ألقينا الضوء سابقًا في مقالتين متصلتين علىالجذور الفكرية للوهابية،وبينا كيف أخرج لنا التراث الإسلامي منذ البداية مدرستين كلاهما انتاج بشري، وهما المدرسة الظاهرية، والمدرسة العقلية، وأوضحنا كيف اتبع الأمويون والعباسيون التوظيف المنهجي لمرتزقة تلفيق وسبك الأحاديث لأسباب سياسية، ليرث الحنابلة هذه الأحاديث وتلك الأحكام ويشهرونها ضد خصومهم المذهبيين والفكريين. وكيف كانت نظيرية ابن تيمية في التوحيد البوابة الكبرى لتكفير عامة المسلمين، وغرس روح التطرفوالكراهية والعدوانية ضد أصحاب الديانات الأخرى، وشرعنة الاستبداد السياسي، وكان جل علماء عصره على تجهيله وتناقضه وعدوانيته. وقد حمل تلامذته الحنابلة راية تغييب العقل وإصدار الفتاوى التكفيرية وكان أشهرهم ابن القيم الجوزية. ثم تطرقنا لنشأة الوهابية في مقالتين متصلتين، وبينا فيها كيف ورث محمد بن عبد الوهاب هذا التراث التكفيري الهائل بعد خمسة قرون من وفاة بن تيمية، وقام بترجمة أفكار وفتاوى التيار الحنبلي ونظرية التوحيد لابن تيمية إلى حركة اجتماعية سياسية، مستغلًا الأوضاع الاجتماعية والثقافية المزرية لمنطقة الجزيرة العربية إبان هيمنة الإمبراطورية العثمانية البغيضة، وخاصة منطقة نجد شرقي الجزيرة العربية، وقد لاقت حركتة الرجعية والظلامية والتكفيرية قبولًا وسط تلك الأوضاع شديدة البؤس والتخلف والشقاء، وألقينا الضوء على الظروف الموضوعية والذاتية التي أدت إلى ولادة تلك الظاهرة. ومقالتنا هذه عن “نشأة الدولة السعودية الأولى 1-3”.
كانت شبه الجزيرة العربية عشية ظهور الحركة الوهابيةتتشكلمنثلاثةمقاطعاتهي الحجاز وتهامة ونجد، فكانت معظم أجزاء الحجاز وتهامة خاضعة لحكم الأشراف في مكة ثم لسلطة الدولة العثمانية. بينما زهدت الدولة العثمانية في مقاطعة نجد لعدم جدوى الاحتفاظ بها لانعدام العائد وضعف أهميتها الاستراتيجية آنذاك،لذا كانت نجد تخضع لنفوذ بعض الأسر مثل آل خريف في الحلوة، وآل ماضي في روضة سدير، والمزاريع في منفوحة، ودهام بن دواس في الرياض، وبني زيد في الوشم والعرض،وآل سعود بالدرعية. أما منطقة شمال نجد وعاصمتها حائل فكانت خاضعة لحكم آل علي،وكانت جازان تسمى (المخلاف السليماني) نسبة إلى سليمان بن طرف الحكمي، أما منطقة عسير فقد كانت تسمى (مخلاف جرش) وكانت خاضعة لنفوذ آل عائض اليزيديون. وكان إقليم الأحساء في شرق الجزيرة العربية على الخليج العربي لأسرة زامل الجبري تلتها السلطة العثمانية وحكم بني خالد. أما قطر على الخليج العربي كانت تسمى بمناطق فريحة والحويلة واليوسيفية والرويضة والشمال والزبارة وكانت عاصمتها الحويلة وتشتهر المنطقة بالصيد والتجارة، وكانت خاضعة لأسرة آل مسلم من بنو خالد.
يربط ابن خلدون بين الوحشية أو (البأس) والقدرة الحربية للقبيلة،فيقول “إن أهل البداوة أكثر شجاعة وأقدر على هزيمة أهل الحضر،ومن كان أعرق في البداوة والتوحش،كان أقدر على التغلب على من سواه من القبائل التي تعيش بجانب المدن الحضارية،وتزول عنها خشونتها واستبسالها،واستشهد ابن خلدون بتغلب قبائل مضر الصحراوية على قبائل ربيعة التي استوطنت أرياف العراق،ويؤكد على أنه إذا كانت الأمة وحشية (أي باسلة)كان ملكها أوسع.ويربط ابن خلدون بين العصبية والقبلية، فيرى أن الأعراب يعيشون مع الإبل في التنقل داخل الصحراء ولا يختلطون بغيرهم،لذلك تظل أنسابهم نقية محفوظة،أما عرب التلال القريبة من المدن فتختلط أنسابهم.وفي عرب الصحراء توجد أنساب خاصة أشد تماسكا من النسب المشترك العام،وفيه تنحصر الرياسة،وفيه توجد العصبية،أو القلب الذي تتجمع حوله باقي الأنساب،ويحظى بانتماء باقي القبيلة إليه،وهذا القلب هو موضع الرياسة أو الشرف.ويؤكد ابن خلدون على أن العصبية هي أساس حماية القبيلة وتماسكها،لذا يقول إنه لا يسكن الصحراء إلا أصحاب النسب الواحد،وتصبح العصبية أساس الحماية للدعوة السياسية أوالدينية، خصوصًا في قيامها على الالتحام بالنسب والدفاع عن الأهل والعشيرة. كما يربط بن خلدون بين العصبية والمُلك، فيرى أن العصبية تكون بها النصرة والحماية،والبشرفي إجتماعهم يحتاجون إلى من يقوم بنصرة الضعيف،أي يحتاجون إلى حاكم،فلا بد للحاكم على عصبية تعينه على هذه المهمة ويتغلب بها على الناس،وهذا التغلب هو المُلك. وهكذا فالمُلك هو غاية العصبية،وإذا بلغت العصبية قوتها حازت المُلك،إما بالإستبداد أو بمناصرة المَلك المستبد والعمل معه. وهكذا تؤدي العصبية القبلية إلى تكوين دولة يحكمها أمير أو ملك على أساس القوة أو القهر. وبالتالي فإذا كانت العصبيات القبلية متكافئة استحكم بينها الصراع القبلي،وانتشر معه الدمار وسفك الدماء،خصوصًا مع قبائل شديدة البأس،أو شديدة الوحشية حسب تعبير ابن خلدون.وهنا نري أن ابن خلدون يتحدث على أن العرب إذا تمكنوا من أوطان أسرع إليها الخراب،وهذا يعني أن تلك القبائل البدوية الصحراوية في تنافسها الصحراوي لاتجد ما تدمر،حيث يعيشون في خيام،أما إذا اشتد التنافس إلى السيطرة على المدن وتمكنوا من اقتحامها،فإنه سرعان ما يصيبها الخراب.
أدت الفتوحات العربية إلى تحرك الكثير من قبائل نجد من الجزيرة العربية،إما على هيئة جنود في الجيوش أو كمجموعات استقرت في البلاد المفتوحة.ومن هنا اختفت قبائل مثل أسد وطيئ،وبكر بن وائل،واستقر معظمها في العراق وسوريا.وفي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي حين ظهرت الدولة السعودية الأولى (1744-1818) كان أهم القبائل في نجد هي عنزة وشمر والدواسر وسبيع وتميم وقحطان وظفير والصلة،ويجاورهم في الأحساء آل مطير وبنو خالد والمناصير وعدنان وآل مرة وبني ياسر والعوازم والرشايدة. ولم يتوقف الصرع وكان يمتد داخل القبيلة الواحدة بل داخل البيت الحاكم فيها،حيث يتقاتل أبناء العم والإخوة،ويقتل الإبن أباه،وقد أورد الشيخ إبراهيم ابن صالح بن عيسى في كتابه (تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد) الكثير من النماذج منها أن موسى بن ربيعة يحتال على قتل أبيه ربيعة بن مانع المريدي ويجرحه جراحات خطيرة،ولكن يفلت الأب ويلجأ إلى رئيس العيينة يطلب حمايته،ثم يندفع موسى بجنوده من المردة والموالفة ويهجم بهم على آل يزيد في النعيمة والوصيل ويقتل منهم أكثر من ثمانين رجلًا ويستولي على منازلهم ويدمرها،ويضرب في نجد بذلك المثل (صبحهم فلان صباح الموالفة لآل اليزيد).ويزحف عريعر بن دجين على بريدة وعنيزة وينتصر عليهما، ولكنه يموت بعد شهر فيتولى إبنه بطين،فيقتله أخواه سعدون ودجين،ويتولى دجين فيقتله سعدون.وفي 1670م تقع معركة الملتهبة وموقعة أكيتال بين قبائل الظفير والفضول،وأمثلة أخرى عديدة للغارات على عنيزة والعيينة. وفي كتابه الذي تتبع به مدينة الرياض منذ أن كان اسمها حجر،يذكر الشيخ حمد الجاسر نماذج للصراع القبلي الذي دار فيها وحولها، ونأخذ منها بعض الأمثلة، ففي عام 1634م قُتل أولاد مفرج بن ناصر صاحب بلدة مقرن، وفي م1627ماستولى عليها آل مديرس، وفي سنة 1646م مقتل محمد بن مهنة أمير مقرن، ثم حكمها أبو زرعة 1688م،وأطلق على مقرن إسم الرياض سنة 1639م، واستمر آل زرعة يحكمون الرياض إلى أن استولى دهام بن دواس عليها وحكمها ثلاثين عاما… وهكذا دواليك. وكانت تلك بعض نماذج الصراعات الدموية المتواصلة في نجد عشية الحركة الوهابية.
كان للظروف الجغرافية والسياسية والاجتماعية والديموغرافية المحيطة بنجد، إبان انطلاقة الحركة الوهابية في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، دور كبير في طبيعة حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث كانت نجد تقع في عمق الصحراء العربية وفقيرة تعيش على هامش الدولة العثمانية التي زهدت فيها ولم تهيمن عليها عسكريًا وانما اكتفت بالسيطرة على الأقاليم المحيطة بها كالحجاز واليمن والأحساء والعراق والشام، وهذا ما أعطى نجدًا فرصة قيام إمارات متعددة في كل قرية ومدينة ومضرب قبيلة في الصحراء. ولو كانت هنالك وحدة سياسية في نجد، شاملة وواسعة، لما استطاع بن عبد الوهاب أن يتنقل من إمارة إلى أخرى، وربما اضطر إلى اللجوء إلى العمل السري أو الهرب في الصحاري والجبال، إلا أن تعدد الإمارات في نجد واختلافها، وربما تنافسها فيما بينها، دفع بن عبد الوهاب إلى اعتماد سياسة التعاون والتحالف مع الأمراء بدل الثورة عليهم والخروج ضدهم. وكما أوضحنا سابقًا، بعد أن انفجر الموقف في العيينة، وتقرر خروج بن عبد الوهاب من بلدة لا يصلح أميرها للدور المطلوب. توجه ابن عبدالوهاب إلى إمارة صغيرة على مقربة من العيينة وهي إمارة الدرعية، حيث التقى الشيخ المطرود من إمارة العيينة بأمير الدرعية محمد بن سعود.وقد كان للمصالح السياسية أثر في نجاح التحالف الذي تم ما بين بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود حيث كان بن عبد الوهاب يبحث جاهدًا عن أرض مستوية لتكون قاعدة لنشر أفكاره بعد ن طُرد أو واجه مواقف سياسية من المناطق التي مر بها، وفي المقابل فإن بن سعود قد وجد ضالته المنشودة بابن عبد الوهاب من أجل إقناع القبائل العربية بحكمه عن طريق إضفاء الشرعية الدينية عليه والتي يتبناها بن عبد الوهاب. فبعد توجه ابن عبد الوهاب إلى الدرعية توافد عليه الطلاب ومنهم ثنيان بن سعود ومشاري بن سعود أخوة أمير الدرعية محمد بن سعود، ولم يكن الأمير مهتمًا لابن عبد الوهاب إلا بعد أن طلبت زوجة الأمير موضي بنت أبي وطبان منه الذهاب إليه ونصرته، وطلب ثنيان ومشاري من الأمير أن يذهب إليه بنفسه،ليرحب به ويعلن تأييده له ويقول له”إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه، فأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد”. فقال له ابن عبد الوهاب “وأنا أبشرك بالعز والتمكين والنصر، وهذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم. فمن تمسك بها وعمل بها ونصرها، ملك البلاد والعباد، وأنت ترى نجدًا كلها وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة والاختلاف والقتال لبعضهم بعضًا، فأرجو أن تكون إمامًا يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك”. فطلب ابن سعود من بن عبد الوهاب المبايعة، فبايع بن عبدالوهاب على ذلك، وعلى أن الدم بالدم والهدم بالهدم، وعلى أن بن عبدالوهاب لا يرغب عنه إن أظهره الله. وبدأ ما يُعرف بميثاق الدرعية في عام 1744م. وزاد الميثاق قوة بعد أن تحول تقاربهما إلى زواج أميري حيث تزوج ابن سعود من ابنة عبد الوهاب، وسميت جماعتهم (الدعوة والتوحيد). وقد ذكر الشيخ حسين ابن غنام”إن محمد بن عبد الوهاب قد بايع الأمير محمد بن سعود على الجهاد، في أول مجيئه إلى الدرعية. وإنه وعده بالنصرة والجهاد”.وكان ذلك بداية لقيام الدولة السعودية الأولى. ويكاد هذا النص يكون واضحًا في بيعة بن عبد الوهاب للأمير وبقاء الأمير على إمارته “إمامًا يجتمع عليه المسلمون”، حيث قدم ابن عبد الوهاب له فروض البيعة بشرط النصرة، ووعده بملك نجد أو الجزيرة العربية، وقدم له الدعم وأضفى صفة (الشرعية الدينية) على نظام حكمه القائم بالفعل. وقد كان بن عبد الوهاب مؤهلًا تمامًا للتعاون مع أي أمير مستعد لنصرته بغض النظر عن طريقته في الوصول إلى السلطة،إذ كان يؤمن أساسًا بشرعية إمامة المتغلب، حيث يقول “إن الأئمة مجمعون في كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان، له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا لما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد بن حنبل إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد”. وهناك رواية أخرى يذكرها صاحب (لمع الشهاب) تتحدث عن عقد بن عبد الوهاب صفقة صريحة مع الأمير محمد بن سعود، حول تقاسم السلطتين الدينية والسياسية والاتفاق على توارثهما معًا في عائلتي الشيخ والأمير. وأن بن عبد الوهاب قال لابن سعود”أريد منك عهدًا على أنك تجاهد في هذا الدين، والرياسة والإمامة فيك وفي ذريتك، وأن المشيخة والخلافة في الدين فيّ وفيآلي من بعدي أبدًا، بحيث لا ينعقد أمر ولا يقع صلح أو حرب إلا ما نراه كذلك، فإن قبلت هذا فأخبرك:إن الله يطلعك على أمور لم يدركها أحد من عظماء الملوك والسلاطين” فقال الأمير ابن سعود”قبلت وبايعتك على ذلك”. ويضيف صاحب (لمع الشهاب) بأن الشيخ قد هيمن على آل سعود، فيقول”صارت الإمامة الكبرى وهي إمامة الدين لمحمد بن عبد الوهاب، وكذا ما يتبعها من مصالح الدنيا كتدبير الحروب والمصالحة والعداوة وما يرجع إلى آلة الحرب.. والحاصل أنه صار الأمر كله بيد محمد بن عبد الوهاب بحيث كل شيء أراده محمد بن سعود أو أولاده رجعوا به إلى محمد بن عبد الوهاب، فإن ارتضاه ارتضوه وإن أباه أبَوه بلا كلام. وكانت العادة جارية بأن يزوره محمد بن سعود كل يوم مرتين صباحًا ومساءً، هو وابنه عبد العزيز وبقية أولاده، وكانوا يجلسون عنده متئدين صامتين لا ينطقون بشيء ما لم يحادثهم به أولًا، ويدرسون على يده علم التوحيد”. وهذه الرواية تدل على تمتع محمد بن عبد الوهاب بمكانة عالية جدًا في ظل إمارة آل سعود. وقد تخلى بن عبد الوهاب من أجل ذلك عن شرط (القرشية) في الإمام، الوارد في بعض الأحاديث النبوية، والذي دأب أهل السنة والحديث، وخصوصًا الحنابلة، على الالتزام به.. بيد أنه يمكن القول إن بن عبد الوهاب أقام فعلًا نظامًا ثنائيًا مزدوجًا يجمع بين الإمارة والمشيخة الدينية، واكتفى من النظام السعودي بدعم المباديء الوهابية، مع المحافظة على احترام دور رجال الدين، الذين سيسيطر عليهم، لقرون قادمة، أبناء بن عبد الوهاب وأحفاده تقريبًا، بما يشبه التحالف القبلي.
بعد اعتبار الشيخ محمد بن عبد الوهاب عامة المسلمين كفارًا ومشركين ومرتدين إلى الجاهلية الأولى، كان لا بد أن يأمر أتباعه بالانفصال نفسيًا وجسديًا عن “المجتمع الجاهلي” والهجرة إليه من أجل البدء في تأسيس “المجتمع الإسلامي الموحد” من جديد. وكان القول بارتداد المجتمع الإسلامي إلى الجاهلية الأولى حسب زعمه يقسم الناس لدارين، يضع في إحداهما (الموحدين) الجدد وهي دار الإسلام، بينما يضع في الأخرى (المشركين) وهي دار حرب.ولذلك فعندما حل بن عبد الوهاب في الدرعية أعلنها دار هجرة وإسلام، وطلب من أنصاره الهجرة إليها، وإعلان الولاء له والبراءة من أعدائه. وبدأ هؤلاءيهاجرون إليه من كل مكان.واعتبر الولاء والبراء شرطًا من شروط الإيمان، وتركهما ناقضًا من نواقض الإيمان العشرة. وأعلن الحرب على الكفار وخاصة الذين بان لهم أن (التوحيد) هو دين الله ورسوله، ثم أبغضوه ونفروا الناس عنه، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. وأهدر دماء جميع المسلمين الذين سماهم (المشركين) وطالبهم بالتوبة والرجوع إلى التوحيد، واستحل أموالهم وذراريهم، وقال “من رجع منهم حقن دمه وذراريه، ومن أصر أباح الله منه ما أباح لرسول الله من المشركين”. وذلك “لأن مجرد التلفظ بكلمة التوحيد لا يعصم الدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه”. ورغم ما كان يبدو في عملية التكفير والالتزام بمبدأ الهجرة والقتال، من ميل إلى الخروج عن الدولة “الكافرة” ومحاربة “المجتمع الجاهلي”، فإن الوهابيين كانوا يصرون على نفي تهمة (الخروج) عن أنفسهم، ويتبرءون منها أشد التبرؤ. وذلك خوفا من انطباق أحاديث الخوارج عليهم، وهم في التراث السني الحنبلي ملعونون على لسان رسول الله (ص)، ومحكوم عليهم بالرفض والهجران. إضافة إلى ما كان يعنيه الخروج من تحد للدولة العثمانية ودعوة لها لمعاقبتهم. ولذا كان الوهابيون اتباعًا لمبدأ (التقية) يفرقون بين أنفسهم وبين (الخوارج) بأن هؤلاء كانوا يكفّرون الناس على الكبائر، بينما هم يكفّرون على ما يدعو إلى التكفير وهو الشرك بالله، ولا يكفّرون على الكبائر. وسواء أعلن الوهابيون الخروج واعترفوا به. أم لم يعلنوا ذلك، فان نظريتهم كانت تنطوي على مبرر كبير للخروج وتشكيل دولة مستقلة، وخاصة في الوقت المناسب ومع توفر القوة الكافية لهم.
بعد أن وصل التحالف بين ابن سعود وابن عبدالوهاب إلى ذروتهعقب ميثاق الدرعية، ومن الخلفية العقدية الوهابية التي تبنتها الدولة السعودية القبلية الأولى، قاموا بالتوسعة في الجزيرة العربية والهجوم على القبائل المجاورة لنشر الدعوة الوهابية والبيعة لأمير الدرعية محمد بن سعود، وذلك عبر الغزواتوالحروب الأهلية التي شنوها عليهم وأرغموهم على تبني العقيدة الوهابية المبينة في كتيبه (التوحيد) والذي يبيح لهم ولأول مرة في التايخ الإسلامي كل القوانين التي تجري على الكافرين.ولم تعرف الدولة السعودية الناشئة استقرارًا لكثرة الحروب وكثرة الخصوم للدولة ورفض الدعوة الوهابية وتبدل ولاء البلدان من المعاهدة وتبني الدعوة إلى العداء ورفضها. فبدأ التوسع داخل نجد بما عُرف بإقليم العارض،ويُقصد بالعارض الرياض والدرعية والعيينة وضرما ومنفوحة، وقد كان أكبر خصوم إمارة الدرعية أمير الرياض دهام بن دواس وأمير ثرمداء إبراهيم بن سليمان العنقري، والأول هو الذي رفض الدعوة الوهابية وقاتل ضد توسع إمارة الدرعية في سبع عشرة موقعة لمدة سبعة وعشرين عاما قُتل فيها حوالي أربعة آلاف قتيل، ومن أشهرها وقعة الشياب ووقعة العبيد، وقد قاد دهام حملة على إمارة الدرعية قُتل فيها فيصل وسعود ابنا محمد بن سعود وبعدها وقعة الشراك ووقعة البنية ووقعة الخريزة ووقعة الحبونية ووقعة البطحاء، وأستمر الكر والفر حتى طلب دهام بن دواس الصلح من بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود ووافق على الشروط وهي عودة أنصار الدعوة للرياض وأن يرد إليهم أموالهم وأن يدفع للدرعية ألفي ريال معجلة، وقد شارك دهام في حرب الدرعية ضد قبائل الظفير في وقعة جراب، وبعد وفاة الإمام محمد بن سعود تجددت الخلافات والحروب بين إمارة الرياض والدرعية حتى سقطت الرياض بعد أن تركها دهام بن دواس بعد مقتل ولديه وتعبه من كثرة الحروب وذهب إلى الدلم، وقد أتى الرياض الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود محتلًا في سنة 1773م فعلم بفرار دهام فخضعت الرياض وانتشرت فيها الدعوة الوهابية. وانضمت منفوحة بقيادة أميرها علي بن مزروع لتبني الدعوة في1746م ونقض أهلها عهدهم للدرعية سنة 1753م، وتم ضم العيينة الذي تبنى أميرها عثمان بن حمد بن معمر الدعوة الوهابية ولكنه أخرج الشيخ محمد بسبب ضغوط من حاكم الأحساء سليمان بن محمد، وقد شارك أمير العيينة في حروب الدرعية وتم قتله سنة 1750م بعد صلاة الجمعة بسبب وجود قرائن من مؤيدين الدعوة بعدائه للدولة السعودية الناشئة ووجود اتفاقات سرية مع خصوم الدولة، وبعده عُين مشاري بن معمر وتم عزله وعُين بدله سلطان بن محيسن المعمري وانتهى حكم آل معمر وأصبحت العيينة تابعة للدولة السعودية. وخضعت حريملاء للحكم السعودي سنة 1751م وكما أسلفنا كان قاضي حريملاء الشيخ سليمان بن عبد الوهاب شقيق الشيخ محمد بن عبد الوهاب معارضًا ورافضًا لدعوة أخوه الإصلاحية، فقام بتحريض أهلها على طرد أتباع الدعوة ومنهم الأمير محمد بن عبد الله وأخوه عثمان فقصد المطرودون الدرعية فخاف أهل حريملاء من الثأر فأرجعوهم إلى دارهم ولكن آل راشد من حريملاء هجموا عليهم وقتلوا الأمير محمد بن عبد الله وثمانية من اتباعه ونجا مبارك بن عدوان واستنجد بالإمام محمد بن سعود الذي أرسل ابنه عبد العزيز الذي تمكن من السيطرة على حريملاء وتعيين مبارك بن عدوان أميرًا لها وقد تم عزله بعد تنكره للدعوة وتعيين أحمد بن ناصر بن عدوان. واستطاع الحكم السعودي السيطرة على إقليم العارض ونشر الدعوة الوهابية فيه.. ثم بدأ التوسع السعودي في إقليم الوشم بمدينة شقراء التي استسلمتوبايعت بن عبدالوهابوبن سعود، ومن ثم القويعية التي استسلمتوبايعت سنة 1755م.ومن البلدان التي رفضت وقاومت التوسع السعودي ثرمداء وبلدة أشيقر وبلدة القصب وبلدة مرات وبلدة الفرعة ولم تسقط إلا بعد أن قام الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود بعدة حملات عسكرية ضدها، وقامت الدرعية بعدة حملات ضد إقليم سدير استمرت لأكثر من عشر سنوات واستطاعت السيطرة على بعض البلدان وروضة سدير.وفي عام 1782م قام تحالف كبير ضد نفوذ آل سعود ضم آل ماضي من روضة سدير وأمير الخرج زيد بن زامل الدليمي واستطاع التحالف إخراج القوات السعودية من الروضة ولكن القوات السعودية في ثادق استطاعت بعد ذلك هزيمة آل ماضي والسيطرة على روضة سدير وتعيين عبد الله بن عمر أميرًا عليها. استمر التوسع للسيطرة على إقليم الخرج الذي قاوم التوسع السعودي بقيادة أميرها زايد بن زامل الدليمي، وقد شارك زايد في عدة أحلاف ضد الدرعية زعماء من جنوب نجد ومساعدة من أهل نجران لشن هجوم بجيش كبير ضد الدرعية وقد انهزمت القوات السعودية في معركه الحاير، وبعد عقد اتفاق بين عبد العزيز بن محمد بن سعود وأمير نجران انسحبت قوات نجران بقيادة حسن بن هبة الله المكرمي، وبعد ذلك عقد زايد صلح مع الدرعية ولكنه خرج عليه فأمر الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود بتنحيته وتعيين سليمان بن عفيصان، واستمر زايد في حربه للدرعية حتى تم قتله على يد دورية سعودية، واستمر أبناءه من بعده في حروبهم مع الدرعية ولم تستقر الخرج في عهد محمد بن سعود وترددت بين المبايعة والنقض واستطاع عبد العزيز بن محمد إرجاعها لسلطة الدرعية.. وتوجه الوهابيون صوب إقليم القصيم عندما أعلنت بريدة بقيادة أميرها حمود الدريبي آل أبوعليان ولاءها لإمارة الدرعية وتبنيها للدعوة الوهابية سنة 1768م ولكنها لم تستقر حتى حاصرها سعود بن عبد العزيز بن محمد سنة 1775م وتم تعيين حجيلان بن حمد أميرًا عليها، وخضعت عنيزة وأميرها عبد الله بن أحمد بن زامل سنة 1768م، ولكن عنيزة لم تستقر للحكم السعودي وتزعمت عنيزة العصيان أكثر من مرة وقتلت الدعاة المرسلين من الدرعية، وتزعمت عنيزة سنة 1779م عصيان كبير وطلبت عنيزة من حاكم الأحساء سعدون بن عريعر العون فأرسل قواته المتحالفة مع قبائل الظفير وبادية شمر وعنزة وحاصرت القوات بريدة الموالية للحكم السعودي وأميرها حجيلان بن حمد لعدة أشهر ولكن الحصار فشل ورجعت قوات سعدون وتوجهت لروضة سدير واستولت عليها، واستطاع سعود بن عبد العزيز بن محمد سنة 1788م إخضاع عنيزة للحكم السعودي. ساهم حجيلان بن حمد أمير القصيم في التوسع السعودي في الشمال في شن عدة حملات على جبل شمر الخاضع لحكم آل علي حتى انضمام جبل شمر سنة 1792م، وإخضاعه بعدها لقبائل الشرارات في دومة الجندل والجوف سنة 1793مللحكم السعودي.. وضُم جبل شمر من قبل أمير القصيم حجيلان بن حمد وإدخالها تحت الحكم السعودي في عام1792م حيث قام الأمير محمد بن عبد المحسن آل علي من الجعفر من شمر حاكم جبل شمر وشمال نجد بالتحالف مع الدولة السعودية الأولى ووحد الصفوف عقائديًا وسُميت حائل بلادًا تابعة للمذهب الجديد الذي كانت تدعو له القوات السعودية، وأُطلق على الأمير محمد بن عبدالمحسن آل علي لقب أمير المسلمين.. ثم كان التوسع شرق نجد عندما بدأ حكم بني خالد في الأحساء بقيادة زعيمهم براك بن غرير آل حميد سنة 1669م بعد طرد الحامية العثمانية واستمر التوسع لدولة بني خالد حتى وصل إقليم العارض في نجد، في عهد حاكم الأحساء سليمان بن محمد. بعدها قام عريعر بن دجين سنة 1774م بهجوم على منطقة القصيم ونجح في إبعاد عبد الله بن حسن وتعيين راشد الدريبي آل أبوعليان وكان ينوي شن هجوم على الدرعية ولكنه توفي بعد شهرين من انسحابه من بريدة. وفي الأحساء دب الخلاف والصراع بين زعماء بني خالد بعد وفاة عريعر بن دجين حتى تولى سعدون بن عريعر الحكم، قام سعدون بعدة حملات وتحالفات ضد الدرعية ومنها حصار بريدة. ثم بدأ ميزان القوة يتغير فبدأت حملات السعودية ضد الأحساء فقام سعود بن عبد العزيز بن محمد سنة 1784م بشن حملة على قرية العيون وغنم منها غنائم كثيرة وقام الإمام سعود في 1785م بعملية استيلاء على قافلة قادمة من الأحساء. تجدد الخلاف بين زعماء بني خالد فخرج سعدون بن عريعر من الأحساء ولجأ للدرعية فاستغلها الإمام عبد العزيز بن محمد فأمر قائده سليمان بن عفيصان بغزو الأحساء فغزا بلدة الجشة وميناء العقير وأشعل النيران فيها بعد أن استولى على الأموال. قاد الإمام سعود بن عبد العزيز حملة ضد بني خالد وقائدهم عبد المحسن بن سرداح سنة 1789م في غزوة غريميل انهزم فيها جيش بني خالد وهرب عبد المحسن للمنتفق وعين الإمام سعود زيد بن عريعر أميرًا. ثم بدأ الإمام سعود يغزو القطيف ويحاصر سيهات وبلدة عنك وقتل عبد المحسن بن سرداح زعيم بني خالد. واستطاع بعدها الإمام سعود هزيمة براك بن عبد المحسن بن سرداح وفراره للمنتفق في معركة الشيط والسيطرة على الأحساء ومبايعة أهلها وتعيين أمراء لها ونشر الدعوة الوهابية وهدم القباب والأضرحة. ولم تستقر الأحساء حتى خضعت سنة 1796م في غزوة الرقيقة.. ورغم ذلك لم تشكل الولادة الأولى لهذا الكيان عملية خروج سافرة على الدولة العثمانية التي لم تكن تهيمن عسكريًا على نجد كما أوضحنا سابقًا، حيث خضعت نجد لسلطة الأمراء المحليين المنتخبين من قبائلها او المسيطرين عليها بالقوة. ولم يكن يوجد فيها والٍ عثماني أو حامية عسكرية، وانما كانت تخضع لنفوذ أمراء الحجاز أو الأحساء الذين كانوا بدورهم تابعين للخلافة العثمانية، ولذلك كان أئمة المساجد يكتفون بالدعاء للسلطان العثماني في خطب الجمعة. وعندما قام بن عبد الوهاب بحركته منع أئمة المساجد من الدعاء للسلاطين بحجة أن ذلك من الأمور البدعية. ومع ذلك فإن المنع لم يشكل علامة كبيرة على الخروج، حيث ظل بن عبد الوهاب يحرص على إقامة علاقات طيبة مع شريف مكة ومن ورائه الدولة العثمانية.
وبعد السيطرة السعودية على الأحساء بدأ التوسع في مناطق الخليج العربي ومنها الكويت فقامت عدة حملات سعودية بقيادة القائد إبراهيم بن عفيصان وحملات أخرى من الكويت وتعاون الكويت مع حملة ثويني بن عبد الله التي كانت بأمر من سليمان باشا (والي بغداد) للقضاء على الدعوة المنبثقة من الدرعية، ولاختصار نفوذها تنفيذًا لأمر السلطان إلا أنها لم تخضع للهيمنة السعودية. ثم توسعت الدولة السعودية للسيطرة على قطر واستطاع إبراهيم بن عفيصان السيطرة على قرى فريحة والحويلة واليوسيفية والرويضة ونشر الدعوة الوهابية فيها سنة 1792م، واستطاع إبراهيم بن عفيصان السيطرة على الزبارة مقر إقامة آل خليفة فخرج آل خليفة لجزيرة البحرين. وتوسعت الدولة السعودية أيضًا في عُمان فأرسل مطلق بن محمد المطيري فاستولى على مطرح ونزوى ووصل إلى رأس الخيمة وعقد صلحًا مع القواسم اعتنقوا بموجبها القواسم العقيدة الوهابية وهدموا جميع الأضرحة وبذلك أخضعوا ساحل الخليج العربي بكامله من البصرة إلى خليج عُمان. وسرعان ما قوت شوكت الوهابيين حتى أنهم استطاعوا أن يهزموا حاكم مكة المعين من قبل العثمانيين وهو الشريف بن غالب سنة 1790م، وبعد سبع سنوات هزموا جيش حاكم بغداد العثماني مع قوام سبعة آلاف تركي وأربعة عشر ألف عربي، وكان الجيش الوهابي يتزعمه سعو بن عبد العزيز. ورغم وفاة محمد بن عبدالوهاب سنة 1791م إلا أن الغزوات الوهابية لم تتوقف، ففي عام 1802م قاموا بالهجوم على الطائف وحاصروا قلعتها،ويقول أيوب صبري باشا في كتابه (بداية انتشارالوهابية) أنه برغم من الهدنة بينهم إلا أنهم لم يلبوا مطالب الوهابيين وهو ضمان الرجال أحياء بينما الأطفال والنساء يوضعون في الأغلال! مما أدى إلى إحداث مجزرة بينهم ولم يراعوا الصغار والنساء والأبرياء وبعد إثني عشر يومًا تنازلوا إلا أنهم قتلوا الأسرى شر مقتلة!!. وفي نفس العام احتل إثنا عشرألف وهابي بقيادة سعود الجزء الجنوبي من العراق ودخلوا كربلاء وذبحوا أربعة آلاف شيعي ونهبوا الأضرحة بما في ذلك ضريح الإمام حسين، وقد وصف (علي باي) وكيل نابليون الذي زار الجزيرة العربية في هذه الأثناء(في مصدره رحلة علي باي) بقوله”لم يصمد السكان طويلًا.. مما قاموا بمجزرة على كربلاء وكان هناك طبيب وهابي يصرخ من على برج أن اقتلوا واشنقوا كل الكفار الذين يشركون بالله”،وقد ذكره مصدر بريطاني آخر عاش في العراق هذه الفترة وهو (ج. روسو) وبين مظاهر الرعب في الهجوم الوهابي على كربلاء بقوله “مات الشيوخ والنساء والأطفال بحد سيف المتوحشين وبقروا بطون الحاملين؟ وقد تدفق دماءهم كالماء الجاري”، وفي هذا الصدد يقول المؤرخ الوهابي عثمان ابن بشر في كتابه (عنوان المجد في تاريخ نجد)”إن سعود سار بالجيوش المنصورة والخيل العتاق المشهورة، من جميع حاضر نجد وباديها، والجنوب والحجاز وتهامة وغير ذلك، وقصدوا أرض كربلاء ونازل أهل بلد الحسين، فحشد عليها المسلمون وتسوروا جدرانها ودخلوها عنوة، وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت، وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين، وأخذوا ما في القبة وما حولها، واخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت والجواهر، وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك مما يعجز عنه الحصر ولم يلبثوا فيها إلا ضحوة وخرجوا منها قرب الظهر بجميع تلك الأموال، وقُتل من أهلها قريب ألفي رجل، ثم أن سعودًا ارتحل منها فجمع الغنائم وعزل أخماسها، وقسم باقيها على المسلمين غنيمة للرجل سهم وللفارس سهمان”.
في عام 1803م وقعت مكة المكرمة في أيديهم وقاموا بتخريب الأضرحة وكل المساجد والصوامع المكرسة لذكر النبي والمساجد فوق جبل نور ومنع الحجاج من تسلق جبل نور، وعند وصولهم إلى المدينة المنورة قاموا بنفس الشيء بل تعدوا على قبر النبي نفسه ونهبوا خزينة المسجد النبوي وطردوا كل سكان المدينة المنورة الذين هم من أصول تركية، مما اضطر سليم الثالث أن يعين حاكمًاجديدًا على دمشق لمعالجة التهديد الوهابي. وبعد احتلال سعود بن عبدالعزيزللحجاز، تغيرت لهجة الحركة الوهابية تجاه الحجازيين والدولة العثمانية، فبعد أن كان محمد بن عبد الوهاب يتودد إلى شريف مكة ويتظاهر بالولاء له وينفي “تهمة التكفير بالعموم” أرسل سعود وفدًا إلى شريف مكة الأمير غالب بن مساعد، بزعامة حمد بن ناصر بن معمر، ووجه لأهلها اتهامات مباشرة وصريحة بوجود مظاهر الشرك في مكة ودعوة الأموات، ولم ينفع إنكار أهل مكة لذلك. وعندما اقتربت قوات سعود من مكة في نهاية عام 1802م، وطلب أهل مكة منه الأمان، أصدر إليهم بيانًا يتضمن التشكيك بإسلامهم، ويدعوهم إلى دين الله حيث جاء فيه “بسم الله الرحمن الرحيم، من سعود بن عبد العزيز، إلى كافة أهل مكة والعلماء والأغوات وقاضي السلطان، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فأنتم جيران الله وسكان حرمه آمنون بأمنه.إنما ندعوكم لدين الله ورسوله (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لانعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، فان تولوا فقولوا: اشهدوا بأننا مسلمون) فأنتم في أمان الله ثم في أمان أمير المسلمين سعود بن عبد العزيز وأميركم عبد المعين بن مساعد، فاسمعوا له وأطيعوا ما أطاع الله والسلام”. ويتضح من خلال هذا النص، أن سعودًا كان ينظر إلى الوهابيين نظرة خاصة باعتبارهم (المسلمين) وإلى أهل مكة باعتبارهم (مشركين) ولذلك لم يسلم عليهم وإنما وجه سلامه إلى من اتبع الهدى، ودعاهم إلى كلمة سواء هي كلمة التوحيد. وعندما دخل سعود مكة المكرمة في اليوم الثامن من محرم1803م وطلب من الناس الاجتماع بالمسجد الحرام، خطب فيهم قائلا”احمدوا الله الذي هداكم للإسلام وأنقذكم من الشرك. أطلب منكم أن تبايعوني على دين الله ورسوله وتوالوا من والاه وتعادوا من عاده في السراء والضراء والسمع والطاعة”. وأصدر بيانًا جاء فيه”قد عمت البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها: الإشراك بالله والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسماوات… فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك به. وذلك أن الشفاعة كلها لله.كما في الحديث عنه (ص) أنه قال”لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تُعبد فئام من أمتي الأوثان”.فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دمائنا وأموالنا…حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعد ما نقيم الحجة عليهم من كتاب الله وسنة رسوله (ص) وإجماع السلف الصالح من الأمة، ممتثلين لقوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان”. ثم بادر الوهابيون لهدم القباب التي كانت على محل مولد النبي (ص) ومولد أبي بكر ومولد الإمام علي والسيدة خديجة، والتي كانوا يعتبرونها (أصنامًا تُعبد من دون الله). وأرسل سعود رسالة إلى السلطان العثماني سليم، يخبره فيها بأنه “قد هدم ما هنالك من أشباه الوثنية”، وأمر مناديه أن ينادي في مكة المكرمة “يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا”. ووقف الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في مكة قائلًا”إن من قال يا رسول الله، أو يا ابن عباس، أو يا عبد القادر أو غيرهم من المخلوقين، طالبًا بذلك دفع شر أو جلب خير من كل ما لا يقدر عليه الا الله تعالى من شفاء المريض والنصر على العدو، والحفظ من المكروه ونحو ذلك: إنه مشرك شركًا أكبر، يهدر دمه ويبيح ماله، وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون هو الله تعالى وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء متشفعًا بهم ومتقربًا بهم لتُقضى حاجته من الله بسرهم وشفاعتهم له فيها أيام البرزخ”. وتحت تهديد السلاح، استصدر الوهابيون عدة بيانات من علماء الحرمين ومن الشريف غالب بالاعتراف بالدين الجديد (الإسلام) والتبرؤ من دينهم السابق (الشرك) والإفتاء بكفر عامة المسلمين، فأصدر علماء مكة المكرمة البيان التالي “نحن علماء مكة الواضعون خطوطنا في هذا الرقيم: إن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ودعا اليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله ونفي الشرك الذي ذكره في هذا الكتاب، إنه هو الحق الذي لا شك فيه. ولا ريب وإن ما وقع في مكة والمدينة سابقًا ومصر والشام وغيرهما من البلدان، إلى الآن، من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب، إنه: الكفر المبيح للدم والمال، والموجب للخلود في النار. ومن لم يدخل في هذا الدين ويعمل به ويوالي أهله ويعادي أعداءه فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر. وواجب على إمام المسلمين، والمسلمين، جهاده وقتاله حتى يتوب إلى الله مما هو عليه، ويعمل بهذا الدين. اشهد بذلك(عبد الملك بن عبد المنعم القلعي (الحنفي) مفتي مكة المكرمة، محمد بن صالح بن إبراهيم مفتي الشافعية بمكة، محمد بن محمد عربي البناتي مفتي المالكية بمكة، محمد بن أحمد (المالكي)، محمد بن يحيى مفتي الحنابلة بمكة، عبد الحفيظ بن درويش العجيمي، زين العابدين جمل الليل، علي بن محمد البيتي، عبد الرحمن جمال، بشر بن هاشم الشافعي”. وأصدر علماء المدينة المنورة كذلك بيانًا مشابهًا، جاء فيه”نشهد بأن هذا الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودعانا إليه إمام المسلمين سعود من توحيد الله ونفي الشرك، هو الدين الحق الذي لا شك فيه ولا ريب. وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقًا والشام ومصر وغيرها من البلدان إلى الآن من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب أنها: الكفر المبيح للدم والمال… وكل من خالف ما في هذا الكتاب من أهل مصر والشام والعراق وكل من كان دينهم الذي هم عليه الآن فهو كافر مشرك. أشهد بذلك وأنا الفقير بن حسين، بالروضة الشريفة، وكتبه محمد صالح رضوان، وشهد بذلك وكتبه محمد بن إسماعيل، وكتبه الفقير إلى الله حسن”. وهكذا وقع الشريف غالب بن مساعد على بيان مشابه يعترف فيه على نفسه بالكفر سابقًا، بالاضافة إلى تكفير الأمة الإسلامية جمعاء..وفي سنة 1805م حاصرت القوات الوهابية النجف مكان مرقد الإمام علي لكنها لم تنهزم عندما قام قيادي شيعي كان يحسب نفسه كمندوب للإمام المنتظر بإعلان جهاد الدفع مما أدى إلى عدم هزيمتها.ثم قام الوهابيون عن طريق قبائل القواسم بعبور الخليج العربي ليستولوا على بندر عباس وأحدثوا حالات القرصنة في الخليجوكانوا يعتبرون القرصنة الوهابية(الجهاد البحري)، ليصل امتدادهم إلى البحر حتى وصل تأثرهم على البحارة الأوروبيين بحيث سموا شاطيء الشارقة ورأس الخيمة (ساحل القراصنة)ما اضطر بريطانية لعقد هدنة منفصلة مع كل شيخ قبلي لكبح جماح هذه القرصنة. وفي نفس هذا العام استؤنفت الغزوات الوهابية في العراق وامتدت إلى سوريا.. وفيسنة 1808م طلب سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعودخليفة أبيه عبد العزيز بعد اغتياله في الدرعية على يد شيعي بسبب نهبه لكربلاء، من شيوخ دمشق وحلب باعتناق الوهابية وأغار حلفاءه من القبائل على الصحراء السورية وهددوا دمشق عام 1810م. وحتى عام 1812م أصبحت الغارات الوهابية تهدد بغداد والداخل السوري إلى عمان. واصبحت الدولة السعودية الناشئة بعقيدة وهابية أوسع كيان سياسي منبثق من شبه الجزيرة العربية منذ زمن النبي محمد (ص). وأضحى هذا التنامي لنجاحات الوهابية العسكرية إنذارًا بتهديد النظام السياسي في الشرق الأوسط حيث كل هذه المناطق كانت خاضعة لمراقبة الامبراطورية العثمانية. وبذلك شكلت الغارات الوهابية على أقاليم الإمبراطورية العثمانية تحديًا لسيادة الخلافة العثمانية السياسية، وبداية لمرحلة جديدة في العلاقات بين الكيان السعودي الوليد والدولة العثمانية. إذ لما كان الوهابيون لايعتبرون الذين لا يدينون لعقيدتهم مسلمين حقيقيين. ولما كان المقام الديني للخليفة العثماني قد نشأ من السمعة العسكرية وكحامي للمسلمين، حيث لم يكن الاستحواذ على لقب الخلافة هينًا، كون المعتقد السني كان مبنيًا على أن الخليفة يجب ان يكون منحدرًا من أصول عربية قرشية. أضحى التوسع الوهابي يشكل تحديًا مباشرًا لسلطة السلطان العثماني ومكانته الدينية بعد حصوله على لقب الخلافة لاسيما بعد ان أصبحت مكة والمدينة بين أيدي الوهابيين ولم يعد يُسمى بخادم الحرمين الشريفين لكونه لايضمن الأمن والأمان لرعاياه خلال الحج.
التعليقات