ألقينا الضوء سابقًا على “بريق شعار الحرية” إبان الثورة المصرية (25–30) في مقالة منفصلة، ثم تطرقنا إلى تطور مفهوم الحرية في خمس عشرة مقالة منفصلة عن ولادة مصطلح الحرية، وتطور مفهوم الحرية خلال الحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية، والمفهوم الإيماني المسيحي للحرية، وعصور الظلام الأوروبية، والحضارة الإسلامية، والحضارة المصرية القديمة، والعصور الوسطى المصرية، وعصر النهضة الأوروبية، وعصر التنوير الأوروبي، والليبرالية الكلاسيكية، والليبرالية الاجتماعية، والليبرالية الجديدة، وحقوق الإنسان، والاشتراكية والحرية، ومقالتي هذه عن مفهوم “الاشتراكية الديمقراطية” للحرية.
نشأت الاشتراكية الديمقراطية عام 1889م وأُطلق عليها لفظ الأممية الثانية، وأرجع بعضهم نشاتها إلى عام 1848م، وهو تاريخ الثورات الأوروبية التي تأثرت بالثورة الفرنسية، التي أسقطت الملكية وأعلنت الجمهورية وألغت العبودية، لقد اتخذت الاشتراكية الديمقراطية تسميات مختلفة فقد أُطلق عليها في المانيا “الاشتراكية الديمقراطية”، وفي بريطانيا “الاشتراكية الفابية” وفي فرنسا استخدم لفظ “الاشتراكية”، وكذا نجد في بريطانيا العديد من المنظمات العمالية تقوم بالدعوة إلى الديمقراطية السياسية, إلى جانب إلتزاماتها الاشتراكية, كحركة “التشارتيين” الذين أثمر نضالهم بحق الاقتراع العام ونيل الطبقة العاملة حقوقها السياسية في القرن التاسع عشر، كما أُسس حزب العمال البريطاني المستقل, الذي كان من أبرز الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا إبان الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني المستقل وحزب العمال النمساوي الديمقراطي الاشتراكي, وفي عام 1921م تكونت منظمة عرفت بالأممية الثانية والنصف, التي كانت بدورها متأثرة بتيار فكري ماركسي يبحث عن طريق ديمقراطي إلى الاشتراكية يدعى “الماركسية النمساوية”، رفضت الأممية الثانية والنصف الإصلاحية والشيوعية البلشفية في آن واحد وانتقدت كلًا من أحزاب الديمقراطية الاشتراكية والأممية الثالثة (الكومنترن), وإتهمتهم بالدوغمائية لعدم مراعاتهم الظروف المختلفة لكل بلد، كما جسدت الشيوعية المجالسية جنوحًا نحو الاشتراكية الديمقراطية في نبذها لدور الحزب الطليعي، وفي بلدان العالم الثالث تركزت الجهود من أجل تعزيز طريق وسط بين أحزاب الدولية الثالثة، أي الاشتراكية السوفيتية وشقيقاتها والأحزاب الرأسمالية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. وقد أصبحت الاشتراكية الديمقراطية تحظى بأهتمام عالمي متزايد بعد الإنجازات التي حققتها في بلدان أوروبا الغربية والبلدان الإسكندنافية، وكذلك في بلدان أمريكا الجنوبية حيث تخيم أفكار اليسار بصورة عامة على القسم الأعظم من القارة.
تتشابه “الاشتراكية الديمقراطية” إلى حد كبير مع “الليبرالية الاجتماعية”، إلا أن الليبرالية الاجتماعية كانت تطورًا موضوعيًا عن الفكر الليبرالي الكلاسيكي، بعد تفاقم أزمات الرأسمالية في مراحلها الاحتكارات كما بينا سابقاً في مقالتنا (الليبرالية الاجتماعية)، بينما تعتبر الاشتراكية الديمقراطية تطورًا عن الفكر الاشتراكي العلمي، ويعتبر الاشتراكيون الديمقراطيون أن الحرية ليست مبدأً وقفًا على الليبرالية التي تعتبر الحرية الفردية أسمى مبادئها وأعلاها، وإن الفرق بين الحرية في المفهوم الإشتراكي الديمقراطي وفي الليبرالية هو إنها في الليبرالية تعني إلى حد كبير أن تتاح للفرد الحرية بشكل مطلق وغير مقيد للوصول إلى غاياته لكن على حسابه الخاص وحسب مخاطرته ومجازفته هو، وهو وحده من يتحمل مسؤولية فشله أو يستفيد من نتائج نجاحه، بينما في المفهوم الاشتراكي الديمقراطي فالحرية هي جزء من العلاقات الاجتماعية المسؤولة والمؤدية إلى ضمان مصلحة الفرد دون التقاطع مع مصالح المجموع أو الإضرار بها، أو المساس بحرية الآخرين من قبيل استغلالهم واستغلال جهودهم، لذا فهي ليست حرية فردية بمعناها الضيق والأناني بل هي حرية مبدعة وخلاقة ومسئولة، حيث تؤمن الاشتراكية الديمقراطية بأساسيات الفكر الاشتراكي في العدالة الاجتماعية والحرية الاجتماعية التي يتمع بها كافة المواطنين والمرتبطة بتوفير الاحتياجات الاساسية والمشاركة التامة في السلطة، وحرية الفكر والعقيدة، واحترام حقوق الإنسان بمفهومها الشامل التقدمي، واستعادة المرأة لحقوقها وكرامتها ومكانتها التي سلبت منها تاريخيًا نتيجة للاستغلال المتعدد الجوانب، وفي التطلع للتغيير الجذري للواقع المعاش وآفاقه المستقبلية، فالاشتراكية الديمقراطية في معالجاتها لمشاكل وحاجات الواقع الراهن وكحركة سياسية على قدر عال من التنظيم تضع برامجها وسياساتها منطلقة أساسًا من الحاجات المباشرة للمجتمع آخذة بالاعتبار الواقع المعاش بكل حذافيره وحيثياته الدقيقة وخصوصياته وتواجهها بمسؤولية وجدية عالية، ولكنها تؤمن باستخدام أساليب العصر الحضارية لتحقيق تلك الحرية ومن ضمنها “الديمقراطية” باعتبارها مكتسب إنساني، حصل عليه البشر بنضالاتهم وتضحياتهم ودمائهم، وأصبحت إرثًا إنسانيًا يخص كل البشر ولا يخص مجتمع معين أو طبقة معينة، لذا يجب تطوير الديمقراطية باستمرار، وتوسيع نطاقها لتشمل كل البشر، وتطوير قيمها لتصبح أكثر إنسانية وتحقيقًا لكرامة الإنسان، وانتشال البشرية من التشيء والاغتراب، باستعادة الإنسان لإنسانيته، والعمل لوصول الأحزاب والتيارات السياسية المعبرة عن الطبقات الكادحة إلى السلطة بالطريق الديمقراطي السلمي، وتثبيت مبدأ التداول السلمي للسلطة، واستخدام كافة الوسائل السلمية لتحقيق ذلك مثل الاعتراض والوقفات الإحتجاجية والمظاهرات والإضرابات وصولا إلى العصيان المدني السلمي، لذا رفضت الاشتراكية الديمقراطية كل الممارسات الاستبدادية وفي مقدمتها فكر الاحزاب الاشتراكية الراديكالية (الستالينية)، رغم ما قدمته من توفير الاحتياجات الأساسية لشعوبها وقضائها على الاستغلال بشكل كبير، على أساس أنه لا مستقبل لأي أنظمة استبدادية مها قدمت من خبز ورفاهية اقتصادية، وخاصة بعد أن أصبحت الحرية من الاحتياجات الأساسية للشعوب، وأيضًا لأن الماركسية في وجهة نظر الاشتراكيين الديمقراطيين ليست “علمًا”، بل هي “فلسفة” عظيمة و “منهج تحليلي” رائع، ولكنها ليست مقدسة بأي حال من الأحوال، والرفض التام لدكتاتورية أي طبقة سواء المالكة أو البرليتاريا وهو المبدأ الذي يتمسك به الاشتراكيون الراديكاليون.
لذا يرى الاشتراكيون الديمقراطيون إن مجتمعًا لا يملك سلطة مسؤولة عن أمنه وسلامته يحدد هو بنفسه قوانينها وأعرافها ومن ثم يسير وفق هذه القوانين ويتبع هذه الأعراف سوف يتعرض فورًا لكافة نتائج الفوضى وأجواء الغاب بشكل مأساوى ومباشر، لكن لكي تكون هذه الطاعة حقيقية وعن قناعة وطاعة مبدعة مسؤولة فإنه على هذه السلطة أن تحظى بقبول هذا المجتمع، ولكي تحظى هذه السلطة بقبول المجتمع عليها أن تأتي وفق إرادته وحسب حاجاته هو، ولا طريق لمثل هذه السلطة إلا طريق الإنتخابات الحرة المباشرة والنزيهة والحصول على أغلبية أصوات الناخبين، فقط سلطة مثل هذه سوف تتمتع بالدعم والطاعة في آن واحد، وفقط في النظام الديمقراطي تتعرض السلطة للمراقبة والمساءلة والتغيير (تداول السلطة)، وسلطة مثل هذه هي وحدها التي ستكون سلطة القانون والحفاظ عليه وعلى عدم المساس بحقوق الإنسان وحقوق الأقليات المذهبية والإثنية وغيرها، لذلك فإن الإشتراكية الديمقراطية منذ بداياتها رفضت بشكل قاطع مفاهيم العنف والثورة وديكتاتورية طبقة معينة، وفي هذه النقطة بالذات وفي غيرها أيضا يكمن الخلاف بين التناول الاشتراكي الراديكالي “لمفهوم السلطة” والتناول الإشتراكي الديمقراطي لها، إلا أن الاشتراكية الديمقراطية تستجيب في اختيارها أساليب الكفاح الى معطيات الظروف الموضوعية التي تكاد تكون عاملا أكثر فاعلية في اختيار الأسلوب الأنجع في اللحظة والمكان المعينين، فالأشتراكية الاوربية قامت بعملية العبور الضروري نحو الديمقراطية بعد أن عرفت ثورات ثقافية، وفكرية كثرت فيها النماذج، والمضامين، والأجندات المتباينة في كل مكان، وكان أمامها عمل كبير لإعادة النظر في تنظيراتها التقليدية والانتقال إلى مرحلة تصبح فيها الديمقراطية هي القيمة الكبرى التي لاغنى عنها لتحقيق الاشتراكية.
يرى الاشتراكييون الديمقراطييون بأن الانتقال إلى الاشتراكية سيكون إما عبر ثورة شعبية من الأسفل, أو عن طريق انتخابات ديمقراطية نزيهة، ويؤمن الاشتراكيون بالإدارة الجماعية للإقتصاد, التي يشارك بها كافة المواطنين ديمقراطيًا, والتي تقوم على الإدارة الذاتية للعمال، كما ترفض الاشتراكية الديمقراطية كافة أشكال التنظيم المركزية التي تلجأ إليها الأحزاب الشيوعية اللينينة, كالمركزية الديمقراطية، وترفض كذلك التخطيط المركزي البيروقراطي (النموذج السوفيتي) كأساس لأي نظام اقتصادي ما بعد رأسمالي, وتدعو إلى احلال التخطيط الديمقراطي اللامركزي محل السوق الرأسمالية، بينما يفضل بعض الاشتراكيين الديمقراطيين نموذج اشتراكية السوق، وبذلك يتضح لنا أن الاشتراكية الديمقراطية هي نهج فكري عالمي يعتمد على أساسين، يتمثل الأساس الأول في السعي إلى تحرير الإنسان عبر ضمان حريته، وبناء نظام ديمقراطي تعددي يضمن المشاركة والتداول السلمي للسلطة ويرفض أي شكل من أشكال الاستئثار من جانب سلطة الفرد والطبقة أو الحزب الواحد، وبناء نظام برلماني يحتكم إلى الدستور ويفصل بين السلطات الثلاثة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) ويبني الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنين والمؤسسات وسيادة القانون, والأساس الثاني يتمثل في السعي الى تحرير الانسان اجتماعياً واقتصادياً وإقامة التوازن بين حاجات الإنسان المادية والروحية، وإقامة التوازن بين مصلحة الإنسان (الفرد) ومصلحة المجتمع، وإقامة مجتمع تسوده روح العدالة والمساواة، وعلى هذا فإن الاشتراكية الديمقراطية تزاوج بين الاشتراكية من جهة والديمقراطية من جهة أخرى، وترفض العنف ودكتاتورية الطبقة، وتنادي بالتطور السلمي والتدريجي.
إن نضال الاشتراكيين الديمقراطيين يستند إلى جملة من المعطيات يمكن تلخيصها كالتالي، أولاً أن أوروبا المتطورة وصلت إلى نظامها الديمقراطي بشكل متدرج مع النمو المتزايد للوعي السياسي والاجتماعي والذي يملك القدرة على خلق أو صنع رأي عام جمعي يطالب بالحاح قد يصل إلى حد الثورة بحقوقه السياسية والاجتماعية كما حصل في الثورة الفرنسية عام 1789م وثورة عام 1848م وغيرها، وثانيًا أن الاشتراكيين الديمقراطيين يؤمنون بتعدد المراكز لهذه الحركة، أي تجاوز فكرة القطب الواحد أو الوطن الأم ذات الطابع الديمقراطي الاشتراكي وهذه المراكز تستند إلى خصوصية كل مجتمع وما يتضمنه من قيم اجتماعية وسياسية ودرجة تطور بناهُ التحية سواء منها المادية أو الفكرية أو الروحية، وثالثًا أن هذه الاشتراكية الديمقراطية تستند الى مبدأ الأصالة والمعاصرة فهي تتمسك بالقيم الإنسانية التي تتبناها الديمقراطيات العالمية والتي تنسجم مع تطلعاتها وتراثها الحضاري والقيمي، ورابعًا أن الاشتراكية الديمقراطية تؤكد وتؤمن بالحفاظ على مكتسبات الجماهير خصوصاً في الدول التي يمتاز فيها القطاع العام باتساعه، هذه المكتسبات حققتها الجماهير عبر سنوات من النضال الشاق والطويل فهي تعارض كل اتجاه نحو خصخصة المرافق العامة التي لها مس برفاهية الجماهير الكادحة وتؤمن بوجود قطاع عام قوي .
يرى بعض المفكرين والمؤرخين أن الإشتراكية الديمقراطية فكر إصلاحي، ويرى البعض الآخر أنه فكر ثوري في الأساس مشيرين إلى التجارب الثورية الكبرى في تاريخ وتراث الاشتراكيين الديمقراطيين خاصة الروس والألمان محاولين التأكيد على الجانب الثوري للحركة، بينما يذهب البعض إلى أن الفكر الاشتراكي الديمقراطي هو فكر ثوري اصلاحي في آن واحد، فهو ثوري في قناعاته ورؤياه وتطلعاته ونضالاته نحو مستقبل يختلف (جذريًا) عن واقعه الحالي، لكنه إصلاحي في تطبيقاته اليومية وفي تفاصيل عمله الدؤوب مع دقائق الأمور التي لايجوز تفجيرها ليس تجنبًا للخسائر فقط إنما لأن التعسف هو تدخل فظ في عملية التطور يضرها ضررًا شديدًا ويحول دون مواصلتها ويؤدي الى انتكاستها مباشرة، في حين أن التأثير الواعي الصبور الدؤوب على الظاهرة وتفاصيلها وأجزائها الدقيقة يؤدي إلى تطورها بشكل علمي وثابت ودائم، كما أن التأثير على هذه الظاهرة وعلى تفاصيلها يتطلب بشكل حتمي معرفة دقيقة وشاملة بالظاهرة وأجزائها ودقائقها وبقوانين تطورها، في حين أن القفز على كل ذلك ينم عن جهل بالظاهرة وأجزائها واستهتار بقوانين تطورها، لذلك فإن الاشتراكية الديمقراطية تتبع سياسة التطور العميق والشامل والتدريجي والهادئ الذي يضمن تراكم المراحل تراكمًا هادئًا ليحولها نوعًا جديدًا، وإن الجمع بين الثورية والاصلاحية هو مصدر غنى للمناضل الاشتراكي الديمقراطي تقوم اساسًا على استخلاص تجارب المناضلين الكبار السابقين، وتعتمد على قناعة بضرورة إجراء التغييرات الجذرية بأقل قدر ممكن من الخسائر، كما إن النضال الاشتراكي الديمقراطي باعتباره نضالًا ثوريًا واصلاحيًا في آن واحد يضع في احتياطاته كافة الأوراق التي استلهمها من خبرة الحركة الغنية ومن تجربة اليسار الديمقراطي العالمي ومن الحاجات والإمكانيات التي تتيحها الظروف الملموسة المعاشة، وأن أهم مصادر خبرات التراث الاشتراكي الديمقراطي هو تراث وطنه وشعبه وأمته الثقافي والحضاري والسياسي والجمع بينه وبين منجزات الحركة عالميًا وخبرة البشرية المتراكمة.
إن الاشتراكية الديمقراطية هي محاولة تجديدية أصيلة تربط بين الاشتراكية والتحديث في آن واحد، فهي ترفض الاشتراكية بدون تحديث، كما ترفض التحديث بدون اشراكية، وهو ما شكل حركة تصحيحية للاشتراكية الدولية بشكل عام، لأن التوجه نحو التحديث هو استجابة عقلية لنداء المستقبل، واذا كانت هذه المسيرة قد بدأتها احزاب الاشتراكية الاوروبية، فأنها لقيت استحساناً وتجاوباً مع الحركات الاشتراكية في العالم، أولاً لأنها استجابت للضرورات الإنسانية بقدر استجابتها للضرورات الاجتماعية والاقتصادية واعتبرت الديمقراطية مفتاح التقدم والرقي، وثانيا لأنها واكبت التطور المتسارع للبشرية وأصرت في الوقت نفسه على الحفاظ على المكاسب الاجتماعية التي حققتها خلال سنوات النضال الطويلة، وثالثا لأنها أخذت بأنظمة قيم عليا تنسجم مع خصوصيات الامم وتحترم تراثها وتعتبره محركاً نحو التجديد والتقدم.
والديمقراطية التي تدعو إليها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية لا تتعلق فقط بطبيعة الدولة ومؤسساتها وصيغة السلطة المركزية وتداولاتها والانتخابات وتقلباتها، بل تدعوا إلى تسليم مقاليد الأقاليم المختلفة بأيادي سكانها ليقرروا مصائرها الإقتصادية والحضارية وغيره، بما ينسجم مع توجهات الدولة والمجتمع عموما والمحددة دستوريا، والحكم الذاتي أو المحلي يتسع ليشمل ليس فقط المناطق بل المنظمات المهنية والتعاونية أيضا بما يسمح لها بتحديد مهامها وأشكال نشاطها ومستقبلها ومصالح أعضائها بشكل حر و ديمقراطي ومسؤول، وربما هذا هو أساس الديمقراطية السياسية، إلا إن الإشتراكية الديمقراطية المعاصرة ترفض وحسب ما جاءت به الخبرة التاريخية أن يصار إلى حكم أو إدارة ذاتية وكأن لا وجود للدولة المركزية، فالدولة موجودة وقائمة كمؤسسة سياسية كبرى وتقوم برعاية مصالح عموم المجتمع بكافة أعضائه بمختلف مناطقهم المتباعدة ومشاربهم الفئوية والمهنية والإثنية أو الدينية، إن الديمقراطية يجب أن تعني أيضا الإشتراك في السلطة، أي أن تتوزع مهام السلطة المركزية على سلطات ثانوية في الأطراف وأن يساهم في السلطة المركزية وسلطات الأطراف أكثر من جهة سياسية، لذلك فإن كل تاريخ اليسار الديمقراطي وفي مقدمته الاشتراكية الديمقراطية قائم على أساس التحالفات السياسية والإجتماعية بتحالفات استراتيجية بعيدة المدى وأخرى مؤقتة تكتيكية.
الاشتراكية الديمقراطية في برامجها الفكرية والسياسية ذات طابع تطوري، تؤمن بالتطور التدريجي وترفض ما يسمى بالقفز نحو مملكة الحرية وحرق المراحل التاريخية، كما حدث في تجارب محاولات الوصول إلى الاشتراكية عن طريق الانقلاب السياسي والتغييرات من فوق وبتعسف، والتي أدت إلى انتكاس تجربة تاريخية هامة وهائلة، وهي تجربة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، وإحداث خسائر فادحة لكل حركة اليسار الاشتراكى والديمقراطي، إلا ان غالبية أعضاء وأنصار ومؤيدي الحركات والأحزاب الإشتراكية واليسار عمومًا استطاعت التفريق الواعي بين معسكرين داخل اليسار الإشتراكي، معسكر فكر الاشتراكية الراديكالية وحرق المراحل التاريخية والاستبداد الطبقي والقطيعة مع أساليب العصر لتحقيق الحرية وهي الديمقراطية الليبرالية، ومعسكر الإشتراكية الديمقراطية الذي يشارك المعسكر الأول كثيرا من تصوراته خاصة فيما يتعلق بمستقبل الشعوب والمجتمعات وتطلعاتها في العدالة والمساواة والرخاء، ولكنه يختلف عنه في ضرورة عدم تجاوز حقائق التطور التدريجي ومراقبته بوعي والتأثير فيه بإصرار الثوار الدؤبين الصبورين، وعدم التعسف وحرق المراحل التاريخية، فالتعسف هنا لا يأتي إلا بالضرر والدمار مما يؤدي إلى إعاقة العملية الثورية التقدمية بل وإلى شلها وتأخيرها وإلى خسائر فادحة في حياة المجتمعات والطبقات الكادحة، إن منظري الوصول إلى السلطة بالإنقلاب الثوري هم أنفسهم أصحاب نظرية العنف الثوري وتطبيقه من قبل السلطة (الثورية) ضد طبقات نفس المجتمع وضد نفس المجموعات البشرية التي تعيش في نفس الدولة المراد تحويلها إلى الأفضل والأحسن، والعنف الثوري عدا عن خسائره الدموية المباشرة ظاهرة تقرب أصحابه من مواقع الفاشية وأساليبها في معالجة مختلف القضايا وتضعهم في مصاف أعداء شعوبهم، إضافة إلى إنها تخلق وبسرعة هائلة أرضية للعمل المعارض الذي قد يلجأ إلى نفس الأساليب مما لا يستبعد قيام حروب أهلية مدمرة يتقاتل فيها أبناء الشعب الواحد فيما بينهم، وأصحاب نظرية العنف الثوري يلجؤون حتما إلى كافة الأساليب لحماية سلطتهم من السقوط مما يقود إلى شكل مباشر من الدكتاتورية المطلقة، والحديث في مثل هذه الأجواء عن ديمقراطية أو تعددية حديث هراء وخيال.
ولعل انتشار فكر الاشتراكية الديمقراطية في كل دول العالم تقريبًا وامتداده لحوالي قرنين من الزمن وتطوره المتواصل وانتصاراته السياسية رغم صراعاته الصعبة في مواجهات ليست عادية مع حركات مهمة عايشته في مختلف البلدان والمراحل خاصة في أوربا كالمؤسسات الدينية وأحيانا مواجهات دامية كتلك التي حدثت مع النازية والفاشية في المانيا وإيطاليا وغيرها من دول العالم، ويشهد هذا الواقع على مدى أعماق هذا الفكر في المجتمعات الإنسانية وشموليته وارتباطه بوجود الإنسان وتطلعاته، وترجع تلك النجاحات لأسباب عديدة، أولًا النظام المتكامل أخلاقيا وإنسانيا من جهة واقتصاديا وسياسيا من جهة أخرى الذي تقدمه الاشتراكية الديمقراطية يجعلها في مصاف أوائل الاختيارات التي تقع في متناول المواطنين سواء أكان في الانتماء لأحزابها أو في التصويت لمرشحيها في مختلف مجالات المنافسة الديمقراطية، وثانيًا صمود وتصميم مناضلي الاشتراكية الديمقراطية في نشاطهم القائم على الوعي التام بواقعهم المحيط بهم والذي يعملون على تغييره نحو الأحسن، والإيمان التام لكنه المتفتح لا الجامد بمبادئ الاشتراكية الديمقراطية، ورابعًا انسجام برامج الاشتراكية الديمقراطية مع حاجات وتطلعات أبناء شعوبها في المراحل المختلفة، فبالرغم من الاختلافات البينة في المستويات الحضارية والاقتصادية للشعوب فإن النظام الفلسفي والسياسي للاشتراكية الديمقراطية من الغنى والشمول بمكان يجعله قادرًا على أن يقدم الأجوبة الخلاقة والمبدعة لشتى الإشكالات التي يواجهها المناضلون في نشاطهم السياسي في مختلف المجتمعات، وبذلك نجد إن التمتع بالقدرة المبدعة على الربط دون تناقض أو تصادم بين المبادئ والقناعات من جهة حاجات المجتمع المعاشة ومصلحة تطوره هو فن الحذاقة السياسية التي يتحلى به كل حزب اشتراكي ديمقراطي وقياداته وكوادره وأعضاءه، واللحظة التي قد تبرز ما قد يبدو وكأنه تناقض بسيط بين حاجات الواقع في مكان أو زمان معين وبين المنطلقات النظرية المؤمن بها فإن الأرجحية وبلا أدنى شك هي لصالح الواقع المعاش وحاجاته، فالاشتراكية الديمقراطية ليست مذهبًا جامدًا مغلقًا يقوم على القياس بل مذهب متفتح يتطور باستمرار ويغتني بالواقع وتجاربه الجديدة، وليس في هذا أي إسراف عن القناعات الأساسية التي يؤمن بها الاشتراكي الديمقراطي بل تأكيدًا عليها في خطوطها العامة والعريضة، كما تحتوي عليها برامج غالبية الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الداخلية وأدبياتها.
شهد القرن العشرين حدوث انقسامات عميقة في الحركة الإشتراكية، فمن جهة تم تطور الجناح الشيوعي، بعد أن إضطر تحت وطأة الحرب والفاشية أن يحدث قطيعة جذرية مع الرأسمالية، حتى لو اضطر لإستخدام الديكتاتورية وقمع المعارضة، وفي عام 1989، أدت الإحتجاجات الجماهيرية الواسعة التي قام بها العمال ونشطاء الحقوق المدنية وكذلك التجمعات الديمقراطية، إلى إنهيار الدول الاشتراكية في أوروبا، وقد ثبت في النهاية أن مركزية ملكية الدولة يشكل عائقًا أمام تطورها، حيث لا يمكن الحفاظ على المنجزات الإجتماعية على المدى الطويل، وعلى الجانب الآخر، أرادت القوى الاجتماعية الديمقراطية إحداث إصلاحات اجتماعية واسعة وإرساء الديمقراطية في المجتمع، غير أن هذه القوى لم تكن قادرة على التغلب على هيمنة الأرباح بغية السيطرة على الاقتصاد بشكل فعال، وبذلك ظهر جليًا استحالة الوقاية من حدوث انتكاسات (نيو ليبرالية) ضمن رأسمالية منفلتة من كل قيد، وقد دعم اليسار الإشتراكي بدوره تشكيل المجالس، واستقلالية العمال، والديمقراطية الإقتصادية والتعاونيات؛ ولكنه لم يستطع أن يقدم البدائل الشمولية، كما أدت الأزمة المتوالية للرأسمالية وللحضارة الإنسانية إلى نشوء حركات إشتراكية جديدة، ومفهومها الأساسي أنه ليس ممكناً إيجاد عالم آخر، ورغم ذلك فإن الوصول إليه يعتبر حاجةً عاجلة، وبذلك تحارب إشتراكية القرن الحادي والعشرين هذا الاستغلال الرأسمالي، والعنصرية وتدمير البيئة، وكان هدفها الأساسي هو الوصول إلى عالم يمكن أن توجد فيه العديد من العوالم المختلفة جنبًا إلى جنب، حيث يكون فيه التطور الحر للفرد ولكل فرد شرطًا لتطور الجميع، وإن إخضاع الممتلكات والعلاقات بين مراكز السلطة لتحقيق هذا الهدف، والتحول الإجتماعي الإيكولوجي للإنتاج وأساليب الحياة، والديمقراطية الشاملة، والأممية الجديدة، وسياسة السلام النشطة هي العناصر الأساسية لهذه الإشتراكية الجديدة، ومع تأسيس الحزب اليساري الألماني نشأت قوة سياسية في ألمانيا ملتزمة بالإشتراكية الديمقراطية، إن مصالح أصحاب الأجور والضعفاء اجتماعياً وقطاعات واسعة من المجتمع ترتبط بسياسة تأمل إحداث تحولات شاملة للتغلب على الرأسمالية.
تعددت رموز وأعلام الاشتراكية الديمقراطية، وتعددت اتجاهاتهم وأفكارهم، إلا أنهم أجمعوا على خيار “الطريق الديمقراطي” للوصول إلى السلطة لتحقيق أهدافهم، ومنهم روزا لوكسمبورغ (1871-1919م) وهي منظرة ماركسية وفيلسوفة واقتصادية واشتراكية ثورية من أصول بولندية، وتمثل أقصي يسار الاشتراكية الديمقراطية، وهي رائدة فكر”الاشتراكية الديمقراطية الثورية” وعفوية الحركة الجماهيرية، وتبنت نظرية الإضراب العام، حيث كانت عضوًا في كل من الحزب الديمقراطي الإشتراكي لمملكة بولندا وليتوانيا، ثم الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني والحزب الإشتراكي الديمقراطي المستقل والحزب الشيوعي الألماني، تبنت الاشتراكية وانتسبت للحزب الماركسي البروليتاري منذ حداثتها، غادرت بولندا الروسية سنة 1889م لتنضم إلى الثوريين المنفيين الروس بزعامة بليخانوف في زوريخ حيث درست العلوم ونالت شهادة الدكتوراة، ثم هاجرت إلى ألمانيا واكتسبت الجنسية الألمانية وعملت في صفوف أكبر الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية في أوروبا، وعندما اندلعت الثورة الروسية عام 1905م عادت إلى وارسو لكي تشارك بها فقبض عليها وأفرج عنها في العام التالي، ثم عادت إلى برلين حيث كتبت “تراكم رأس المال” سنة 1913م الذي يعتبر مساهمة فكرية ماركسية رئيسية، تزعمت مع “كارل ليبكنخت” الجناح الراديكالي من الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني وعارضت الحرب العالمية الأولى، كما عارضت نظرية لينين حول كون الحزب الشيوعي أداة البروليتاريا المطلقة لتحقيق دكتاتورية البروليتاريا على أساس أن ذلك يفسد الديمقراطية والتي اعتبرتها الوسيلة الوحيدة لتحقيق حكم البروليتاريا، كما عارضت نظرية لينين في حق القوميات في تقرير مصيرها، وأسست مع ليبكنخت “عصبة سبارتاكوس” عام 1916م، التي شكلت بعد سنتين نواة الحزب الشيوعي الألماني وكتبت برنامجه بنفسها، كما استنكرت “الإرهاب البلشفي” في روسيا سنة 1918-1919م، وكانت عدوة لدودة للحرب العالمية الأولى، وفي مطلع سنة 1919م أي بعد شهرين من إعلان ليبكنخت للجمهورية الاشتراكية الألمانية اُغتيلت معه من قبل جماعة يمينية عسكرية متطرفة وبذلك قضي على ثورتهما في المهد. ويوجين ديبس (1855-1926م)، كان رئيس اتحاد العمال الأمريكي، وهو أحد الأعضاء المؤسسين لمنظمة العمال الصناعيين في العالم، وكان مرشح الحزب الاشتراكي الأمريكي لمنصب رئيس الولايات المتحدة عدة مرات، ويعتبر دبس واحدًا من أشهر الزعماء الاشتراكيين في الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى عمله مع العديد من الحركات العمالية، وفي بداية مسيرته السياسية كان دبس عضوًا في الحزب الديمقراطي، بعد ذلك تم اختياره ليكون الممثل الديمقراطي في جمعية إنديانا العامة في 1884م، وبعد أن عمل مع العديد من الاتحادات الصغيرة، مثل رابطة رجال إطفاء ومهندسي القاطرات، لعب دورًا هامًا في تأسيس اتحاد عمال السكة الحديد الأمريكي، وهو أول اتحاد نقابي صناعي شهدته أمريكا وقتها، وعندما أضرب اتحاد عمال السكة الحديد الأمريكي ضد تخفيض الأجور في شركة بولمان للسيارات، استخدم الرئيس الأمريكي “جروفر كليفلاند” جيش الولايات المتحدة لفض الإضراب، وحينها سُجن دبس بسبب عدم اتباعه للإنذار القضائي الصادر ضد الإضراب، لأنه كان رئيس اتحاد عمال السكة الحديد وقتها، وفي السجن تعلم أكثر عن الاشتراكية، ومضى في مسيرته ليصبح أبرز زعيم اشتراكي في العقود الأولى من القرن العشرين، خاض يوجين دبس الانتخابات الرئاسية عدة مرات، وكانت المرة الأخيرة من زنزانته في السجن، واشتهر ببراعته في الخطابة، وتسببت إحدى خطبه المناهضة لمشاركة أمريكا في الحرب العالمية الأولى أن يتم القبض عليه للمرة الثانية في عام 1918م، وقد تمت معاقبتة بموجب قانون التجسس لعام 1917م، وصدر ضده حكم بالسجن لمدة عشر سنوات، وفي عام 1921م أمر الرئيس الأمريكي وارن هاردن أن يتم تخفيف عقوبة دبس، توفي يوجين دبس عام 1926م وذلك بعد أن تم إرساله إلى المصحة بفترة قصيرة. وجورج أورويل (1903-1950م) هو صحافي وروائي بريطاني، عمله كان يشتهر بالتحذير من غياب العدالة الاجتماعية ومعارضة الحكم الشمولي وإيمانه بالاشتراكية الديمقراطية، استمر تأثير أعمال أوريل على الثقافة السياسية السائدة ومصطلح أورويلية الذي يصف ممارسات الحكم الاستبدادي والشمولي والتي دخلت في الثقافة الشعبية مثل ألفاظ عديدة أخرى من ابتكاره مثل الأخ الأكبر والتفكير المزدوج والحرب الباردة وجريمة الفكر وشرطة الفكر وغيره. وسلفادور أليندي (1908-1973م) وهو طبيب وسياسي تشيلي يعتبر أول رئيس دولة في أمريكا اللاتينية ذي خلفية ماركسية انتخب بشكل ديموقراطي، واحتل منصب رئيس جمهورية تشيلي منذ عام 1970م وحتى 1973م عند مقتله في الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكمه، وعمل أليندي في الحياة السياسية الشيلية مدة تصل إلى حوالي أربعين عاما، حيث كان عضوًا في الحزب الاشتراكي في تشيلي, ثم صار عضوًا في مجلس الشيوخ ونائبًا برلمانيًا ووزيرًا، ترشح للانتخابات الرئاسية عدة مرات واستطاع الفوز في عام 1970م، وطبق أليندي مباديء الاشتراكية الديمقراطية مثل تأميم الصناعات الكبرى وسياسة الفلاحة الجماعية (التعاونيات) وغيره. وهوغو تشافيز (1954-2013م)، رئيس فنزويلا الواحد والستين، الذي صار رئيسًا للبلاد في 2 فبراير عام 1999م، عرف تشافيز بحكومته ذات السلطة الديمقراطية الاشتراكية واشتهر لمناداته بتكامل أمريكا اللاتينية السياسي والاقتصادي مع معاداته للإمبريالية وانتقاده الحاد لأنصار العولمة من الليبراليين الجدد وللسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، قاد فنزويلا متحديًا السياسة الأميركية، حيث طبع مرحلة سياسية فريدة من عمر أمريكا اللاتينية، أعادت إلى القارة مدها اليساري وتعاطفها مع قضايا المستضعفين في العالم أجمع، وتشهد ربما الشخصيات المتربعة على رئاسة العديد من الدول في القارة على أن الحالة التشافيزية، التي حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها احتواءها، باتت ظاهرة عصية على التدجين، وظل تشافيز الذي ولد في الكوخ الطيني لجدته روزا إنيز تشافيز في قرية سابانيتا الفقيرة المعدمة، وفيًا للفقراء الذين عايشهم في أفقر أحياء بلد يعوم على النفط، فمنذ تسلمه السلطة بعد انتخابات ديمقراطية في عام 1998م، عكف تشافيز على تشكيل دستور جديد للبلاد يستوحي أفكار سيمون بوليفار (1783 – 1830م) محرر معظم دول أمريكا اللاتينية من الاحتلال الإسباني. وبيرتراند راسل (1872- 1970م)، وهو فيلسوف وعالم منطق ورياضي ومؤرخ وناقد اجتماعي بريطاني، في مراحل مختلفة من حياته كان راسل ليبراليًا واشتراكيًا وداعية سلام، قاد راسل الثورة البريطانية ضد المثالية في أوائل القرن العشرين، ويعد أحد مؤسسي الفلسفة التحليلية إلى جانب سلفه كوتلب فريج وتلميذه لودفيش فيتغنشتاين كما يعتبر من أهم علماء المنطق في القرن العشرين، وكان راسل ناشطًا بارزًا في مناهضة الحرب وأحد مناهضي الإمبريالية، سجن بسبب نشاطه الداعي للسلام خلال الحرب العالمية الأولى، وقام بحملات ضد أدولف هتلر وانتقد الشمولية الستالينية وهاجم تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام كما كان من أنصار نزع الأسلحة النووية. وجايمز هاردي، وهو اشتراكي ديمقراطي مبكر, ومؤسس حزب العمال المستقل البريطاني. وهال درابر, وهو كاتب أمريكي اعتبر كارل ماركس من أول المنادين باشتراكية ديمقراطية من الأسفل، تشارك في بناءها البروليتاريا بأكملها لا حزب واحد بعينه أو قائد واحد بعينه.
ويتضح لنا مما سبق إن الاشتراكية الديمقراطية هي طريق ناجع لتحقيق العدالة وبناء نظام ديمقراطي مناهض لكل أشكال الاستبداد، وأن الآفاق المستقبلية للاشتراكية الديمقراطية واعدة، وذلك من خلال نظرة فاحصة إلى البلدان التي انتهجت طريق الاشتراكية الديمقراطية كالسويد، التي ساد فيها حكم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية لمراحل زمنية عديدة من تاريخها استطاعت أن تقدم نموذجًا يحتذى في تحقيق مجتمع الرفاهية أو مجتمع الكفاية والعدل وكذلك سار على هذا النهج المانيا، وفي وقت من الأوقات اسبانيا وايطاليا، ومع تزايد الازمات في النظام الرأسمالي ومنها الازمة المالية الأخيرة عام 2008م التي مرت بها امريكا واوروبا تعالت النداءات من اجل تدخل الدولة المشروط وخصوصا في مجالات الخدمات ومنها الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي كل هذا يشكل دعما حادًا لمبادئ الاشتراكية الديمقراطية، وتنشط اليوم في معظم البلدان أحزاب اشتراكية ديمقراطية، ومن أبرز الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الناشطة اليوم الحزب اليساري الألماني و الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد، كما إن الحركة الاشتراكية العربية وهي تناهض الاستبداد بكل صوره تؤمن أن هذا الاستبداد لا يقاوم ولا ينتهي إلا بترسيخ المفهوم الديمقراطي، تلك الديمقراطية التي تقوم على مبدأ التعدد وفصل السلطات وهي تربط مسألة العدالة الاجتماعية وجوهرها تحقيق رفاه المواطن عن طريق التوزيع العادل لثروات بلده مع الحرية السياسية، وإن الخطأ الذي وقعت فيه أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق هو عزله بين مسألة الحرية الفردية والشخصية وعدم ربطها بقضية العدالة، وذلك لإن الإنسان كائن مادي ومعنوي معًا، فالحركة إذن تربط ما بين الحرية السياسية والحرية الاجتماعية، والاشتراكية الديمقراطية في رأي الحركة الاشتراكية العربية (سنأتي له لاحقًا) لا تؤكد على التعددية والحرية السياسية والبرلمانية والتطور السلمي فقط، بل تعمل على تحقيق مستوى مرتفع من النمو وتوفير الضمانات للمواطنين .

التعليقات