ألقينا الضوء سابقًا، من خلال موضوعات كتابنا الأول عن الوهابية بعنوان (الأمة المصرية والوهابية – تباين المسارات – الجزء الأول)، على الجذور الفكرية للوهابية في مقالتين متصلتين، ثم تطرقنا لنشأة الحركة الوهابية في مقالتين متصلتين، ثم نشأة وملامح وسقوط الدولة الوهابية السعودية الأولى في ثلاث مقالات متصلة، ومقالة عن نشأة وسقوط الدولة السعودية الثانية، ومقالتين متصلتين عن التأسيس الثاني للدولة المصرية الحديثة، ومقالتين متصلتين عن الدولة السعودية الثالثة، وثلاث مقالات متصلة عن الأمة المصرية قبل الغزو الفكري الوهابي، ومقالة عن التسلل الوهابي للأمة المصرية، ومقالتنا هذه الأولى ضمن موضوعات كتابنا الثاني عن الوهابية (الجزء الثاني)، وذلك عن التطويق الوهابي للأمة المصرية وإجهاض المشروع التنورير المصري الأول.. وكنا قد أوضحنا في مقالتنا السابقة كيف تسلل الفكر الوهابي للأمة المصرية، وتمكن من زرع البذور الأولى لهذا السرطان المدمر، وذلك لتشويه الهوية المصرية، وتجريف الحياة الفكرية والثقافية المصرية، والتي أخذت نتائجها الكارثية تصيبنا تباعًا في كافة المجالات. إذ سرعان ما تجاوز الإخوان المسلمون حدود الدعوة الدينية الوهابية بعد أن استطاعوا تطويق المجتمع المصري، وبدأ حسن البنا في تحويل الجماعة من جمعية دينية إلى تنظيم سياسي جماهيري. فكان التجنيد المكثف أول مرحلة في عملية البناء التنظيمي من خلال الدعاية والاتصال والإعلام، وقد تركز المؤتمر الثاني (نهاية عام 1933م) حول مسائل الإعلام والدعاية للجماعة، وأقر تأسيس شركة لإنشاء مطبعة خاصة للإخوان المسلمين. وأصدرت الجماعة بعد المؤتمر عدة صحف بدأت بإصدار جريدة (الإخوان المسلمون) الأسبوعية وبذل الإخوان جهدًا ضخمًا لزيادة توزيعها، وقد استمرت الجريدة في الصدور حتى عام 1938 حين توقفت بسبب النزاع بين البنا ورئيس تحريرها محمد الشافعي. ثم أصدرت الجماعة مجلة (النذير) الناطقة باسم الجماعة. كما قام البنا بإعادة إصدار جريدة (المنار) التي كان يصدرها (رشيد رضا) شيخ الأزهر وعميل الوهابية السعودية، وهو الذي جند الشاب حسن البنا وقدمه للوهابية السعودية كما ذكرنا سابقًا. وهي العلاقة التي أشار إليها محمد حسين هيكل في مذكراته في السياسة المصرية قائلًا: “إنه قبيل سفره للحج في عام 1936م علم أن علي ماهر باشا – رئيس الوزراء – يريد أن يعيد العلاقات بين الدولتين السعودية والمصرية.. فذهبت إليه وعرضت عليه معاونته لتحقيق مقصده.. ثم سافرت إلى الحجاز على ظهر الباخرة (كوثر) وأننى لفي بهوها يومًا بعد أن ارتديت رداء الإحرام إذ تقدم إلى حاج لم أكن قد رأيته من قبل وقدم نفسه، ذلك هو الشيخ حسن البنا، وقد ذكر لي يومئذ أنه ألف جمعية الإخوان المسلمين لتهذيب الناس تهذيبًا إسلاميًا صحيحًا وأنه يطمع في قبولي رئاستها، وقيل لي وأنا بالحجاز – إن له صلة بالحكومة السعودية وإنه يلقى منها عطايا ومعونة”.. وتؤكد تقارير جهاز البوليس السياسي والتقارير الأمنية المنشورة ما انتهى إليه هيكل، وتؤكد أن حسن البنا مرتبط ببعض دوائر الحكم السعودي وله اتصالات مشبوهة بأجهزة النظام السعودي وأنه يُسمح له في مواسم الحج بنشاط واسع ويُستقبل من رجال الدولة السعودية استقبالًا ينم عن الحفاوة والاهتمام الخاص. كما ركز المؤتمر على أهمية طباعة ونشر (الرسائل) التي كتبها حسن البنا، التي أصبحت المصدر الرئيسي للتثقيف داخل الجماعة، وتتكون من رسائل الجماعة الموجهة للحكومة المصرية ومسؤوليها حول وضع المجتمع المصري والطريق إلى الإصلاح حسب زعمهم، وأيضًا رسائل كُتبت للأعضاء حول الأفكار والمهام والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم. وقد نجحت الجماعة من خلال النشاط الدعائي المكثف في وضع أسس نموها السريع خاصة داخل أوساط الطبقة الوسطى الحديثة، وطبقة البرجوازية الصغيرة البعيدة عن مراكز الحضارة المصرية ومن ثم عن فعاليات الحركة السياسية النشطة والفاعلة، حيث ركز الإخوان في البداية على تلك الفئات التي شكلت جمهور القراء لأدبيات الإخوان المتعددة والمتنوعة، ونشر الفكر الوهابي الظلامي والتكفيري والإرهابي والرجعي والاستبدادي في أوساط تلك الفئات. ومع اقتراب النصف الثاني من عقد الأربعين من القرن الماضي كانت الشخصيات الوهابية السلفية قد غطت وجه مصر وتنوعت أدوارهم وأشكالهم، وتسربوا إلى كافة المناشط السياسية والاجتماعية والحكومية وحتى الجيش والشرطة، وأصبحوا جزءً من النظام السياسي. ومما لا شك فيه أن القدرات التنظيمية الفذة لحسن البنا، وإدراكه لأهمية أساليب الدعاية الحديثة وعملية التجنيد، لعبت دورًا محوريًا في تحويل مجموعة صغيرة من الدعاة الوهابيين في نهاية العشرينات إلى أكبر تنظيم سياسي في البلاد مع مطلع الأربعينيات.
واصل الإخوان المسلمون اتباع مبدأ التقية، ففي عام 1933م وصف مرشدهم العام الملك فؤاد في خطاب يناشده فيه منع البعثات التبشيرية بـ “الملك الرشيد” ويختم خطابه بقوله: “لا زلتم للإسلام ذخرًا وللمسلمين حصنًا”. كما وصفه المرشد في مقالة لاحقة بأنه: “كان مثلًا يحتذى في التمسك بعقيدته الإسلامية”. كما وصف حسن البنا الملك فاروق في مقالة له بأنه: “ضم القرآن إلى قلبه ومزج به روحه، وأن صلاح المسلمين في كل الأرض سيكون على يديه” وأكبر الظن أن الأمنية الفاضلة ستصير حقيقة ماثلة، وأن الله قد اختار لهذه الهداية العامة الفاروق، فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك أخلص جنودك”. مشبهًا إياه بالفاروق عمر بن الخطاب. وفي نفس العام عندما طالب مصطفى النحاس بالحد من نفوذ الملك الغير دستوري على مؤسسات الدولة وخرجت جموع المصريين تهتف: “الشعب مع النحاس”، خرجت مظاهرات إخوانية تهتف: “الله مع الملك”، في أسوء استخدام للدين. وفي عام 1938م وصف حسن البنا (الملك فاروق) بأمير المؤمنين مباشرة في مقالة بعنوان: “الفاروق يحيي سنة الخلفاء الراشدين”. مكررًا التشبيه بالفاروق عمر ضمنيًا.
كان الإنشطار الأول عن الإخوان المسلمين ممثلا في جماعة (شباب محمد) التي أسسها مجموعة من قادة وشباب الإخوان الذين انشقوا عن جماعة الإخوان المسلمين عام 1939م وعلى رأسهم محمود أبو زيد عثمان وحددوا خلافهم مع الإخوان في عدة نقاط أبرزها عدم أخذ قيادة الإخوان بمبدأ الشورى في اتخاذ القرار وذلك بالمخالفة لتعاليم السياسة الشرعية الإسلامية وكذلك عمل جماعة الإخوان المسلمين تحت لواء الحاكمين بغير ما أنزل الله على حد تعبير المجموعة المنشقة ويقصدون به رضا جماعة الإخوان بالعمل السياسي في إطار القانون الوضعي السائد والذي يحكم العمل الحزبي والنقابي. وقد طرحت جماعة (شباب محمد) في مسألتي (الحكم بما أنزل الله) و (وسيلة تغيير الواقع) أطروحات تشبه ما تم طرحه بعد ذلك بأكثر من خمس وعشرين سنة من قبل تنظيم الجهاد مما دعا أحد أبرز منظري تنظيم الجهاد (د.أسامة عبد الله حميد) إلى اعتبار أن جماعة “شباب محمد” هي المرحلة الأولى من تاريخ التيار الجهادي في مصر، وكانت جماعة “شباب محمد” تؤمن أنه لا سبيل لنهضة الأمة الإسلامية والخلاص من مشاكلها إلا بإقامة الخلافة الإسلامية والعودة (للإسلام الصافي) كما كان عليه النبي (ص)!!، وهي في ذلك مثل سائر الجماعات الإسلامية السابقة واللاحقة لكنها زادت عليهم شيئًا جديدًا وهو أنها حددت أنه لا سبيل لتنفيذ ذلك سوى بالتشدد والتعصب للإسلام بمعنى عدم المهادنة أو اللين وكذلك استخدام الجهاد المسلح، وقد أعلنت (جماعة شباب محمد) ذلك في أدبياتها وعلى رأسها مجلة النذير التي آلت لها ملكيتها من الإخوان المسلمين بعدما انشق صاحب امتيازها وهو محمود أبو زيد عثمان نفسه مع من انشق وشارك في تكوين (جماعة شباب محمد). ورغم زوبان تلك الجماعة إلا أنها تداخلت في سياقات دعم وإنتاج الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد فيما بعد.
كان من المنطقي أن ينصب الشق السياسي في نشاط الإخوان المسلمين على مقاومة المحتل الأجنبى والتصدى لألوان الفساد في الداخل، ولكن ما حدث بالفعل هو سعي قادة الجماعة وفي مرحلة مبكرة جدًا إلى دخول المعترك السياسى كتيار صالح للاستخدام من جانب الملك وأحيانًا من جانب البريطانيين أنفسهم لضرب تيارات أخرى وفي مقدمتها حزب الأغلبية، حيث ارتبطت جماعة الإخوان المسلمين بعلاقات متنامية مع الملك فاروق الذي رأى فيها عونًا كبيرًا له باعتبارها تنظيما يقاوم الحركة الاشتراكية، وكان الملك فاروق في نفس الوقت يعمل على دعم وتمويل الجماعة لمواجهة حزب الوفد الليبرالي، بعدما أصبحت جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة الوحيدة التي تحتكم إلى قواعد شعبية تستطيع أن تنافس الوفد في شعبيته. وفي هذا الصدد كتب أحمد حسين آنذاك يقول: “إن حسن البنا أداة في يد الرجعية، وفى يد الرأسمالية اليهودية، وفى يد الإنجليز وصدقي باشا”. وأقدم هؤلاء القادة على بعض التصرفات لخدمة هذا الهدف، لكنها أثارت ردود فعل معاكسة لأجنحة أخرى داخل الجماعة. وقد تمثل أول هذه التصرفات عندما قبل الشيخ حسن البنا تبرع الشركة الفرنسية التى كانت تدير قناة السويس وقتئذ بمبلغ خمسمائة جنيه لبناء أول مقر للجماعة في مدينة الإسماعيلية، مما أثار اعتراض بعض الأعضاء المؤسسين باعتبار أنها شركة استعمارية لا يهمها الإسلام في شئ، لكن البنا كان مهتما في المقام الأول بتدبير التمويل اللازم لجماعته الوليدة، والأهم من ذلك هو طمأنة القائمين على الشركة ومن ورائهم الأجانب المنتشرين في منطقة قناة السويس إلى اقتصار مقاصده على الجوانب الدينية فقط حتى يتمكن من ترسيخ قواعد جماعته في هدوء. وبعد معاهدة 1936 ظهرت جماعة الإخوان المسلمين على المسرح السياسي عندما اشتد الصراع بين الملك والوفد، وكان على ماهر باشا رئيس الديوان الملكى والرجل القريب جدًا من فكر وقلب الملك والمستشار الأكثر قربًا وتأثيرًا على القصر على علاقة طيبة بالشيخ حسن البنا المرشد العام للجماعة وبعض أفراد الجماعة، واعترض بعض أعضاء الجماعة رافضين هذه العلاقة ووجهوا إنذارًا للمرشد العام للجماعة مطالبين فيه بقطع هذه العلاقة، ولكن حسن البنا رفض هذا الإنذار، وطرد هؤلاء الرافضين، وقد كتب أحدهم مقالا يشرح فيه أسباب الانقسام، وذكر فيه: “أنهم خرجوا، لأن الجماعة موالية للقصر الملكى، كما أورد أسبابا أخرى تفيد التلاعب في الأموال، وبعض التصرفات غير الأخلاقية”. وقد خصص المؤتمر الرابع للجماعة للاحتفال باعتلاء الملك فاروق عرش مصر، كما كانوا يقفون في ساحة قصر عابدين في المناسبات هاتفين: “نهبك بيعتنا، وولاءنا على كتاب الله وسنة رسوله.”. وورد في جريدة “البلاغ” في 20 ديسمبر 1937 ما يلي: “عندما اختلف النحاس باشا مع القصر خرجت الجماهير تهتف: “الشعب مع النحاس” فسيّر حسن البنا رجاله هاتفين: “الله مع الملك”. وفي هذا الصدد كتب أحمد حسين في جريدة (مصر الفتاة) في 17يوليو1946 مايلى: “إن حسن البنا أداة في يد الرجعية، وفي يد الرأسمالية اليهودية، وفي يد الإنجليز وصدقي باشا”. وبمناسبة صدقي باشا، فإنه عندما تولى رئاسة الوزارة سنة 1946 رغم أنف الحركة الوطنية، فهو الرجل الذي قتل الطلاب بالرصاص في مظاهرات1930م واشتهر بصداقته للصهاينة وعلاقته ببلفور شخصيًا، كان أول ما قام به هو زيارته للمركز العام للإخوان المسلمين في الحلمية الجديدة، ووقف أحد أصدقاءه من الإخوان المسلمين يهنئه بتوليه الوزارة فقال: “واذكر في الكتاب إسماعيل أنه كان صادق الوعد، وكان رسولًا نبيًا” صدق الله العظيم. وتكرر نفس القول على لسان القيادي الطلابي الإخواني (مصطفى مؤمن) في جامعة القاهرة في مؤتمر تأييد لإسماعيل صدقي.
وعندما شكل الطلبة والعمال اللجنة الوطنية، انشق الإخوان المسلمون وشكلوا بالاتفاق مع إسماعيل صدقي رئيس الوزراء ومع الملك ما سُمي “باللجنة القومية”، وإذا رجعنا إلى مذكرات كريم ثابت، المستشار الصحفي للملك فاروق ورئيس تحرير جريدة (الزمان)، والتى نُشرت في جريدة الجمهورية في شهر يوليو1955 وجاء فيها متعلقًا بجماعة الإخوان المسلمين أنه أي كريم ثابت تدخل لدى النقراشي باشا رئيس الوزراء لإيقاف قرار حل ومصادرة ممتلكات الجماعة باعتبارها عونًا كبيرًا للملك فاروق وللعرش في مقاومة الشيوعية، وأن الملك فاروق كان يعتبر أنهم الهيئة الوحيدة التي يمكنها أن تنافس الوفد، وتشجيعها يؤدي إلى انقسام معسكر القوى الوطنية وبالتالي إضعافه. ويروي أحمد مرتضى المراغي وزير الداخلية الأسبق، وكان في هذا الوقت يرأس الحكومة النقراشى باشا، وكان يعادى الإخوان المسلمين، يروي المراغي في مذكراته التي نُشرت في مجلة (أكتوبر) أنه عندما كان مديرًا للأمن العام ذهب إليه في منزله في حلوان الشيخ حسن البنا وطلب منه إبلاغ الملك الرسالة التالية: “الإخوان المسلمون لا يريدون به (يقصد الملك) شرًا وأننا لا ننبذ تصرفاته، إنه يذهب إلى نادي السيارات للعب الورق فليذهب!!، وإلى النوادي الليلية ليسهر، فليسهر! نحن لسنا قوامين عليه.”. وفى سنة1950 حصل حزب الوفد على الأغلبية في الانتخابات وسقط الأمر العسكري بحل جماعة الإخوان المسلمين وانتخب المستشار حسن الهضيبي مرشدًا عامًا للجماعة. وفي هذا الصدد تقول جريدة (اللواء الجديد) في 30 يناير1950م: “إن مزراحي باشا محامي الخاصة الملكية كان له دور في تحسين العلاقات بين الملك والإخوان المسلمين، وأن الصحف البريطانية أظهرت ترحيبًا شديدًا باختيار الهضيبي مرشدًا عامًا الذي يؤيده الملك فاروق لقرابته بمراد باشا محسن (زوج شقيقته) كما أنه وطيد الصلة بعائلات ثرية قريبة من السراي، وكان الملك فاروق عندما يقابل المرشد العام يرسل له سيارة ملكية خاصة لإحضاره”. ومما يؤكد استمرار العلاقة الوطيدة بين الملك فاروق وجماعة الإخوان المسلمين أنه في أكثر من مرة عندما كان حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين، وهو في نفس الوقت زوج شقيقة مراد باشا محسن ناظر الخاصة الملكية، عندما كان يقابل الملك فاروق كان يخرج من كل مقابلة ليصرح بقوله: “زيارة كريمة لملك كريم”. ونتيجة لهذا التراث الانعزالي المعادي للحريات، تقاطع تيار الإسلام السياسي مع كافة التيارات والمدارس الفكرية والسياسية والفلسفية والدينية والاجتماعية والعلمية، التي اتخذت مسارًا تقدميًا ووطنيًا رغم تعدد وتنوع رؤاها ومنطلقاتها، حيث تلاقت كافة مدارسه وفصائل اليسار مع التيار الليبرالي بكافة مدارسه وفصائله، وكذا تشاركت أغلب منظمات المجتمع المدني الوليدة العمالية والمهنية والطلابية والفلاحية، في حين شذ التيار الوهابي عن هذا النسيج الوطني، واتخذ مسارًا نرجسيًا وتكفيريًا وعدائيًا واستبداديًا من كافة منظمات وفصائل وطوائف المجتمع المصري، وتمثل هذا الفكر الاستبدادي في أشكال متعددة، نورد البعض منها للتوضيح: ففي عام 1930 عندما ألغى صدقي باشا (رئيس الوزراء المستبد والموالي للقصر والإنجليز) دستور 1923، عارضته كافة القوى السياسية والوطنية، باستثناء الإخوان المسلمين الذين خرجوا يؤيدونه ويرفعون اللافتات التي وضعته صنوًا لنبي الله إسماعيل، في تكرار لأستخدام الآية القرآنية الشريفة: “واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صديقًا نبيًا” وذلك في غير موضعها. وبينما كانت القوى السياسية تتكاتف وتتحالف في الهبة الوطنية عام 1946، والتي تزعمها اليسار المصري وكان حزب الوفد وحزب مصر الفتاة حليفين كبيرين له، نجد جماعة الإخوان المسلمين تقف مع الجهات المعادية لتلك الهبة، وهي الاستعمار والقصر الملكي والحكومات الرجعية، ولم يكن غريبًا أن تقف جماعة الإخوان المسلمين مع رئيس الوزراء الطاغية إسماعيل صدقي باشا الذي بطش بالحركة الوطنية وبقيادة هبة 1946 الشعبية، ففي10 يوليو 1946 قام إسماعيل صدقي بحملة اعتقالات ضد القوى التي قادت تلك الهبة، أي القوى التي أسست (اللجنة الوطنية للطلبة والعمال) ووجهت نشاطها، وفي أعقاب تلك الحملة ضد القوى الوطنية ظهر مباشرة على الملأ تأييد جماعة الإخوان المسلمين لرئيس الوزراء الطاغية.
تصاعدت حركة الرفض والمقاومة للشعب المصري عقب الحرب العالمية الثانية نتيجة لتخلي الاحتلال عن وعوده، وقسوة الكساد الاقتصادي الذي أعقب الحرب العالمية، وواكب ذلك تصاعد انتشار جماعة الإخوان المسلمين. فكان هناك تذبذب دائم في العلاقة بين الوفد والإخوان. فالجناح اليميني للوفد بقيادة فؤاد سراج الدين كان يرى ضرورة الاستفادة من الإخوان ضد خطر الانفجارات الاجتماعية والحركة الاشتراكية التي تنامت خلال الحرب. لكن النحاس كان شديد الخوف من أن تؤدي تلك المغامرة إلى مزيد من الخسائر للوفد أمام اكتساح الإخوان. ومن الواضح أنه خلال فترة العامين 1946 و1947 تصاعد الاهتمام بجماعة الإخوان من قبل القصر وحكوماته كأداة هامة لمناهضة الوفد والاشتراكيين. وحصل البنا من حكومة صدقي على عدد من التسهيلات في هذا السياق منها ترخيص بإصدار جريدة (الإخوان المسلمون)، وتسهيلات في شراء ورق الطباعة بتوفير من 20 إلى 30% عن سعر السوق، إلخ. وفي هذا الوقت ظهر استقطاب واضح في صفوف الحركة الطلابية المشتعلة داخل الجامعة ما بين الوفد والاشتراكيين من جانب، وبين الإخوان والحزب الوطني ومصر الفتاة من جانب آخر. وقد لعب الإخوان أدوارًا سلبية وانقسامية خلال أحداث عام 1946م سواء داخل الحركة الطلابية أو الحركة العمالية، حيث وصلت رغبتهم في منافسة الوفد والاشتراكيين إلى حد تخريب الإضرابات وتقسيم المظاهرات، مما دعم الميول داخل القصر للاهتمام بهم ودعمهم وتأييدهم. فرغم تفاقم الأزمة السياسية والاجتماعية في مصر في نهاية الأربعينيات، ورغم قوة الإخوان المسلمين كأكبر وأنشط التنظيمات الجماهيرية لم يكن في استطاعة البنا تقبل فكرة الثورة بما تعنيه من تعبئة للعمال وفقراء الفلاحين، ومن تهديد لأسس الملكية الخاصة الكبيرة، والقضاء على الطبقية الحادة بالمجتمع المصري.
بعد تبني الأمم المتحدة قرار التقسيم في نوفمبر عام 1947، أصبحت القضية الفلسطينية من جديد أكثر القضايا السياسية إلحاحًا في الساحة السياسية المصرية. حيث ارتبطت المعركة ضد الصهيونية بالنضال ضد الاستعمار في وعي الجماهير المصرية. ولكن الإخوان المسلمين أصروا على إضفاء طابع ديني على القضية يجعلها محض صراع بين اليهود والمسلمين ممتد عبر التاريخ، وبكل ما يتضمنه ذلك من عنصرية تجاه اليهود ككل، وتغييب للجوهر الإمبريالي للمشروع الصهيوني وعلاقته بالمصالح الاقتصادية والاستراتيجية للقوى العظمى. وهكذا سعى الإخوان بكل السبل إلى كسب المزيد من الشباب الغاضب إلى صفوفهم بتكثيف الدعاية لعملهم الخيري والتطوع الشكلي في فلسطين، مستغلين حالة الفوران السياسي، وهم في مأمن من كل الأطراف السائدة على الساحة المصرية بما فيهم الاحتلال البريطاني. وقد أخذ هذا المسلك بعدًا جديدًا عقب الحرب العالمية الثانية، ومن هنا تنبه الإخوان المسلمون لتلك الفرصة التاريخية لشرعنة حصولهم على أسلحة وزخيرة تحت سمع وبصر الدولة المصرية. وفي هذا الصدد كتب الدكتور رفعت السعيد: “إن القضية الفلسطينية قد أتاحت امكانيات عدة أمام الإخوان .. فمن خلال تأييدها اتضح البعد الإسلامي والعربي للجماعة، ومن خلالها أيضًا أمكن للجماعة أن تمد نشاطها إلى المنطقة العربية كلها .. لكن أكثر ما يعنينا في هذا الفصل هو أن مساندة الثورة الفلسطينية عام 1936 ثم الاستعداد للمشاركة في حرب فلسطين 1948 كانا الفرصة الذهبية أمام الشيخ البنا ليحشد ترسانة ضخمة ويدرب رجاله علنًا تحت ستار الإعداد لحرب فلسطين”. وهذا ما يؤكده أحمد حسين بقوله: “أن حرب فلسطين قد أمدت الإخوان بفرصة ذهبية لحشد السلاح والتمرن على استعماله بدعوى أنه من أجل فلسطين، وأن الإخوان كان لديهم كميات من الأسلحة والذخائر جمعوها تحت ستار تجهيز المتطوعين إلى فلسطين وهم يعدونها لإحداث انقلاب في مصر بالقوة”.
عندما اتسع نطاق الحركة الجماهيرية واستجاب النحاس باشا للضغط الشعبي وألغى في 8 أكتوبر1951 معاهدة 1936 التي كانت تربط مصر ببريطانيا، انطلقت في أعقاب ذلك عمليات الكفاح المسلح في منطقة قناة السويس، وشارك فيها الاشتراكيون تحت راية منظمة حدتو وحزب مصر الفتاة والوفديون، ولم يشارك فيها الإخوان وأبلغوا الملك فاروق بذلك، ولم تتوقف عمليات الكفاح المسلح إلا بعد مؤامرة حريق القاهرة في 26 يناير 1952. وطبقا لأغلب التحليلات السياسية والتقارير الأمنية (اعتمادًا على التاريخ الإرهابي للإخوان المسلمين، وامتلاكهم للأدوات اللازمة لمثل هذه العمليات، وتفردهم بهذه السمة) كانت جماعة الإخوان المسلمين وراء تدبير تلك المؤامرة وإشعال الحرائق بقصد إخماد الحركة الوطنية المتصاعدة، وذلك بإيعاذ من المخابرات البريطانية لإيقاف عمليات الكفاح المسلح ضد قوات الاحتلال بمنطقة قناة السويس. وبعد تطور موقف حكومة الوفد وتخليها عن أسلوب المفاوضات ووقوفها في صف عملية الكفاح المسلح ضد قوات الاحتلال، والذي شكل منعطفًا هامًا، ومن علامات ذلك المنعطف اشتراك رئيس الوزراء الوفدي مصطفى النحاس في المظاهرة المليونية في 14 نوفمبر1951 التي حملت اسم “موكب الشهداء”، وشارك فيها الوفد وحدتو ومصر الفتاة، وتم الاتفاق أن يتم رفع شعارات وطنية عامة وليس شعارات حزبية، ولم يشارك الإخوان المسلمون في المظاهرة. وصرح حسن الهضيبي خليفة حسن البنا لجريدة الجمهور المصري في 19أكتوبر 1951 بقوله: “وهل تظن أن أعمال العنف تخرج الإنجليز من البلاد، إن واجب الحكومة اليوم أن تفعل ما يفعله الإخوان من تربية الشعب .. وذلك هو الطريق لإخراج الإنجليز”. كما خطب المرشد العام في شباب الجماعة قائلا: “اذهبوا واعكفوا على تلاوة القرآن الكريم”. وقد رد عليه الكاتب الإسلامي المستنير خالد محمد خالد في مجلة (روز اليوسف) بمقالة عنوانها (أبشر بطول سلامة يا جورج)، وجاء في المقال: “إن الإخوان المسلمين كانوا أملًا من آمالنا، ولم يتحركوا، ولم يقذفوا في سبيل الوطن بحجر ولا طوبة، وحين وقف مرشدهم الفاضل يخطب منذ أيام في عشرة آلاف شاب قال لهم: “اذهبوا واعكفوا على تلاوة القرآن الكريم” .. وسمعت مصر المسكينة هذا التوجيه فقذفت صدرها بيدها وصاحت .. آه يا كبدي .. أفي مثل هذه الأيام يُدعى الشباب للعكوف على تلاوة القرآن الكريم، ومرشد الإخوان يعلم أو لا يعلم أن رسول الله وخيار أصحابه معه تركوا صلاة الظهر والعصر من أجل المعركة، ويعلم أو يجب أن يعلم أن رسول الله نظر إلى أصحابه في سفره فإذا بعضهم راقد وقد أعياه الصوم، وبعضهم مفطر قام بنصب الخيام فابتسم إليهم ابتسامة حانية راضية وقال: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله)، فلقد وجد الوطن في التاريخ قبل أن يوجد الدين، وكل ولاء للدين لا يسبقه ولاء للوطن فهو ولاء زائف ليس من روح الله. والوطن عماد الدين وسنده ولن تجدوا ديننًا عزيزًا مهيبًا إلا إذا كان في وطن عزيز مهيب، وإذا لم تبادروا بطرد الإنجليز فلن تجدوا المصاحف التى تتلون فيها كلام ربكم .. أتسألون لماذا؟ لأن الإنجليز سيجمعونها ويتمخطون فيها كما حدث في ثورة فلسطين سنـة1937، وإذا حسبتموني مبالغًا فراجعوا الكتاب المصور الذي أصدره المركز العام عن تلك الثورات لتروا صورة الضباط الإنجليز وهم يدوسون المصاحف ويتمخطون في أوراقها. إن في مصر قوى شعبية ضخمة تستطيع رغم ظروفها أن تردم القناة بجثث الإنجليز، ولكن هذه القوى مُحتكرة .. تحتكرها الهيئات والجماعات لصالح من؟ وإلى متى؟.”. كما كتب إحسان عبد القدوس مقالة في (روز اليوسف) بتاريخ 27 نوفمبر 1951 بعنوان (الإخوان .. إلى أين ؟ وكيف .. ؟) ينعي عليهم عدم مشاركتهم في معركة القناة، ويقول: “إن هذه الأيام أيام الامتحان الأول للإخوان عقب محنتهم، فإما أن يكونوا أقوياء بإيمانهم، وإما فقدتهم مصر”. وفى شهر يوليو1952 نشرت جريدة (المصري)، التى تتبنى أفكار حزب الوفد، خبرًا جاء فيه أنه كان قد تم الاتفاق بين الإخوان المسلمين والوفد على أن تشترك كتائب من الإخوان مع الوفد في معركة القناة، وأن حكومة الوفد ستسلم الإخوان 2000 بندقية و50 رشاشًا ومليون طلقة، وأنه كان قد تحدد يوم 26يناير سنة1952 لتسليم هذه الأسلحة، ولكن الملك فاروق حدد يوم 26يناير1952 لإقالة حكومة الوفد!!!.، كما نشرت جريدة المصري تصريحًا للمرشد العام عقب مقابلته للملك فاروق جاء فيه إن الملك قال له: “أنه خائف على البلد من اللي بيعمله المصريين في الإسماعيلية والسويس، وأنه يجب ألا يشترك الإخوان معهم في هذه الأعمال، لأن الحركة دي حا تجر على البلد مصايب”. كما قدمت جماعة الإخوان المسلمين أنفسهم للسفارة الأمريكية على أنهم ذراعهم في مصر لمحاربة الشيوعية، حيث طلب حسن البنا من السفارة الأمريكية وقتها تكوين مكتب مشترك بين الإخوان والأمريكيين لمكافحة الشيوعية على أن يكون معظم أعضائه من الإخوان، وتتولي أمريكا إدارة المكتب ودفع رواتب أعضاء الإخوان فيه. وفي هذا دليل علي عمق وقدم العلاقة كتبادل مصلحي. وقد سجل حسن البنا في مذكراته الشخصية (مذكرات الدعوة والداعية): “أن الإخوان اتصلوا بالإنجليز وحصلوا منهم على أموال إلى جانب تسجيل جوانب أخرى بسيطة”، ولكنها قوية الدلالة فيما يتصل بانتهازية وانحراف البنا وجماعته فكريًا وقيميًا، ومنها رشوته لإمام أحد المساجد في محافظة الإسماعيلية ليسمح له بالخطابة وعقد جلسات ولقاءات مع أتباعه في المسجد.
في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت جماعة الإخوان المسلمين الوهابية تسفر عن وجهها القبيح في مصر من خلال منظومة التكفير الديني لكل المبدعين والمفكرين، وعلى الجانب الآخر نشطت الجماعة عن طريق الجيش الإسلامي (ميليشيا الإخوان – التنظيم الخاص)، في ضرب عنق كل المعارضين بالسيف تطبيقاً لمنهج (البنا)، فشهدت مصر فيما بين (1945 – 1949) سلسلة من أعمال العنف تم خلالها اغتيال أحمد ماهر رئيس الوزراء في 24 من فبراير 1945م، بينما كان متوجهًا لمجلس النواب لإلقاء بيان، وأثناء مروره بالبهو الفرعوني قام “محمود العيسوي” بإطلاق الرصاص عليه وقتله في الحال، وبعد الحادث تم إلقاء القبض على كل من (حسن البنا، وأحمد السكري، وعبد الحكيم عابدين) ولكن بعد أيام تم الإفراج عنهم نتيجة لاعتراف العيسوي بأنه ينتمي للحزب الوطني، لتأتي بعد حين شهادة (أحمد حسن الباقوري) التي خطها بيده في كتابه (بقايا ذكريات) لتثبت انتماء العيسوي للإخوان، التي أقر فيها بأن أعضاء (النظام الخاص) داخل الإخوان لم يكونوا معروفين إلا لفئة قليلة، وقد قرروا الانتقام من أحمد ماهر بعد اسقاط (البنا) في انتخابات الدائرة بالإسماعيلية وكان العيسوي من أكثر المتحمسين لذلك. كما تم استخدام العنف ضد الطلبة الوفديين واليساريين داخل حرم الجامعة 1946م. وفي صباح 22 مارس 1948 اُغتيل المستشار أحمد الخازندار أمام منزله في حلوان، فيما كان متجهًا إلى عمله، على أيدي شابين من الإخوان، هما محمود زينهم وحسن عبدالحافظ سكرتير حسن البنا، على خلفية مواقف الخازندار في قضايا سابقة أدان فيها بعض شباب الإخوان حيث كان الخازندار ينظر قضية كبري تخص تورط جماعة الإخوان المسلمين في تفجير دار سينما مترو وقضايا أخرى كبيرة. وعلى إثر اغتيال الخازندار اُستدعي حسن البنا المرشد العام للإخوان للتحقيق معه بشأن الحادث ثم أُفرج عنه لعدم كفاية الأدلة. وبعده بشهور لقي رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي مصرعه، عند ديوان وزارة الداخلية. وفي 15 نوفمبر 1948قام عدد من أعضاء النظام الخاص بجماعة الإخوان المسلمين في مصر بنقل أوراق خاصة بالنظام وبعض الأسلحة والمتفجرات في سيارة جيب من إحدي الشقق بحي المحمدي إلى شقة أحد الإخوان بالعباسية، إلا أنه تم الاشتباه في السيارة التي لم تكن تحمل أرقامًا وتم القبض على أعضاء التنظيم والسيارة لينكشف بذلك النظام الخاص السري لجماعة الإخوان المسلمين. وأدى هذا الحادث وغيره إلى إعلان محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء آنذاك أمرًا عسكريًا بحل جماعة الإخوان المسلمين في 8 ديسمبر 1948، واعتقال أعضائها، وتأميم ممتلكاتها، وفصل موظفي الدولة والطلبة المنتمين لها، وكان هذا القرار سببًا جعل النظام الخاص يقوم بقتل النقراشي في 28 ديسمبر 1948، وقال القاتل عبد الحميد أحمد حسن، وكان طالبًا بكلية الطب البيطري وينتمي لجماعة الإخوان المسلمين عندما سأله المحقق: “أيوه قتلته واعترف بكده لأنه أصدر قرارًا بحل جمعية الإخوان المسلمين وهي جمعية دينية ومن يحلها يهدم الدين .. قتلته لأني أتزعم شعبة الإخوان منذ كنت تلميذًا في مدرسة فؤاد الاول الثانوية”. ويبدو أن جماعة الإخوان قد تخطت الخطوط الحمر المرسومة لها، وضاقت الدولة ذراعًا بعمليات القتل والتدمير التي شنها التنظيم السري للجماعة، وراح ضحيتها الكثير من أبناء الشعب الأبرياء، وبعض أعضاء الحكومة، مما دفع الأخيرة إلى إهدار دم الجماعة ومؤسسها، وعلى الجانب الآخر، كان هناك صراع داخل الجماعة نفسها، خاصة التنظيم السري، الذي أعلن البنا براءته من أفعاله ببيانه الشهير بعنوان: “بيانا للناس: ليسوا اخونًا وليسوا مسلمين”، والذي وإن كان البنا أطلقه ليخفف من وطأة الضغط الحكومي عليه وعلى إخوانه المعتقلين، فإنه وضعه بين مطرقة الحكومة وسندان الجماعة نفسها، وهو ما جعل دماء البنا تتأرجح بين أعضاء التنظيم الخاص، والملك والحكومة آنذاك!. حيث تصاعد الصدام حادًا بين الدولة وبين جماعة الإخوان المسلمين وهو الصدام الذي وصل ذروته باغتيال حسن البنا في 12 فبراير 1949م. وأُغتيل البنا وهو في عامه الثاني والأربعين ولم يتمكن أبداً من تحقيق وعده للإخوان المسلمين الذي ظل يلهم حركتهم: “في الوقت الذي يكون فيه منكم – معشر الإخوان المسلمين – ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها روحيًا بالإيمان والعقيدة، وفكريًا بالعلم والثقافة، وجسميًا بالتدريب والرياضة. في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجاج البحار وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء الله”. وإذا كان التناقض بين جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة سياسية ذات مرجعية دينية وبين مؤسسات الدولة المدنية في مصر قد وصل ذروته في الأربعينيات بعمليات العنف المتبادل والتي أدت إلى اغتيال رئيس الوزراء المصري والمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين. فإن هذا التناقض كان أسبق إلى الظهور في الدولة السعودية كما ذكرنا سابقًا بشيء من التفصيل، فقد تصادمت الدولة السعودية ذات المرجعية الدينية مع جماعة الإخوان الوهابية السعودية في أواخر العشرينيات صدامًا دمويًا رهيبًا أسفر عن القضاء على جماعة الإخوان الوهابية في السعودية. وفي عام 1952 قبيل الثورة والبلاد تغلي زار المرشد الجديد (حسن الهضيبي) الملك فاروق مؤكدًا ولاء الجماعة وبعدها عن كل القوى الثورية المناهضة له كما جاء في توقيعه في سجل التشريفات بعبارته: “نرفع فروض الولاء للملك المفدى ونستنكر الصيحات التي تعالت ضد أعتابكم السامية، ونؤكد بُعد الإخوان المسلمين كل البعد عنها”.
هكذا ظل الإخوان ينكرون رغبتهم في الوصول إلى السلطة أو ممارسة اللعبة السياسية، رغم أن كل أفعالهم كانت منخرطة في السياسة، وفي سبيل ذلك طبقوا منهجًا لا يلتزم بأي قيمة أو مبدأ، منهج نفعي بحت وهو “الغاية تبرر الوسيلة”، ولكي يزيفوا ويضللوا وعي مريديهم أوجدوا له صيغة دينية: “الضرورات تبيح المحظورات”، وكعادتهم دائما يلبسون السياسة ثوب الدين حتى يضفوا على أعمالهم الشرعية وربما القدسية في بعض الأحيان، ومن ثم يقمعوا معارضيهم معنويًا قبل أن يكون ماديًا. كما ظل الغموض وغياب البرامج الملموسة سمة أساسية في تناول الإخوان للقضايا الاجتماعية والسياسية. فنجد مثلًا رفعت السعيد في تأريخه للإخوان يطرح: “في رسالته (إلى أي شيء ندعوا الناس) أشار المرشد إلى قضايا العصر قائلًا إن العالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية والحرب وتوزيع الثروة والصلة بين المالك والمستهلك كلها خاض فيها الإسلام. ثم عاد البنا فقال: (أن المقام لا يسمح بالتفصيل وبأن الأمر يحتاج لجولات). ووعد أن يفصل فيها القول. ولم يف البنا بوعده أبداً ذلك أنه كان دائماً غامضاً في حديثه عن المقترحات التفصيلية والمتعلقة بالحكومة الإسلامية، وأنه لم يحدث مطلقاً أن شرح نواياه بوضوح”. ويكرر السعيد تأكيده لغياب برنامج محدد في خطاب الإخوان: “لا يقدم البنا أي برنامج سياسي، بل لعله قد تهرب كثيرًا من تحديد أي موقف سياسي واضح من أية قضية قومية أو وطنية أو اجتماعية “.
وهكذا أصيبت الأمة المصرية بسرطان الوهابية التكفيرية، بعد أن ظلت بمعزل عن الطائفية والمذهبية التي اجتاحت العراق والشام واليمن (بعد انتهاء دور شبه الجزيرة العربية وخروجها من التاريخ الإنساني)، وأكثر انفتاحًا وتسامحًا وتعايشًا مع الآخر، ورافضة للاتجاهات التكفيرية والظلامية، بما تمتلكة من رصيد حضاري إنساني وراقي في أغلبه. وقد اتضح ذلك مبكرًا، فبينما تخلف الفقه الإسلامي وقل الاعتماد على العقل بشكل مضطرد منذ الدولة الأموية في أغلب الدول العربية والإسلامية، حيث لا نجد من يعترف بدور العقل المستقل في التشريع، نجد مصر تخرج عن هذه القاعدة نسبيا، فهذا العز بن عبد السلام قاضي قضاة مصر (المتوفى سنة 1263م) الذي رأى بأن مصالح الدنيا كلها تُعرف بالعقل من خلال الضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرة، وذلك على خلاف مصالح الآخرة التي لا ُتدرك الا بالشرع، فعلى حد قوله: “من أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحها ومرجوحها فليعرض ذلك على عقله، بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته”. وظلت مصر محصنة ضد هذه الأمراض الاجتماعية، والتشوهات الفكرية، والفتاوى التكفيرية. ولكن تعتبر البداية الفعلية لنهضة مصر الثقافية مع النهضة الشاملة التي قادها محمد علي في بداية القرن العشرين وقبلها بقليل، فمنذ دخول الفرنسيين مصر، بدأت على الفور ظهور اتجاهات تتطلع إلى الخروج من التخلف والانحدار الحضاري، وضرورة مواكبة الحضارة الحديثة التي أدت إلى تقدم وتطور الدول الغربية، والتي ظهرت بشكل جلي من خلال الفجوة الحضارية الهائلة بين الأمة الفرنسية والأمة المصرية، والتي ترجع في الأساس إلى العزلة التاريخية التي فرضها الاحتلال العثماني على مصر وباقي مستعمرات الإمبراطورية العثمانية، وكان الشيخ حسن العطار أول المنبهرين بتلك الحضارة لما شاهده ورفاقة من تطور هائل في معامل الفرنسيين أثناء مرافقته لهم، وكذا كل ما يمتلكون من الأساليب الحديثة في جميع مناحي الحياة، وهو الذي قدم رفاعة التهطاوي إلى محمد علي بناءً على طلب الأخير منه بأن يرشح له شيخًا أزهريًا يرافق البعثة المصرية إلى فرنسا، وبعد رجوعه قاد التهطاوي حركة تنويرية واسعة، ارتكز فيها على مصرية مصر وأن حجر الأساس للهوية المصرية هو المكون الفرعوني مع عدم انكار باقي المكونات الأخرى، سواء الإغريقية أو اليونانية أو الرومانية أو القبطية أو العربية، وكانت مجمل آراءه تقدمية وإنسانية، كما وضعته آراءه التويرية في مرتبة رائد التنوير المصري والعربي. وتواصل المسار التنويري حتى التأسيس الثاني للدولة المصرية الحديثة التي أحدثها الخديوي إسماعيل، ومثلها فكريًا مجموعة من الأعلام كان أهمهم علي مبارك (أبو التعليم). وإذا كانت لحظة الوعي الأولى ممثلة في عقلها الواعي الشيخ رفاعة التهطاوي، لم يكن لديها الوقت الكافي للوقوف عند المصطلحات والنظر إليها نظرة نقدية أي تقويمية وتجديدية، لأن ذلك يحتاج إلى رصيد ثقافي وحضاري في المجتمع، فهذا ما إضطلع الشيخ (حسين المرصفي) تلميذ رفاعة التهطاوي، وأحد أهم المثقفين المصريين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث اضطلع بتحديد معاني المصطلحات الجديدة في رسالته بالغة الأهمية في تاريخ الثقافة المصرية والعربية الحديثة ( الكلم الثمان)، استكمالًا لجهد أسلافه في ضبط المصطلحات وبيان مضامينها، وقد رصد الشيخ المرصفي بوعيه الثاقب تلك المصطلحات الجديدة المعنى والمدلول في الثقافة العربية المعاصرة، مثل مصطلحات الأمة والوطن والحكومة والعدل والظلم والسياسة والحرية والتربية. وكان من ثمار جهود حسين المرصفي ثلة من ألمع التلاميذ منهم من تتلمذ له مباشرة في دار العلوم، ومنهم من تأثر بفكره ومنهجه، أمثال أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي، وحسن توفيق العدل، وحفني ناصف، وزين المرصفي، والشيخ الإمام محمد عبده، وكلهم منارات على طريق التجديد والتنوير، ولكن ظل الإمام محمد عبده أكثرهم تأثيرًا وفاعلية في مسيرة التنوير المصرية. ثم كان جيل الثورة العرابية الذين يرجع لهم الفضل في تأسيس الحياة النيابية في مصر مبكرًا. ولم يشذ عن هذه القاعدة سوى جمال الدين الأفغاني الذي أنكر الوطنية والمواطنة، ولكن لم تترك أفكاره تأثيرًا كبيرًا على الساحة المصرية لشدة مناعتها آنذاك ضد هذه الأفكار الصحراوية والجبلية. وظلت مصر تسير في الإتجاه الصحيح رغم الاحتلال والفوارق الطبقية الحادة وبعض العثرات المؤقته، وتمكنت من السير في طريق الدولة القومية المدنية الديمقراطية الحديثة بعد ثورة 1919م، وامتدت الثورة الفكرية التي أشرقت منذ بداية القرن العشرين في جميع المناحي المصرية إلى أغلب الدول العربية صاحبة الرصيد الحضاري التاريخي. حيث بزغت في تلك الفترة العديد من الأفكار الجديدة في السياسة والأدب والفن والشعر العربي والاجتماع، والتي تدعو إلى التجديد والتحرر وإعمال العقل، فظهرت كتابات قاسم أمين التنويرية العظيمة بالغة الأثر آنذاك، كما كان لافتتاح الجامعة المصرية عام 1908 الدور الأبرز في ميلاد عميد الأدب العربي طه حسين الذي عمل على بث روح جديدة في الفكر العربي قائمة على “الشك”، ومبنية على اليقين، فكان مع رفاقه في تلك الحقبة، مثل توفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل وحسين فوزي مواجهي (الجمود الفكري)، كما شهدت مصر مولد أبو الليبرالية المصرية عباس العقاد، وسلامة موسى، وشبلي شميل، وإسماعيل مظهر، وفي الفقه شهدت مصر شيوخ أجلاء مستنيرين وعظماء أمثال الشيخ مصطفى المراغي، والشيخ علي عبدالرازق، والشيخ مصطفى عبدالرازق، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ عبدالمتعال الصعيدي، والشيخ علي إسماعيل، والشيخ محمود إسماعيل.
ولكن على عكس الثورة الثقافية والتنويرية الأوروبية، التي واكبت مولد طبقة وسطى أوروبية مستقلة وتقدمية وثائرة على الإقطاع والكنيسة، وداعمة بكل قوة لتوطيد أركان الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. شهدت مصر والمنطقة العربية منذ الثلاثينيات من القرن العشرين ظهور تيارات رجعية كان أهمها التيار الوهابي الظلامي كما أوضحنا، والذي دعم وجوده أسباب موضوعية كثيرة، منها تشوه النمو الرأسمالي، وضعف الحركة العمالية، وتخلف الريف المصري اقتصاديا وثقافيا، وهشاشة الطبقة الوسطى التابعة في أغلبها للطبقات السائدة، وعدم إنجاز البرجوازية المصرية الوليدة لقضيتي التنوير والثورة الثقافية، فضلًا عن تردي الوضعين السياسي والاقتصادي بالمنطقة في تلك الفترة. مما خلق الأسباب الموضوعية لترعرع التيارارت الدينية الوهابية، والتي كانت تعمل جاهدة بالتعاون مع السلطة الحاكمة لمواجهة تيارات الحداثة والتنوير في كافة الجوانب. وبدأت مواجهة فكرية طاحنة بين حركة المجددين، والمحافظين الجدد. تمكنت خلالها الفاشية الدينية التي اجتاحت مصر بزعامة الأزهر (بصيغته الوهابية) والإخوان المسلمين الوهابيين، من الانقضاض على كل مكتسبات الأمة المصرية الثقافية والتنويرية والاجتماعية والسياسية والحضارية، كما سعوا لتأييد وتأصيل الفكر الاستبدادي ودعمه، فمهدت الأمة المصرية لقبول أي نوع من الاستبداد، حيث أصبح إعمال العقل جريمة يُحارب صاحبها في مصر وشتى البلدان العربية، وهي التهمة التي قادت أحد أهم عظماء الأمة المصرية وهو طه حسين إلى أروقة المحاكم، بدعوى الإساءة المتعمدة للدين الإسلامي والقرآن الكريم، وسعى الأزهر والإخوان المسلمين إلى قتل أفكار تجديد الإمام محمد عبده وإجهاض دعوات قاسم أمين وأحمد لطفي السيد بتحرير المرأة. وتكرر ذلك مع أغلب مفكري مصر، علاوة على الإساءة المعنوية البالغة لهم ولأعمالهم الفكرية والتنويرية الهامة، لتفقد مصر فاعلية وتأثير مجهوداتهم العظيمة على الجماهير المصرية، ليحل محلها فكر ظلامي وتكفيري وإرهابي ورجعي ومتخلف وعقيم، لا يعرف الإبداع أو الابتكار أو التجديد، ولا يؤمن بالتنوع والتعدد الصحي، ويقدس التكرار والتقليد والثبات والنمطية. وهو فكر غريب على الأمة المصرية التي ظلت مازجة للحضارات والثقافات ومتعايشة مع الآخر في كل أحوالها، ومحبة للعلم والأدب والفن، ومبجلة للعلماء والشعراء والأدباء والمفكرين، وعاشقة للفن والفنانين، ومتفتحة على التقدم والتطور والنهوض متى سُنحت لها الفرصة. كما سعت الوهابية بكل جهد إلى لتزييف العقل المصري، وضرب الهُوية والقومية المصرية، وتحريف التاريخ المصري وتشويهه، وقهر المرأة المصرية وضرب المكتسبات الاجتماعية والدستورية والقانونية التي حصلت عليها، وتقزيم الأمة المصرية. فأجهضت الوهابية بذلك المشروع التنويري المصري الأول والأهم في تاريخ الأمة المصرية.

التعليقات