثر تسلط رأس المال عن طريق الحيلولة دون قيام المشاريع الكبرى، باستغلال قوتها الاقتصادية وتحديد أسعار احتكارية لمنتجاتها أو التسلط على الجهاز السياسي.
رأى ماركس أن الديمقراطية الليبرالية كانت ثورة في عهدها إذا ما قورنت بالنظام الإقطاعي السابق عليها، إلا أنه يرى أن المفهوم البرجوازي للديمقراطية قد تخلف عن ملاحقة التطور، إذ وقف عند مجرد التعبير عن حاجات النمو الاقتصادي الرأسمالي وحماية مصالح الطبقة البرجوازية، وأصبح العمال حسب رأي ماركس العضو الوهمي لسيادة وهمية ومجردًا من حياته الواقعية الملموسة، ولما كان من المستحيل وفقًا للفكر الماركسي إقامة الحريات في ظل هذه المجتمعات الصورية التي تحوز فيها الطبقة مقدرات القوة في المجتمع وتستبعد الأخرى، فإن المجتمع الاشتراكي وحده هو القادر على تحقيق الحرية، وبذلك جرت الماركسية على وصف الديمقراطية الغربية بديمقراطية تقليدية تعترف بالمعارضة والرأي الآخر، ولكن هذا الاعتراف ما هو إلا دليل حي على الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي الذي لا ينتهي إلا بانتصار الطبقة الكادحة وسيطرتها على كل وسائل الإنتاج لضمان إلغاء التفرقة بين الطبقة التي تملك والتي لا تملك، ومن هنا سعى ماركس إلى إجراء المصالحة بين الفئات العاملة وبين المجتمع الذي يحيا فيه وذلك على قاعدة مستحدثة ترفض المفهوم الليبرالي للديمقراطية وتعتنق مفهوما جديدًا رآه ماركس أنه أكثر فاعلية في توفير الحرية التي ينشدها الافراد في محيط المجتمع الصناعي الأوروبي، وهو مفهوم “الديمقراطية الاجتماعية” باعتبارة صلب المذهب الماركسي الاشتراكي.
وبعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت الأنظمة الماركسية في دول أوروبا وأطلقت على نفسها تعبير “الديمقراطيات الشعبية” واضعة نصب عينيها تحرر الفرد من الحاجات المادية لا سيما الضرورية كالملبس والسكن والمأكل، وأنه إذا حدث ذلك فهذه هي الديمقراطية بعينها وليس الديمقراطية الجوفاء ديمقراطية البرجوازية، وعلى هذا فهذه الديمقراطية تهتم بالجانب الاقتصادي باعتباره الأساس الذي تبنى عليه أية حريات بعد ذلك، ولكنها وهي في سبيل ذلك وقعت في خطأ جسيم، حيث لم تهتم بالشكل السياسي للديمقراطية، ففي سبيل تحقيق الجانب الاقتصادي أُهدر الجانب السياسي، من أجل بناء كيان اقتصادي يتحرر فيه الفرد من كل مطالبه المادية”، وفي عام 1956م حدثت تغيرات هائلة في الفكر الخاص بالمرحلة المؤقتة بين الرأسمالية والشيوعية إذ قرر المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفيتي إمكانية الوصول إلى الاشتراكية بالطرق السلمية وأوضح “خروشوف” في تقريره للمؤتمر أن لجوء البروليتاريا إلى العنف يتوقف على مدى مقاومة البرجوازية واستخدامها للقوة وأن اختلاف أسلوب ومرحلة الانتقال يجعل من الممكن الوصول إلى الاشتراكية عن طريق البرلمان إذا استطاعت أن تكتل حولها الفلاحين والمثقفين وكل القوى الوطنية للوقوف ضد القوى الرجعية وأن تظهر بأغلبية برلمانية وبذلك يتحول المجلس إلى “كوتة” تعبر تعبيرًا حقيقيًا عن القوى الشعبية ومن ثم يمكن من خلالها تحقيق تغييرات اجتماعية جذرية، وهكذا عن طريق البرلمان يمكن التحول تدريجيًا من ديمقراطية برجوازية إلى ديمقراطية اشتراكية، وفي المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي أعلن تحويل الدولة السوفيتية تحت قيادة الطبقة العاملة من ديكتاتورية البروليتاريا إلى دولة الشعب بأسره، لا تعبر عن ديكتاتورية أية طبقة ولكنها أداة للمجتمع والشعب كله، لم يعد يشهد طبقات متهددة وإنما أصبح الشعب كله طبقة واحدة هي الطبقة العمالية التي تتكون من الفلاحين وعمال المصانع وموظفي الدولة، لقد ذابت الفروق بين الطبقات وانصهرت كلها لتصبح طبقة واحدة، أما عن الفكر الصيني، فقد صاغ “ماو سي تونج” نظريته التي أسماها “الديمقراطية الجديدة” كي تعبر عن المرحلة الانتقالية من الرأسمالية إلى الشيوعية، والديمقراطية الجديدة تعني الديمقراطية للشعب والديكتاتورية لأعداء الشعب، أي حرمان أعداء الثورة من كافة الحقوق السياسية، كما أسقط الحزب الشيوعي الفرنسي من استراتيجيته وتفكيره “ديكتاتورية البروليتاريا” والوصول إلى السلطة عن طريق العنف، وإنما اعتمد الطريق السلمي للوصول إلى السلطة وهو طريق الانتخابات، أي اعتمد الوسائل البرجوازية كطريق للوصول إلى سدة السلطة، ويعزي هذا بطبيعة الحال إلى تغير الظروف والمعطيات المحلية والإقليمية والدولية حول الحزب الشيوعي الفرنسي، منه ذلك المستوى الاقتصادي المتقدم الذي حققته البرجوازية في المجتمع الفرنسي، واكتساب العمال حقوقا وضمانات اقتصادية تحررهم من الخوف والعوز، وفي نفس الوقت يتمتع المواطن بحريات سياسية فعالة، كذلك نهج “نولياتي” زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي نفس النهج، عندما قرر قبل وفاته “أن اشتراكية الشيوعيين في السلطة في البلاد الرأسمالية الأوروبية يتيح تحويلًا ديمقراطيًا من الداخل لطبيعة الدول البرجوازية وأن امكانية التقدم نحو الاشتراكية عبر الطريق السلمي ترتبط بفهم وحل هذه المسال، إلا أن التطور الأعظم في مجال الديمقراطية باعتبارها الوسيلة العصرية لتحقيق الحرية، هو ما حدث في تعاظم مكانة ودور الفكر “الاشتراكي الديمقراطي”، وهو موضوع مقالنا القادم.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك