السبت - الموافق 07 سبتمبر 2024م

(17) “عصر الدول المستقلة.. دولة المماليك 5-5”.. بقلم الكاتب والباحث: محمد السني.

ألقينا الضوء سابقًا على المفهوم التقدمي للاستقلال الوطني، ثم تطرقنا إلى كل من نشأة الأمة المصرية قبل التاريخ في مقالة منفصلة، وعصر الأسر الفرعونية في ثلاث مقالات متصلة، ومقالتين متصلتين عن “مصر البطلمية”، ومقالتين متصلتين عن “الاحتلال الروماني”، ومقالة منفصلة عن “العصر القبطي والقومية المصرية”، ومقالة منفصلة عن الحكم العربي، وأربع مقالات متصلة عن عصر الدول المستقلة، ومقالتي هذه هي الخامسة والأخيرة في عصر الدول المستقلة وذلك عن “دولة المماليك”.

الدولةُ المملوكيةُ هي إحدى الدول المستقلة التي قامت في مصر في العصور الوسطى المصرية، وامتدت حدودها لاحقا لتشمل الشام والحجاز. ويقسم المؤرخون الدولة المملوكية إلى دولتين متعاقبتين كانت عاصمتهما القاهرة، هما دولة المماليك البحرية (1250 – 1382)، ثم تلتها مباشرة دولة المماليك البرجية (1382 – 1517). والمماليك هم سلالة من الجنود تعود أصولهم إلى آسيا الوسطى. وكانوا يؤسرون في الحروب أو أطفالًا صغارًا يخطفون في غارات لصوصية أو كسبايا في حروب يتم عرضهم على مندوبي الدول والحكومات في أماكن خاصة حيث يتم افتداؤهم بمبالغ مالية تدفع للمسؤولين عنهم. وقد بدأت فكرة الاستعانة بالمماليك في الشرق الأدنى منذ أيام العباسيين، وأول من استخدمهم كان الخليفة المأمون، وتوسع الخليفة العباسي المعتصم بالله في استخدام جنود تركمان ووضعهم في الجيش كي يعزز مكانته بعد ما فقد الثقة في العرب والفرس الذين قامت عليهم الدولة العباسية. وشجع ذلك الخلفاء والحكام الآخرين في جلب المماليك، فاستخدم حكام مصر من الطولونيين والأخشيديين والفاطميين والأيوبيين المماليك، وكان أحمد بن طولون (835-884م) يشترى مماليك الديلم من جنوب بحر قزوين، كما تم جلب الأسرى من القفقاس وآسيا الصغرى إلى مصر من قبل السلطان الصالح أيوب. ويشرح لنا المقريزي كيف كان يُربى المملوك الصغير الذي يُشترى وهو ما زال في طفولته المبكرة، فيقول “إن أول المراحل في حياة المملوك هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، ثم بعد ذلك يُدفع إلي من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي، وآداب الشريعة الإسلامية.. ويُهتم جداً بتدريبه على الصلاة، وكذلك على الأذكار النبوية، ويُراقب المملوك مراقبة شديدة من مؤدبيه ومعلميه، فإذا ارتكب خطأً يمس الآداب الإسلامية نُبه إلى ذلك، ثم عُوقب”. وبذلك لم يكن المماليك عبيدًا بمعنى الكلمه وبمفهومها المعروف، وكانت العلاقه بين المملوك والسلطان أو الأمير علاقة “أستاذية”. وكان السلطان يحدد لكل مملوك مستجد راتب نقدي يسمى “جامكيه”، بالإضافة إلى تموين شهري، وبعد أن يلتحق المملوك بخدمة أمير يُمنح إقطاع، بمعني ريع من أرض زراعية، ويزداد هذا الإقطاع مع كل ترقية، ويستمر المملوك في الترقية حتى وتبة نائب أو موظف دولة كبير، ويكون من حقه أن يتملك مماليك، ويكون جيش صغير قد يصل إلى ألف مملوك. وكانت جيوش الأمراء تشكل جزءً من جيش مصر، ويعسكرون عادة خارج القاهره، بعكس مماليك السلطان فكانوا يعسكرون في القاهرة. وكان هناك ما يسمى “أجناد الحلقة” ويتم تجنيدهم من مماليك أحرار ولدوا في مصر ومن عامة الناس من المصريين وكانوا يمثلون الجزء الثالث من الجيش المصري. وكانت أعلى درجة إمارة هي “أمير مائة مقدم ألف”، وبعدها “أمير طبلخاناه” (أي أمير يضربون له الطبل على بابه)، ثم “أمير عشرة”، ثم”أمير خمسة” وهذه كانت أقل درجة. وكان كل أمير بمثابة سلطان صغير والفرق بينه وبين السلطان كان في حجم الامتيازات وخضوع الأمير للسلطان. ووقت الحروب كان المماليك يعلنون حالة طوارىء تسمى “النفير العام” ويتطوع عامة الناس في الجيش ويتم ترحيلهم إلى جبهات القتال.

بعد وفاة الملك الكامل ناصر الدين محمد الأيوبي خامس سلاطين الدولة الأيوبية سنة 1238م، عارض مماليكه ما جرى من تنصيب ابنه الأصغر سيف الدين أبو بكر، وتآمروا على خلعه سنة 1240م، وهزموا من ناصره من الكرد، وفرضوا رغبتهم بتنصيب نجم الدين أيوب بن محمد على العرش السلطاني، فاستدعي الأخير من حصن كيفا في الجزيرة الفراتية لتولي السلطة في مصر، التي دخلها في سنة 1240م، وجلس على العرش وتلقب بالملك الصالح. كانت قضية تنصيب الملك الصالح سابقةً في تاريخ مصر والشام، إذ قام المماليك لأول مرة بدور سياسي ضاغط، فأضحوا الأداة الطيعة للسلاطين الأيوبيين للاحتفاظ بسلطانهم وتفوقهم، مما أدى إلى تضخم نفوذهم السياسي، وازدادوا شعورًا بأهميتهم. وأدرك الصالح أيوب مدى أهمية المماليك للاستمرار في الحكم مما دفعه إلى الإكثار من شرائهم إلى درجة لم يبلغها غيره من الايوبيين، حتى أضحى معظم جيشه منهم، واختار جزيرة الروضة في نهر النيل لتكون مقرًا لهم، فعرفوا منذ ذلك الحين باسم “المماليك البحرية الصالحية”. وبينما كانت الحرب قائمة في دمياط ضد حملة الفرنج السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، مات آخر سلاطين بني أيوب، وهو الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة 1249م، فكتمت زوجته شجرة الدر نبأ موته، وكانت قد أظهرت رباطة جأش، وذكاء شديدين، وكفاءة عالية في إدارة شؤون البلاد في فترة من أخطر الفترات التي مرت بها مصر في تاريخها، وأرسلت تدعو ابنه الوحيد توران شاه من حصن كيفا، للقدوم إلى مصر على عجل ليتولى الحكم، وأمسك المماليك بزمام الأمور بقيادة فارس الدين أقطاي الجمدار، الذي أصبح القائد العام لجيش المماليك، ووضع زعيمهم بيبرس البندقداري خطة عسكريةً محكمةً كفلت النصر على الإفرنج، وأعد توران شاه خطةً أخرى ضمنت النصر النهائي على الفرنج في فارسكور، فهزم هؤلاء هزيمةً كبرى وأُفني جيشهم على يد المماليك، ووقع لويس التاسع نفسه في الأسر. على هذا الشكل انتهت حملة الإفرنج السابعة على مصر بفضل جهود المماليك. ولكن بعد هذا النصر تنكر توران شاه للدور الذي قامت به شجرة الدر، وكذلك حاول أن يقدم مماليكه الذين اصطحبهم معه من الجزيرة، فعينهم في مناصب الدولة، وأظهر بذلك قصر نظر شديد. فما كان من المماليك القدماء في مصر إلا أن تآمروا عليه وقتلوه، ثم نصبوا شجرة الدر سلطانة عليهم في سنة 1250م.

لم يرض كلًا من الأيوبيين في دمشق والخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد بانتزاع المماليك عرش الأيوبيين في مصر وتنصيب امرأة وهي شجرة الدر، ورفضا الاعتراف بسلطانها، وبعث الخليفة المستعصم إلى الأمراء في مصر كتابًا يقول لهم “إن كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتى نسير إليكم رجالًا”. عدم اعتراف كلًا من الخليفة العباسي وكذلك الأيوبيين في دمشق بسلطنة شجرة الدر، أربك المماليك في مصر وأقلقهم، فتزوجت شجرة الدر من أيبك وتنازلت له عن العرش بعد أن حكمت مصر ثمانين يومًا بإرادة صلبة وحذق متناهي في ظروف عسكرية وسياسية غاية في التعقيد والخطورة. ونُصب أيبك سلطانًا وأتخذ لقب الملك المعز. وفي محاولة لإرضاء الأيوبيين والخليفة العباسي قام المماليك باحضار طفلًا أيوبيًا في نحو العاشرة من عمره، وسلطنوه باسم “الملك الأشرف مظفر الدين موسى” وأعلن أيبك أنه ليس سوى نائبًا للخليفة العباسي وأن مصر لا تزال تابعة للخلافة العباسية كما كانت من قبل. ولكن الملوك الأيوبيين فطنوا لتلك الحيلة، وأدركوا أن الأشرف موسى لم يكن له غير الاسم، في حين كانت الأمور كلها بيد أيبك، وقرروا الزحف نحو مصر. والتقى الجيشان، المملوكي والأيوبي في فبراير سنة 1251م عند قرية العباسة بين مدينتي بلبيس والصالحية، وانتصر المماليك وعادوا ظافرين ومعهم الأسرى إلى القاهرة. بعد هذه الموقعة بشهر، أرسل أيبك جيشًا ناحية غزة فاستولى عليها، ويبدو أن موجة الرعب التي أثارها المغول أثناء زحفهم من آسيا الوسطى باتجاه المشرق العربي، وأخبار وحشيتهم، جعلت الطرفان يتقاربان، فانتهى الصراع الأيوبي المملوكي عند هذا الحد.

كان الاستيلاء على العراق من ضمن السياسة المغولية العامة القاضية بالتوسع في غرب آسيا والسيطرة على ما تبقى من بلاد المشرق، فوضع القائد المغولي هولاكو خطته العسكرية لتحقيق ذلك، وبدأ بغزو العراق التي سرعان ما سقطت وقُتل الخليفة المستعصم وبذلك انتهت دولة الخلافة العباسية التي عمرت ما يزيد عن خمسة قرون. وكان السلطان المملوكي عز الدين أيبك قد قُتل قبل سنة من سقوط بغداد، على يد بعض غلمانه نتيجة تحريض زوجته شجرة الدر بعد ازدياد الوحشة بينهما، ولم تلبث شجرة الدر أن قُتلت هي الأخرى أيضًا على يد جواري امرأة أيبك الأولى أم نور الدين علي. وعلى أثر مقتل أيبك، بايع المماليك ابنه نور الدين علي، وعمره خمس عشرة سنة، ولقبوه بالملك المنصور. عاشت البلاد في تلك الفترة حالة قلق واضطراب وعدم استقرار بسبب عدم إلمام المنصور بشؤون الحكم ولتنافس الأمراء على تبوء العرش، بالإضافة إلى وصول خبر سقوط بغداد واستباحتها ومقتل الخليفة، ومسير المغول نحو الشام، فشاع الخوف والقلق بين الناس، وأصبح الوضع حرجًا يتطلب وجود رجل قوي على رأس السلطنة، وعلا في هذه الأوضاع المضطربة نجم الأمير سيف الدين قطز، نائب السلطنة كأقوى أمير مملوكي، فأخذ على عاتقه توحيد صفوف المماليك من مشكلة الحكم، وأقدم على عزل المنصور نور الدين علي في نوفمبر سنة 1259م بمساعدة الأعيان والأمراء، وتربع على عرش السلطنة المملوكية ليتفرغ لمواجهة المغول. وكانت مدن الشام قد سقطت الواحدة تلو الأخرى في يد المغول، فساروا من حلب إلى دمشق ثم بعلبك نزولًا إلى فلسطين حتى بلغوا غزة. وأرسل هولاكو إلى قطز خطاب تهديد ووعيد يطلب منه التسليم ويقول له “يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلطه على من حل به غضبه… فاتعظوا بغيركم.. فنحن لا نرحم من بكى ولا نرق لمن شكى…”. ولكن قطز لم يجبن أمام ذلك التهديد، فقتل رسل المغول وعلق رؤوسهم على باب زويلة، وقرر الخروج للتصدي للمغول، وخرج بجيشه نحو فلسطين، فقابل جيش المغول في 3 سبتمبر عام 1260م في سهل “عين جالوت” حيث دارت بين الطرفان معركةٌ حامية الوطيس أُفني فيها الجيش المغولي عن بكرة أبيه، وقُتل قائده كتبغا. ثم حرر المماليك باقي مدن الشام من المغول، وأعلن قطز وحدة الشام ومصر مجددًا، قبل أن يقفل ويرجع إلى القاهرة، التي أصبحت منذ ذلك الحين قبلة العلماء والأدباء النازحين من العراق والشام والبلاد التي دمرها المغول. وبعد زوال الخطر المغولي عن مصر والشام الذي أجبر المماليك جميعًا على الاتحاد، تجددت النزاعات بين قطز ومماليكه المعزية من جهة وبين المماليك البحرية بقيادة الأمير بيبرس البندقداري من جهة أخرى. وانتهت باغتيال قطز على يد بيبرس يوم 22 أكتوبر عام 1260م، فبايع الأمراء والجند بيبرس سلطانًا على مصر والشام. وبالرغم من الانتصارات التي حققها بيبرس ضد المغول لاحقًا، إلا أنه رأى يعيد الحياة إلى الخلافة بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد ومقتل الخليفة المستعصم، على أن يكون مقرها القاهرة، ليحيط عرشه بسياج من الحماية الروحية. وكان قد وصل في ذلك الوقت أمير عباسي هو أبو القاسم أحمد، فارًا من وجه المغول، فاستدعاه بيبرس فورًا إلى القاهرة، واستقبله استقبالًا حافلًا وبويع بالخلافة صباح يوم الإثنين 15 يونيو عام 1261م، وكتب بيبرس إلى سائر السلاطين والأمراء والنواب خارج مصر لكي يأخذوا البيعة للخليفة الجديد، وأمرهم بالدعاء له على المنابر قبله وأن تنقش السكة باسميهما. وقام الخليفة العباسي بدوره، فقلد بيبرس البلاد الإسلامية وما ينضاف إليها، وما سيفتحه من بلاد في دار الحرب، وألبسه خلعة السلطنة. وبذلك اكتسب بيبرس صفة السلطان الشرعي، فأمن بذلك منافسة الأمراء له. ثم رأى بيبرس ضرورة ضم بلاد الحجاز، واستتبع ذلك ضم بلاد اليمن.

بعد توطيد أركان الدولة المملوكية، وإنزال الهزيمة القاسية بالمغول، اعتبر بيبرس أن الوقت قد حان لاستعادة البلاد التي احتلها الإفرنج منذ حوالي القرن من الزمن، ورغم بعض الاحتكاكات بينهما إلا أن الحرب الشاملة التي شنها بيبرس على الإفرنج لم تبدأ إلا في عام 1265م، وأخيرًا توج بيبرس جهوده ضد الإفرنج باسترجاع أنطاكية في شهر مايو سنة 1268م. وكانت خسارة الإفرنج بسقوط أنطاكية ضخمة، لأنها كانت كبرى إماراتهم بالشام، وثاني إمارة أسسوها بعد الرها، لذلك جاء سقوطها إيذانًا بانهيار البناء الإفرنجي بالشام، بحيث لم يبق لهم بعد ذلك من المدن سوى عكا وطرابلس. ولم ينقطع العداء بين المماليك والمغول منذ موقعة عين جالوت سنة 1276م، فأعد بيبرس حملةً كبيرة لغزو الأناضول لتأمين حدوده الشمالية من غارات المغول المتكررة على أطراف الدولة المملوكية الشمالية بالعراق والشام، وسار على رأس جيوشه شمالًا. وفي موقعة البستان حلت هزيمة ساحقةً بالمغول ومن حالفهم من السلاجقة، فقُتل عدد ضخم من رجالهم، وبعد ذلك دخل بيبرس قيصرية ودُعي له على منابرها، وقدم له أمراء السلاجقة فروض الولاء والطاعة ثم قفل راجعًا إلى الشام.

لم يعش بيبرس طويلًا بعد حملته على بلاد الأناضول، إذ توفي في دمشق يوم 29 يونيو عام 1277م. وكان قد أوصى بولاية العهد إلى ابنه البكر السعيد بركة، ولكن المماليك أجبروه على التنازل عن السلطنة سنة 1279م، ولم يكن قد مضى على قيامه في منصب السلطنة عامان. واُختير الابن الثاني لبيبرس وكان في السابعة من عمره، وهو الأمير بدر الدين سلامش، سلطانًا سنة 1279م، في حين أصبح الأمير قلاوون وصيًا عليه. واستغل قلاوون وصايته للاستئثار بالسلطة والتخلص من المماليك الظاهرية (مماليك الظاهر بيبرس). ثم عزل سلامش قبل أن يمضي عليه في السلطنة ثلاثة أشهر، وحل محله. وبتولي الأمير قلاوون العرش المملوكي، قامت السلالة القلاوونية التي استطاعت أن تحتفظ بمنصب السلطنة في ذرية هذا الرجل قرابة قرن، فكانت بذلك مثلًا فريدًا في دولة المماليك، إذ شذت عن قاعدة عدم توريث الملك التي آمن بها المماليك. هذا إلى أن العصر الذي حكمت فيه أسرة قلاوون يمثل عصر الازدهار في الدولة المملوكية، إذ ظهرت في ذلك العصر جميع مميزات تلك الدولة، واكتملت فيه معالمها مثلما ازدهرت حضارتها، وذلك بعد أن انتهى الدور التأسيسي الذي نهض به السلطان الظاهر بيبرس. وكان قلاوون نفسه على قدر من الذكاء وبعد النظر في شؤون الحرب والسلم والسياسة والدبلوماسية، ووصفه المؤرخون الذين عاصروه بأنه كان إنسانًا حليمًا عفيفًا في سفك الدماء مقتصدًا في العقاب، كارهًا للأذى، وأنه كان رجلًا مهيبًا شجاعًا.

بعد أن تخلص السلطان قلاوون من الأخطار الداخلية التي واجهته، بدأ ينصرف نحو المغول والإفرنج الذين ما فتئوا يهددون الشام من وقت لآخر. وفي أكتوبر عام 1281م دارت بين المماليك والمغول “موقعة حمص”، هزم فيها المغول هزيمة ساحقةً وفروا إلى العراق. وفي سنة 1285م، استغل قلاوون انشغال الإفرنج بمنازعاتهم الداخلية، فهاجم الإسبتارية في حصن المرقب واستولى عليه، مما سبب خسارة كبرى للإفرنج. ثم أرسل حملةً استرجعت اللاذقية سنة 1278م، وهي آخر بلد كان قد تبقى للإفرنج من إمارة أنطاكية، ثم خرج قلاوون من مصر على رأس جيشه قاصدًا طرابلس، وذلك في فبراير سنة 1289م. وسقطت طرابلس في قبضته بعد أن احتلها الإفرنج طيلة مائة وثمانين سنة. ولم يكد السلطان قلاوون يفرغ من استعداداته الحربية، ويغادر القاهرة لحرب الإفرنج في الشام واسترجاع عكا، حتى توفي فجأة يوم 10 نوفمبر 1290م. وأقسم الأُمراء الأيمان لابنه السلطان خليل ولقبوه بالأشرف، فخلع عليهم ثم تأهب للخروج إلى الشام. خرج الأشرف خليل من القاهرة في شهر فبراير سنة 1291م، في طريقه إلى دمشق ثم غادرها إلى عكا. وبدأ حصار المدينة ورميها بالمجانيق رميًا متواصلًا. وقد بذل الإفرنج جهدًا مستميتًا للدفاع عن عكا، ولكن اقتحم المماليك المدينة في 18 مايو عام 1291م، وفر الإفرنج في السفن الراسية إلى عرض البحر، حيث غرقت بعض السفن بسبب كثرة من تحمله من الفارين، ووقع من بقي منهم في الأسر. كانت استعادة المماليك لعكا بمثابة الضربة الكبرى الختامية التي نزلت بالإفرنج في الشام. ولم يصبح للإفرنج بعد ذلك مقام في تلك البلاد، فاسترجع المماليك في سهولة المراكز القليلة الباقية بأيديهم مثل صور وصيدا وطرطوس وعثليث، وأجلوهم عن تلك البلاد، فركبوا البحر عائدين إلى بلادهم الأوروبية، لتختتم بذلك صفحة الحروب الإفرنجية في المشرق بعد أن مضى عليها قرنان من الزمن.

قُتل الأشرف صلاح الدين خليل في ديسمبر عام 1293م، بعد أن تآمر عليه بعض أمراء المماليك، وأعقب ذلك العديد من المؤامرات وحوادث قتل انتهت إلى اختيار محمد بن قلاوون أخي الأشرف خليل سلطانًا. وكان السلطان الجديد ما يزال طفلًا صغيرًا لم يتجاوز عمره تسع سنوات وتعرض بدوره للعزل ولكن أعقب ذلك عدة اغتيالات واضطرابات أدت إلى عودته للحكم للمرة الثانية. وكان ذلك في الوقت الذي خرج جيش كبير من المماليك على رأسه السلطان الناصر محمد قاصدًا الشام عام 1299م بعد تعرضه لهجمات متكرره من المغول، وقد استطاع المماليك دخول دمشق وطرد المغول منها. ثم انتصر المماليك في موقعة مرج الصفر التي دارت قرب دمشق في تلك السنة وحلت هزيمة قاسيةً بالمغول، الأمر الذي جعل الناس يفرحون بالناصر محمد رغم صغر سنه ويستقبلونه استقبالًا حارًا في دمشق والقاهرة. ورغم ذلك تآمر عليه الأمراء وعزلوه وانتخبوا بيبرس الجاشنكير بدلًا منه. ولكن الناصر محمد استطاع العودة إلى الحكم للمرة الثالثة بعد فشل بيبرس وتدهور أحوال البلاد في عهده لأسباب كثيرة، مما دفع الناس يطوفون في شوارع القاهرة للمطالبة بعودة الناصر محمد.

كان السلطان قلاوون قد فقد ثقته بالمماليك الظاهرية نتيجة لتآمر بعضهم وتسببهم في كثير من التاعب له، فأنشأ في سنة 1282م طائفة المماليك الشراكسة، وهو عنصر جديد من أصل قوقازي، وظل قلاوون يعمل على الإكثار من شراء هذا العنصر وأنزلهم في أبراج قلعة القاهرة، لذلك عُرفوا باسم “المماليك البرجية” تميزًا لهم عن المماليك البحرية. وقد أدوا هؤلاء المماليك البرجية دورًا في الانتقام من قتلة الأشرف خليل ابن قلاوون، وتولية أخيه الناصر محمد برغم أنه كان صبيًا في الثانية عشرة من عمره، ونتيجةً لضعف بيت قلاوون وتزايد نفوذ الجراكسة، أخذ هؤلاء الجراكسة يعملون لحساب أنفسهم، ولكنهم وجدوا منافسةً قوية من المماليك التركمان، وتأرجحت السلطةُ بين الفريقين، ترجح كفة كل منهما حينًا، حتى ظهر فيهم الأمير برقوق الذي نجح في الاستئثار بالحكم عام 1382، وتلقب البظاهر سيف الدين، وأسس دولةَ المماليك البرجية التي امتدت مائة وأربعة وثلاثين سنة، وكان برقوق وسلالته، من أوائل حكام هذه الدولة. وخاض برقوق وابنه فرج عدة معارك محدودة مع التتار بعد تولي تيمورلنك التتار بغداد سنة 1393م، والذي خضعت له الجزيرة بأسرها سنة 1394م. ثم خلع المماليك فرج سنة 1405م، وولوا أخاه، ثم استطاع أن يعود إلى الملك فخرج في عدة غزوات إلى الشام، لتوطيد الملك، وإخضاع الثائرين من الامراء. ثم ولي الملك الأشرف برسباي من عام 1422م إلى عام 1437م، وتم في عهده فتح قبرص، وأصبحت قبرص جملة من بلاد السلطان الملك الأشرف برسباي، وفي سنة 1437م مات برسباي وولي من بعده ابنه، ثم عدة سلاطين لم يكن لهم ذكر في التاريخ، حتى ولي الأشرف قايتباي من عام 1468م إلى عام 1497م، وهو أطول ملوك هذه الدولة حكما.

بعد اكتشاف البرتغال لطريق رأس الرجاء الصالح، أدى هذا الطريق إلى انهيار المماليك اقتصاديا، حيث كانت المكوس التي يحصلون عليها نظير مرور القوافل من الأراضي المملوكية من المصادر الأساسية للاقتصاد عندهم، مما أدى إلى قيام معركة ديو البحرية عام 1509، ونتج عنها تدمير الأسطول المملوكي بعد انتصار البرتغال على المماليك، مما أدى إلى ضعف دولة المماليك، وفي الوقت ذاته كان السلطان العثماني سليم الأول يريد توسيع ممتلكات الدولة العثمانية، وشجعه على ذلك مساعدة المماليك للصفويين ضد الدولة العثمانية، فبادر سليم الأول بالاستيلاء على إمارة ذي القادر المملوكية، والتي تقع على الحدود بين دولة المماليك، والدولة العثمانية، فخرج السلطان قنصوه الغوري من مصر إلى الشام، ودارت المعركة عند مرج دابق، والتي سميت المعركة باسمها، وذلك في 8 أغسطس 1516، مما أدى إلى هزيمة المماليك، وانتصار العثمانيين، وقتل السلطان قنصوة الغوري، وتولى طومان باي الحكم من بعده. فعرض عليه السلطان العثماني سليم الأول أن يعترف بسيادة العثمانيين، ودفع خراج سنوي لهم، فأبى طومان باي، فبرز اليه سليم الأول، فانهزم طومان باي على حدود الشام الجنوبية، فتتبعه السلطان سليم حتى مدينة القاهرة، حيث التقى الجيشان العثماني والمملوكي في موقعة الريدانية، عند صحراء العباسية، وذلك في 22 يناير 1517، وانتصر العثمانيون برغم الدفاع المستميت للماليك، ووقع طومان باي في يد العثمانيين بسبب خيانة أحد أتباعه له، فأعدمه العثمانيون على باب زويلة.

وبذلك نجد أن سمات العصور الوسطى التي سادت خلال الدول الخمسة المستقلة التي ألقينا الضوء على أهم ملامحها وسماتها ودورها التاريخي الإيجابي والرائع في مسار تطور الأمة المصرية، تجلت في أوضح صورها في عصر المماليك، وهو نموذج شبيه لما ساد في أوروبا في العصور الوسطى الأوروبية، من حيث الإقطاع والفرسان والقلاع وغيرها، مع مراعاة أن عصور مصر الوسطى كانت أكثر تقدمًا وتطورًا وحضارة وإنسانية من نظيرتها الأوروبية، وأقل ظلامية وبؤسًا لما كان يحدث في أوروبا إبان عصور الظلام الأوروبية. ولم يكن الحكم المملوكي في أغلبه وراثيًا، إذ تزعم دولة المماليك عادة سلطان لم يتول الحكم نتيجةً الوراثة، وإنما رشحته قوته ومواهبه وكثرة مماليكه لتولي ذلك المنصب. فإذا توفي السلطان القائم أتيحت الفرصة لأقوى الأمراء أن يخلفه في الحكم. وربما رأى ذلك الأمير أن الظروف غير مواتية وأن هناك من زملائه الأمراء من ينافسه، فيلجأ في تلك الحالة إلى تعيين ابن السلطان المتوفى مكان أبيه، لا اعتقادًا من المماليك في أحقية ذلك الابن، ولكن كحل مؤقت حتى يتجلى الموقف، وعندئذ يسهل على أقوى الأمراء عزله واعتلاء عرش السلطنة بدلًا عنه. ومع أن سلطان المماليك تمتع بنفوذ واسع في الدولة، وبخاصةً فيما يتعلق ببعض الأمراء وملء المناصب الكبرى في الدولة، وتوزيع الإقطاعات، إلا أنه لم يستغن في أحوال كثيرة عن استشارة كبار رجال الدولة في مهام الأمور، وبخاصةً في المسائل المتعلقة بشن الحرب أو عقد السلم. ولذلك وُجد في عصر المماليك مجلس المشورة الذي كان يُعقد برآسة السلطان أو من يقوم بالوصاية عليه، وعضوية أتابك العسكر والخليفة العباسي والوزير وقضاة المذاهب الأربعة وأمراء المئين وعددهم أربعة وعشرين أميرًا. هذا مع ملاحظة أن السلطان لم يكن ملزمًا بدعوة مجلس المشورة أو الأخذ برأيه، وإنما ترك ذلك لرغبة السلطان ومشيئته. وكان نائب السلطنة هو أرفع الوظائف في الهرم الإداري المملوكي بعد السلطان مباشرة، حيث أحيا المماليك منصب نائب السلطنة الذي استحدثه صلاح الدين الأيوبي، ووصف القلقشندي منصب نائب السلطنة في العصر المملوكي بقوله “سلطانًا مختصرًا، بل هو السلطان الثاني”، وكان له من المكانة والنفوذ ما يكفل قيامه بتصريف شؤون الدولة في حضور السلطان وفي غيابه، فهو مساعد للسلطان أثناء حضوره، وسلطان آخر يقوم بمهامه ومسؤولياته أثناء غيابه أو في حال تفويض السلطان له بتصريف شؤون الدولة دون الرجوع إليه، أو إذا كان السلطان صغير السن لا قدرة له على القيام بأعباء السلطنة، فتُلقى تبعتها على نائب السلطنة بتفويض منه. وقد وُجد إلى جانب سلطان المماليك ونائب السلطنة عدد من كبار الموظفين، مهمتهم المساعدة في شؤون الحكم والإدارة، وعلى رأس هؤلاء الموظفين الكبار نواب السلطنة في الأقاليم، والأتابك، وهو القائد العام للجيش المملوكي، وقد أتاحت له وظيفته التمتع بنفوذ كبير في الدولة. وتضاءلت وظيفة الوزير في عصر المماليك نتيجةً لوجود نائب السلطنة، بحيث لم تتعد اختصاصاته تنفيذ تعليمات السلطان ونائب السلطنة والإشراف على شؤون الدولة المالية. أما الإدارة المحلية في المدن والأقاليم فقد تولى الإشراف عليها عدد كبير من الولاة اُختيروا دائمًا من بين الأمراء. وبالإضافة إلى الشؤون السياسية والإدارية كانت إحدى مهام السلطان المملوكي تتمثل في تعيين أمير الحج للإشراف على راحة وسلامة الحجاج والاشراف على إعداد كسوة الكعبة كل عام. وكانت شجرة الدر أول من كسى الكعبة من سلاطين المماليك، عندما أخذت معها كسوة الكعبة أثناء سفرها للحج، وسار على نهجها من تلاها من السلاطين، ثم أصبح ذلك يتم في احتفال عظيم يُسمى “المحمل المصري”، وأول احتفال بالمحمل كان في عهد الظاهر بيبرس. كما كان لقب “خادم الحرمين الشريفين” من ألقاب سلاطين مصر في العصر المملوكي. وقام المماليك بأعمال كثيرة وهامة، مثل تنظيم البريد، فخصصوا له المراكز على الطرق، وأمدوها بالخيل والبغال، ورغم أن استخدام الحمام الزاجل في نقل الرسائل كان معروفًا منذ خمسة قرون قبل ذلك، أيام الخلفاء العباسيين الأوائل في بغداد، لكن المماليك بذلوا مجهودًا كبيرًا في تطوير هذه الوسيلة، وبلغوا بها حد الكمال، كما ابتكروا نوعية خاصة خفيفة من الورق استخدمت في كتابة الرسائل قبل أن تثبت تحت جناح الحمام الزاجل.

كان لدولة المماليك علاقات ندية وريادة مع مختلف الدول المحورية والمؤثرة عالميًا آنذاك، فمن ناحية الشرق ظلت علاقات المماليك متوازنة مع الصفويين ولكنها توطدت عام 1514، وذلك عندما خسر الصفويون في نزاعهم مع العثمانيين فاتجهوا إلى تحسين علاقاتهم مع دولة المماليك باعتبارها قوة إقليمية هامة آنذاك. ومن ناحية الغرب كانت العلاقات بين المماليك والحفصيين في تونس جيدة وودية، وذلك بسبب الخطر المشترك عليهما من البحر المتوسط، مما دفع الدولتين إلى التعاون لرد الاعتداءات الخارجية. وبالنسبة لعلاقة المماليك ببعض القوى الأوروبية، فقد اجتذبت موانئ مصر المدن التجارية الإيطالية، مثل البندقية وجنوة وبيزا، بفضل التكاليف الزهيدة للبضائع القادمة من الشرق الأقصى عبر هذا البلد، إضافةً إلى ميزة الحصول على حاصلات الأراضي المصرية ومنتجاتها الصناعية، لكن توثيق العلاقات السلمية مع مصر لم يكن بالسهولة التي تبدو لأول وهلة، بسبب عداوة المماليك للإفرنج في بلاد الشام. بينما اختلف الوضع مع إمارات أوروبا الغربية مثل قشتالة وأرغونة وإشبيلية، وقد ارتبطت صقلية بعلاقات طيبة مع حكام مصر منذ العهد الأيوبي، وتمتع الصقليون في مصر بتخفيض في التعريفات الجمركية، واستمرت هذه العلاقة الطيبة طيلة عهد دولة المماليك، وقد جمعت الطرفين مصلحة مشتركة وهي العداء للإفرنج في بلاد الشام ومغول فارس. أما من ناحية الجنوب فقد هيمن المماليك على كافة حدودهم السياسية الجنوبية بالسيطرة الكاملة على شواطيء البحر الأحمر الشرقية والغربية حتى موانيء عدن بعد ضم اليمين، وأيضًا السيادة الكاملة على النوبة التاريخية التي تمتد حتى مدينة مروى قرب الشلال الرابع والملاصقة لمدينة الخرطوم الحالية.

لم يكن العصر المملوكي في مصر عصر حروب ومعارك فقط، ولكنه كان عصر ريادة وتحضر وعلم وثقافة راقية وإدارة متقدمة، وفي عصر المماليك تطورت الفنون والثقافة وفن البناء واذدهرت الحركة الصوفية والحركة التأريخية التي لم يكن لها مثيل. وقد امتاز العصر المملوكي بكثرة ما أُنشئ فيه من المكتبات العامة والخاصة، وكان أغلب السلاطين والعلماء والفقهاء والأدباء يتنافسون في جمع المخطوطات النادرة من كتب الفقه واللغة والطب والأدبيات ودواوين الشعراء. وقد تولى إدارة المكتبات الإسلامية رجال هم في ذروة مجتمعهم علمًا وفضلًا وأدبًا وأمانة وصدقًا، وتبع الأدباء في العصر المملوكي أسلافهم، ومنحوا أنفسهم حرية واسعة في الخروج على تقاليد أهل المقامات، وكتبوا في الوصف والغزل والعظة، وألوان من العلم، وضرب من الفكاهة والسخرية والتسلية التي كانت من سمات هذا العصر، فنجد أن كثيرًا من الأدباء أنشأوا المقامات، ومنهم الشاب الظريف وابن الوردي والصفي الحلي والصلاح الصفدي والشهاب القلقشندي وابن حجة الحموي وجلال الدين السيوطي. ولم يكن الشعراء في العصر المملوكي تقليدًا صرفًا للقدماء، لقد قلدوهم في الأغراض التقليدية. كما قامت المرأة في عهد المماليك بدور فعال ومتميز، إذ لم يبخل الحكام على نسائهم وبناتهم بالمال والمتاع وأضفوا عليهن ألقاب التشريف، وخاطبوهن في المكاتبات بعبارات التشريف والتكريم، وأطلق عامة الشعب على نسائهم ألقابًا تنم عن التقدير والاحترام، مثل “ست الخلق” و”ست الكل”، وذلك من باب الفخر والتزكية والثناء والتعظيم. وشهدت مصر نهضة عمرانية كبيرة في العصر المملوكي لم تشهدها منذ العصر الفرعوني فاهتم حكام الدولة المملوكية بالعمارة، وخاصة عصر الناصر محمد بن قلاوون (1285 – 1341م) والذي يُعد من أزهى عصور الدولة المملوكية فقد أكثر من بناء العمائر، ومن أهم منشآته في مدينة القاهرة الميدان العظيم، والقصر الأبلق بالقلعة، والإيوان ومسجد القلعة، والميدان الناصري، وبستان باب اللوق، وقناطر السباع، ومن بين الأعمال العظيمة التي أُنجزت في عصر الناصر محمد حفر قناة من الإسكندرية إلى فوة، وبذلك أعاد وصل الإسكندرية بالنيل، وقد وصف الرحاله ابن بطوطه القاهرة التي زارها في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون بقوله “المتناهية في كثرة العمارة، المتباهية بالحسن والنضارة”. واعتمد الطراز المعمارى في مصر المملوكيه على التراث المصري المحلي وطغت عليه الروح المصرية الصميمة، ولم تظهر فيه تأثيرات خارجية سوى بعض تأثيرات في الزخارف والنقوش من الفن المغولي نتيجة لاتصال مصر بالمغول في تلك الفترة، كما تميزت مباني العصر المملوكي بالجمال والزخارف البديعة والرسوخ والمداخل العالية. ويعتبر جامع السلطان حسن الذي بدأ بنائه السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون سنة 1357م من أشهر مباني الدولة المملوكية ومن أروع المباني على مستوى العالم، بالإضافة إلى الحمامات المزينة بالمناظر الجميلة على جدرانها، والجوامع التي اشتهرت بمآذنها الرفيعة الرشيقة والجدران العالية المزركشة ومـآذن برؤوس مزدوجة. ويعتبر شارع المعز لدين الله أهم الشوارع التاريخية في القاهرة ومصر كلها وهو ممتليء بمباني من العصر المملوكي، ومن ضمن مواقع التراث العالمى التابعة لمنظمة اليونيسكو.. وكانت القاهرة في عصر المماليك أكبر مدينة في العالم من حيث المساحة وعدد السكان، فقد كان عدد سكان القاهرة في القرن الرابع عشر حوالي ثلاثة مليون نسمة. كما وصف ابن إياس ليلة من ليالي القاهرة المملوكية التي خرجت فيها ذهبية السلطان وعامة من بولاق بالورود والأعلام واستقبلها الأمراء بالطبل والزمامير عند مقياس النيل ووصفها بأنها كانت ليلة من ليالي القاهرة التي لا تنسى وقال فيها “من بر مصر ومقياس يقابله … كان التقابل بين النور والنور”، كما وجدت أعياد ومناسبات قبطية مصرية شارك فيها المسلمين مثل عيد الشهيد وعيد النيروز، وفى عيد الغطاس في11 طوبه كان المسلمون يشاركون في تغطيس الأطفال في الماء البارد، وكان هناك العديد من الاحتفالات التي احتفل بها المسلمون والمسيحيون واليهود في العصر المملوكي وما زالت موجودة حتى الآن.. كما انتشرت وسائل الترفيه في العصر المملوكي، مثل القهاوي فكان هناك قهاوي متخصصة في حكايات “الظاهر بيبرس” السلطان المملوكي صاحب السيرة المشهورة، وكانت تسمى القهاوي “الظاهرية”، وكان هناك قهاوي أخرى متخصصة في حكايات “أبو زيد الهلالي” (القهاوي الهلالية)، وقهاوي “ألف ليلة وليلة” و”سيف بن ذى يزن” وغيرها. كما أن بعض الدراسات أوضحت أن جزءً على الأقل من قصص ألف ليلة وليلة كتبت في مصر في العصر المملوكي، كما وجدت وسيلة ترفيه أخرى مهمة وهي “خيال الضل” أو “طيف الخيال”، وهي من أهم الفنون الشعبية وطريقة التسلية المفضله عند الناس وكانت حكاياته تعبر عن أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية وتاريخية باسلوب بسيط ممتزج بالضحك والفرفشة، وبجانب خيال الضل وجدت عروض الأراجوز وسريحة الحيوانات مثل القراداتية والدبابتية (سريحة بدبب) والرفاعية وبهلوانات، وفي الليل كان هناك أماكن مفتوحة للغنا والرقص. وبالنسبه للمثقفين والعلماء وجدت مجالس العلم وكانت عبارة عن اجتماعات يناقشون فيها العلوم والدين والسياسة وأحوال البلد. وكانت هذه المجالس مزدهرة في العصر المملوكي لأن السلاطين المماليك بشكل عام كانوا يحبون العلم والأدب ويشجعونه، ونبغ من المماليك أنفسهم مثقفون كبار وكتاب ومؤرخون كبار مثل “ابن أيبك الدواداري” و “خليل بن شاهين الظاهرى” و “صارم الدين دقماق” و “ابن تغري” و “ابن إياس” والكثير غيرهم ممن أثروا ثقافة وحضارة الأمة المصرية.. وقد امتدح ابن خلدون الدولة المملوكية من هذه الناحية وقال إنها كانت من محاسنها وآثارها الجميلة الخالدة. وشارك المسحيون بشكل ملحوظ في الحياة الثقافية وظهر منهم كتاب كبار ومؤرخين مثل ابن العميد، والمفضل ابن أبى الفضائل، وابن الدهيرى، وغيرهم، كما اشتهرت عائلة العسال القبطية وهي عائلة المثقفين في هذا الوقت، وعمل الكثير من المسحيين فى أجهزة الدولة والدواوين ومارسوا نفس مهن المصريين المسلمين وكان لهم حق تملك الأراضي والعقارات كمواطنين. وكان منهم مسيحيين أغنياء جدًا ولديهم جواري. وأوراق الوثايق اليهودية المسماة “الجنيزا” تبين أنها كتبت بأيدي مصريين مسلمين ومسيحيين. كما شهد تأسيس الدولة المملوكية في مصر تعيين أول وزير قبطي من فترة دخول العرب مصر هو شرف الدين أبو سعيد هبة الله صاعد الفائزي الذي تم تنصيبه وزير للسلطان عز الدين أيبك. وامتلأت مصر بالكنائس في العصر المملوكي، وجوابات سلطان مصر بتكليف بطريرك اليعاقبه تبين مدى احترام الدولة المملوكية للبطريرك ونص بعضها على “الحضرة السامية، القديس، المبجل، الجليل، المكرم، الموقر، الكبير، الديان، الرئيس، الروحانى، الفاضل، الكافى، المؤتمن، عماد بني المعموديه، كنز الأمة المسيحية.. أطال الله تعالى بهجته، وأعلى على أهل طائفته درجته، قد حاز من فضائل ملته أسماها”، ويحكى المقريزي إنه في سنة 1314م استعار المسيحيين قناديل وموبيليا من جامع عمرو بن العاص لاستعمالها في اجتماع في الكنيسة المعلقة في مصر القديمة. ورغم أن حروب الإفرنج التي ربطها الأوروبيون بالمسيحية كان لها في بعض الأحيان آثار سيئة على حالة الوئام بين المصريين المسلمين والمصريين المسيحيين، ولكن بوجه عام حروب الإفرنج لم تستطع أن تضم المسيحيين المصريين لصفها ضد المسلمين ولم يحدث أن مسيحيين مصريين انضموا للإفرنج الذين كانو كاثوليك ويعادون المذاهب المسيحيه الأخرى.. وكانت أفراح المصريين في العصر المملوكي صاخبة ومليئة بالغنا والرقص، وانتشرت قاعات في مصر تُؤجر للناس كي يحيوا فيها الأفراح، وقد كتب الرحاله ابن بطوطه إنهم “ذوو طرب وسرور ولهو”. مصر المملوكية كانت متفتحة وفيها تسامح ديني شديد وبالذات في الأيام المستقرة الخالية من الأخطار والحروب، مثل أيام السلطان الناصر محمد الذي جعلها من أجمل وأغنى بلاد الدنيا وملأ أيامها احتفالات ومواكب.. وانتشر في العصر المملوكي ألعاب كثيرة مثل لعب الزهر والشطرنج والكوتشينه، وكان المماليك بفضلون رياضة التنشين (رمي القبق) والعوم والفروسية. وفى سنة 1318 افتتح السلطان الناصر محمد في القاهرة الميدان الناصري، وكان ميدان واسع تقام فيه عروض الخيل والفرسان بزي جميل.. ورغم ذلك تعرض عصر الدولة المملوكية في مصر لعمليات تزييف وتشويه في تاريخ مصر الحديثة، وذلك لأسباب سياسية ولإخفاء انجازات مصر في العصور الوسطى، وخاصة في عصر أسرة محمد علي، حيث تم تشويه تاريخ الدولة المملوكية بسبب ارتباطها بإسم المماليك الذين غدر بهم محمد علي في مدبحة القلعة واستمر النظام الملكي في مصر يعادي تاريخ الدولة المملوكية بسبب ما فعله جدهم الأكبر وارتباط النظام بتركيا، وفي العصر الحديث حول المستعمرون الإنجليز جامع الظاهر بيبرس في القاهرة لإصطبل أحصنة لكي يقضوا على النخوة المصرية والمشاعر الوطنية التي تعادي الاستعمار في مصر. كما حاول المزيفون دائمًا الربط مابين عصر الاتراك العثمانليه الذي كان عصر استعمار وجزية واستبداد دينى وكان المماليك فيه مجرد خيالات ظل في أيدي العثمانيين، بعصر الدولة المملوكية الذي حكم سلاطينها ما بين 1250م لسنة 1517م وكان عصر استقلال ونهضة وريادة عالمية وتسامح ديني شديد، وحاولوا دائمًا اظهارهم على أنهم كانو شيئًا واحدًا.

وبذلك نجد أن مصر كانت دولة مستقلة تمامًا طيلة العصور الوسطى المصرية، وبالتحديد منذ استقلال مصر على أيدي احمد بن طولون سنة 877م حتى نهاية دولة المماليك سنة 1517م، مروروًا بالدولة الإخشيدية والفاطمية والأيوبية كما أسلفنا، ورغم أن الحكام الأوائل لتلك الدول لم يكونوا من أصول مصرية إلا أنهم تمصروا وتحدثوا باللهجة المصرية، وانصهررا واندمجوا في المجتمع المصري بشكل كامل هم وأولادهم وأحفادهم، ولم يكن لهم وطن آخر غير مصر يعيشون فيه وينتمون إليه، كما أنهم تفانوا في خدمة مصر والارقاء بها، والدفاع عنها بأرواحهم، حتى صارت  مصر في عصورهم المتعاقبة شبه امبراطورية، وظلوا احد المكونات الأساسية للأمة المصرية، ورافدا من روافد الثقافة والحضارة للأمة المصرية، التي ابتلعتهم كما ابتلعت العشرات بل المئات من الأجناس الأخرى غيرهم، كما نجد أن الأمة المصرية نمت نموًا تاريخيا طبيعيا في عصرها وزمانها إبان العصور الوسطى المصرية، بل وتفوقت على نظرائها في أوروبا إنان عصورهم الوسطى الظلامية، وهذا يخالف تمامًا ما يشاع على نطاق واسع أن مصر كانت محتلة طيلة تاريخها منذ أيام الفراعنة، حتى نشأة الدولة الحديثة على يد محمد علي أو حتى ثورة يوليو كما يزعم البعض. كما يتبين لنا أن انتقال الأمة المصرية باتجاه الدولة القومية كان انتقالًا طبيعيًا ويسير في الإتجاه الصحيح رغم بعض العثرات، ولكن الاحتلال العثماني البغيض هو من بطر هذا التطور الطبيعي، كا أهدر وقزم قيمة مصر ومكانتها، حين أصبحت ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية وتدار من الاستانة على مضيق البوسفور المطل على البحر الأسود، علاوة على نهب ثرواتها وخيراتها واستنزاف مواردها البشرية والمادية بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الأمة المصرية، كما كان لعزل مصر وغيرها من مستعمرات الإمبراطورية العثمانية عن العالم الخارجي أثناء تكون وتشكل العالم الحديث في أوروبا وما تلاها من المجتمعات الحديثة الأخرى، كان لذلك  دورًا أساسيًا في احداث الفجوة الحضارية الهائلة التي نعاني من تبعاتها الكارثية حتى يومنا هذا… وهو موضوع مقالتنا القادمة.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك