ملامح الدولة السعودية الأولى..
ألقينا الضوء سابقًا في مقالتين متصلتين على الجذور الفكرية للوهابية،وبينا كيف أخرج لنا التراث الإسلامي منذ البداية مدرستين كلاهما إنتاج بشري، وهما المدرسة الظاهرية، والمدرسة العقلية، وأوضحنا كيف اتبع الأمويون والعباسيون التوظيف المنهجي لمرتزقة تلفيق وسبك الأحاديث لأسباب سياسية، ليرث الحنابلة هذه الأحاديث وتلك الأحكام ويشهرونها ضد خصومهم المذهبيين والفكريين. وكيف كانت نظيرية ابن تيمية في التوحيد البوابة الكبرى لتكفير عامة المسلمين، وغرس روح التطرف والكراهية والعدوانية ضد أصحاب الديانات الأخرى، وشرعنة الاستبداد السياسي، وكان جل علماء عصره على تجهيله وتناقضه وعدوانيته. وقد حمل تلامذته الحنابلة راية تغييب العقل وإصدار الفتاوى التكفيرية وكان أشهرهم ابن القيم الجوزية. ثم تطرقنا لنشأة الوهابية في مقالتين متصلتين، وبينا فيهما كيف ورث محمد بن عبد الوهاب هذا التراث التكفيري الهائل بعد خمسة قرون من وفاة بن تيمية، وقام بترجمة أفكار وفتاوى التيار الحنبلي ونظرية التوحيد لابن تيمية إلىحركة اجتماعية سياسية، مستغلًا الأوضاع الاجتماعية والثقافية المزرية لمنطقة شبه الجزيرة العربية إبان هيمنة الإمبراطورية العثمانية البغيضة، وخاصة منطقة نجد شرقي شبه الجزيرة العربية، وقد لاقت حركتة الرجعية والظلامية والتكفيرية قبولًا وسط تلك الأوضاع شديدة البؤس والتخلف والشقاء، وألقينا الضوء على الظروف الموضوعية والذاتية التي أدت إلىولادة تلك الظاهرة. ثم تطرقنا إلى نشأة الدولة السعودية الأولى، ومقالتنا هذهعنملامح الدولة السعودية الأولى.
في فصل الخطط الدينية ضمن كتابه مقدمة ابن خلدون، يرى ابن خلدون أنالوظائف في دولة الخلافة تتركز في إمامة الصلاة والفتيا والقضاء وصاحب الشرطة والشهادة والحسبة وسك النقود، ومن خلال تفصيلاته عن هذه الوظائف نعرف أنرجال الدين من العلماءوالفقهاء أو (المؤسسة الدينية) ينوبون عن الخليفة في إمامة الصلاة وفي الإفتاء وهم أهل الفتوى والقضاء،كما يشارك الفقهاء في وظائف الشهادة والحسبة. ويؤكدابن خلدون أن الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا به،فصاحب الشرع متصرف في الدين (التكاليف الشرعية وحمل الناس عليها)وفي الدنيا برعاية مصالح الناس في العمران البشري.والأحكام الشرعية (في الدولة الدينية) أكمل في تحقيق مصالح العمران البشري،وبها يتحول الملك العادي إلىملك ديني يندرج تحت الخلافة. ومن هنا لابد من تدعيم دور العلماء والفقهاء في الدولة الدينية. وبذلكنرى ملامح الرؤية الخلدونية في علاقة العلماء أو الفقهاء بالأمير في الدولة السعودية الأولى،ففي البداية كان للشيخ عبد الوهاب دوره السياسي،إذ كان له مطلق الحرية في التصرف في الغنائم والزكاة، وكان في عهد محمد بن سعود يجهز الجيوش ويكاتب أهل البلدان ويكاتبونه، وبعد موت محمد بن سعود كان ابن عبد الوهاب على رأس من بايع عبد العزيز بن محمد بن سعود، وبعده أمر محمد بن عبد الوهاب جميع أهل نجد بمبايعة سعود بن عبد العزيز وليًا لعهد أبيه فبايعوه جميعًا في حياة أبيه عبد العزيز وبإذنه حسبما يقول ابن بشر مؤرخ الحركة الوهابية وغيره، وبذلك تأسس مبكرًا معنى التحالف (القبلي – الديني) فى أن تكون المؤسسة الدينية ممثلة في الشيخ بن عبد الوهاب وأسرته من بعده، مؤيدة ومؤكدة للسلطة السياسية للأمير السعودى من ذرية محمد بن سعود. ومبكرًا بعد تحالفه مع ابن عبد الوهاب أصبح محمد بن سعود الحاكم الوحيد في نجد التي تسير إمارته وفق أحكام الشرع الوهابى التيمي الحنبلى، وباستكمال معالم الدولة السعودية الدينية الأولى برز دور رجال الدين التابعين لأسرة ابن عبد الوهاب في الشوري والقضاء والتعليم،وكانت تلك المؤسسة الدينية الوهابية عضدًا لحكم آل سعود، ثم ازداد تقيد الدولة السعودية بأحكام الشرع الوهابى مع ازدياد توسعها،فأصبح الحاكم السعودي يحمل لقب (الإمام) طبقا للمتعارف عليه في الفقه التراثي السني، على عادة نظم الحكم السنية الإسلامية. واضطر الإمام أى الحاكم السعودي إلىإيجاد هيئات حكومية تُسند إليها بعض اختصاصاته،ومن الطبيعي أن يعتمد فيها على رجال الدين والأمراء. ومع أن الحاكم السعودي أو الإمام كانت له سلطاته في الإشراف الإداري على شؤون الدولة وشؤون الأمن وشؤون المالية والحربية والتعليمية،إلا أن الملامح الدينية تبدو في ممارسته هذه السلطات، فعندما كان يرسل الكتب إلىعمال الأقاليم كان يوصيهم بتقوى الله ويحضهم على الجهاد وينهاهم عن المنكرات والمحظورات،ويستشهد بأدلة من الكتاب والسنة. وكان إذا استشكل عليه أمر يستشير الأمراء ورؤوس القبائل ورجال الدين،ومن الطبيعي أن يتزود الأمير الحاكم بالثقافة التراثية السنية الحنبلية،ومن هنا كان حرص أمير الدرعية وأبنائه على حضور ما سُمي (مجالس العلم) والمشاركة في مناقشاتها والإهتمام بالمخصصات المالية للعلم والتعليم الدينيورجال الدين. ومع حصول البيت السعودي على ثقافة تراثية سنية ومع توسع الدولة وتعقد شؤونها بدأ التخصص في توزيع المهام، ويُلاحظ ذلك اثناء حياة الشيخ ابن عبد الوهاب نفسه،فقد كان للشيخ مشاركته السياسية بالإضافة إلىدوره الديني والإرشادي،فلما اتسعت أملاك الدولة في عهد عبد العزيز بن محمد إنقطع الشيخ للأمور الدينية،إلا أن عبد العزيز لم يكن في مقدوره أن يبت في كل الأمور بمفرده، فظل يستشير ابن عبد الوهاب والأمراء ورجال الدين وأصحاب الرأي. وفي عهد سعود بن عبد العزيز وزيادة مهام الحكم وتعقد شؤون الإدارة تم تنظيم مراحل للشورى،حيث تبدأ برؤساء البوادي،ثم أصحاب الرأي من أهل الدرعية بما فيهم الأمراء،وفي النهايةاستشارة ابناء الشيخ بن عبد الوهابورجال الدين،وبناء على هذه الشورى يُتخذ القرار المناسب،أي كان رجال الدين حاضرين على مستوى الشورى في قاعدة الحكم،وكان لهم حضور في الأقاليم حيث كان الحكام من المؤمنين بالدعوة السلفية الحنبلية المخلصين لها،وكان إلىجانب حكام الأقاليم أصناف من رجال الدين يقومون بوظائف القضاء وإصدار الفتاوي،والإشراف على تنفيذ أحكام الدين في الإقليم،وجمع الزكاة طبقا لأحكام الشرع. ويؤكد كل هذا وجود الملاح الدينية في دور الحاكم السعودي الذي أصبح إمامًا بالإضافة إلىدور رجال الدين الذي أصبح مشاركة على مستوى العاصمة والأقاليم،وأن ذلك بدأ بدور الشيخ ابن عبد الوهاب،ثم اتسع مع اتساع الدولة. وبالإضافة إلىما سبق كان للفقهاء الوهابيين دورهم الخاص بحكم تخصصهم في القضاء والتعليم. وكان القضاء في الدولة السعودية يسير وفقًا لأحكام الفقه الحنبلى التيمي بتفسيراته الوهابية تحت شعار القرآن والسنة واجتهادات السلف.كما دعم هذا الطابع (الديني – القبلي) للدولة الوهابية الوليدة،تركز مناصب القضاة في أسر بعينها، أشهرها بالطبع أسرة الشيخ ابن عبد الوهاب الذي تولى هو وأبناؤه وأحفاده قضاء الدرعية، بجانب أسرآل خميس، وحامد بن راشد العريني، وآل شبانة، كما كان هناك قضاة وهابيون ترسخوا في منصب القضاء في إقليم محدد، مثل ابن نامي في الأحساء وعبد العزيز آل حسين في الوشم وابن سويلم في القصيم، وابن عبيد في شمر، وأبو حسين في حريملا، ومحمود الفارس في القطيف، وبذلك تركزت مناصب القضاء في أسر معينة، تتوارث وتتخصص في منصب القضاء فإذا كان لهذه العائلات نفوذًا وعصبية في الإقليم كان سهلًا أن تحتكر منصب القضاء في إقليمها، حيث تجتمع العصبية القبلية مع التخصص العلمي الفقهي الذي اقتصر وقتها على المذهب الحنبلي والدعوة الوهابية. كما قامت الحركة التعليمية في الدولة السعودية الأولى على أكتاف رجال الدين الوهابيين،وبسبب ظروف (نجد)فلم يكن فيها التعليم عصريًا،فلم يكن الطلاب يدرسون في مدارس نظامية ببرامج دراسية محددة في وقت معين،وإنما اقتصر التعليم على علوم الدين من التفسير والحديث والفقه الحنبلي،وأهم الكتب التي كان يتدارسها الطلاب والإمام السعودي نفسه هي تفسير الطبري،وتفسير ابن كثير،وصحيح البخاري، ورياض الصالحين،وكتب ابن تيمية، وكتب ابن عبد الوهاب، وكان الذين يقومون بالإشراف على شؤون التعليم في الدرعية ابناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد أبيهم وعبد الله بن حماد والقاضي عبد الرحمن بن خميس،أما في الأقاليم فكان القضاة يقومون بدور المعلمين. وكانت المساجد وبيوت المعلمين هي أماكن الدراسة، وإذا أتم الطالب دروسه وأتقنها واقتنع به الشيخ أجازه،أي أعطاه شهادة يكون بها مدرسًا،ويحق له التصدي للإفتاء والقضاء.وتكفلت الدولة بالإنفاق على التعليم،وكان الإمام عبد العزيز يمنح المكافآت التشجيعية للطلاب المتفوقين. وبهذا تخرج رجال دين وهابيون ساعدوا الدولة في وظائفها الدينية التي تهدف في النهاية إلىإقامة الشرع (بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وفق الشرع السني الحنبلي التيمي الوهابي.
كان عامة المسلمين يرفضون التفسير الوهابي للتوحيد، ويجادلون بقوة فيما إذا كان دعاء الصالحين والاستغاثة بهم شركًا بالله تعالى، خاصة مع الإيمان بأن الأولياء وسائل فقط إلىالله وليس بأيديهم النفع أو الضر. وكان ذلك على الأقل يشكل مبررًا كافيا للتوقف في تكفير المسلمين لأنهم آمنوا بذلك عن جهل وشبهة. ولكن الوهابيين لم يكونوا يعترفون بتلك المبررات، وكانوا يصرون على فرض قراءتهم الخاصة للتوحيد بالقوة على الناس، ومقاتلة من لم يوافقهم على رؤيتهم. وذهب بن عبد الوهاب بعيدًا في عملية التكفير لتشمل المعارضين له والمحايدين والمترددين. وقد صرح بذلك في رسالة له إلىشريف مكة، الذي سأله عما يقاتل عليه الناس؟ وعما يكفر به الرجل، فقال “أنه يكفر ويقاتل أنواعًا من الناس.الأول من عرف (التوحيد) دين الله ورسوله، الذي أظهرناه للناس، وأقر أن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر والبشر، الذي هو دين غالب الناس هي الشرك بالله، ومع ذلك لم يلتفت إلى(التوحيد) ولا تعلمه ولا دخل فيه ولا ترك (الشرك) فهذا كافر نقاتله بكفره، لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه، وعرف دين الشرك فلم يتركه، مع أنه لا يبغض دين الرسول ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك ولا يزينه للناس. والثاني من عرف ذلك كله ولكنه تبين في سب (دين الرسول) مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف والأشقر، ومن عبد أبا علي والخضر من أهل الكويت، وفضلهم على من وحد الله وترك الشرك، فهذا أعظم كفرًا من الأول. والثالث من عرف (التوحيد) وأحبه واتبعه، وعرف (الشرك) وتركه، ولكن يكره من دخل (التوحيد) ويحب من بقي على (الشرك) فهذا أيضًا كافر. والرابع من سلم من هذا كله ولكن أهل بلده مصرون بعداوة (التوحيد) واتباع أهل الشرك، وساعون في قتالهم، ويتعذر أن تركه وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل (التوحيد) مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه، فهذا أيضًا كافر”.كما قام بن عبد الوهاب بقطع صلة كل من لم يتبع مذهبه الحنبلي عن الإسلام، وهو الذي ماكان أحد من المذاهب الأربعة المعروفة والمنتشرة في العالم الإسلامي ليفعل ذلك، فقد كانوا ينظرون إلىبعضهم البعض على أنهم مسلمين يختلفون في اجتهاداتهم الدينية فقط. لكن بن عبد الوهاب غير هذا المسارمما أثار انتباه علماء كثيرين له.ففي كتابه (الفجر الصادق) في الرد على الفرقة الوهابية المارقة ص 12، يقول العالم والمفتي العراقي الشيج جميل الزهاوي (1863- 1936م) عن بن عبد الوهاب “ويسمي جماعة من أكابر العلماء الماضين أنهم كانوا كفارًا… وكان يصرخ بتكفير الامة منذ ستمائة سنة ويكفر كل من لا يتبعه”،بل يبين الشيخ الزهاوي كيف عمل بن عبد الوهاب بإحراق الكتب التي تتضمن الصلاة على النبي وتدمير مجلات الشريعة الإسلامية وتفاسير القرآن والتحليلات العلمية للأحاديث؟؟.بل تذكر المصادر الموثقة في كتب أمثال أيوب صبري باشا الذي كان لواءً للأسطول العثماني في عهد عبد الحميد خان الثاني (1876- 1909م) أن ابن عبدالوهاب وابن سعود أعلنوا أن من لايقبلون الوهابية هم (كفار ومشركون ؟) ولذلك من الجائز قتلهم ومصادرة أملاكهم؟ فحسب عقيدة بن عبدالوهاب أن من ظل على شركياته فهو يكفر رغم نطقه للشهادتين ومن ثم جاز قتله بتهمة الردة!. وكذلك تبين المصادر الغربية ذلك عندما وصف (دومينغو باديا إي ليبليش) وكيل نابليون الذي زار الجزيرة العربية سنة 1807م باسم (علي بايالعباسي)؟ كيف عامل التحالف الوهابي – السعودي أولئك الذين لم يخلصوا الولاء للوهابية بالقول “كانت حركة ابن عبدالوهاب الذي سلم ابن سعود كل القبائل الخاضعة لحكمه قد عملت على اعتناق كل هذه القبائل لمعتقده واستطاعوا أن يجعلوا هذه العقيدة ذريعة لمهاجمة القبائل المجاورة والتي أُجبرت على خيار الاتباع للحركة أو الهلاك بالسيف”. حتى أن الأسرى خُيروا بين القتل أو اعتناق الوهابية!. وقد دعم بن عبد الوهاب مشروعه بتأصيل فكري في كتابه (التوحيد) وتبنى أجندة متطرفة في معادات المسيحية واليهود واصفًا إياهم أنهم يؤمنون بعبادة الشيطان وأنهم أصبحوا من الغاويين الذين غويهم الشيطان وهم يغون الناس فأصبحوا كالسحرة، وقياسا على الحديث النبوي عن السحرة كان الأجدر قتلهم (الحديث: حد الساحر ضربه بالسيف)، وأن أصحاب هذه الأديان جعلوا من قبور أنبياءهم أماكن عبادة فمن يتبع أعمالهم فهو مثلهم؟، كذلك ركز على الأحاديث التي تستثير في النفوس القتال منها (..أن ذروة سنام الإسلام هو الجهاد وأن الجنة تحت ظلال السيوف وكذلك الوعد بنعيم الجنة والحور العين) مما أدى إلىإحياء هذه المفاهيم ومهد الطريق لنجاح الحملات الوهابية العسكرية من القرن الثامن عشر الميلادي ولغاية بدايات القرن التاسع عشر” أي إبان حقبة الدولة السعوديةالأولى.
بعد تكفير عامة المسلمين واستباحة أرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم،كان من المتوقع جدًا أن يلغي محمد بن عبد الوهاب مفهوم الشورى من قاموسه السياسي، وأن لا يفكر بالسماح للجماهير الواسعة بالمشاركة في الحكم، أو يشترط رضاها أو رضا أهل الحل والعقد في تنصيب الإمام وأن يعتمد على القوة والعنف في توسيع رقعة الدولة الوهابية السعودية الأولى. وقام بتوظيف الفكر السلفي الجنبلي الذي يبيح استخدام القوة في الاستيلاء على السلطة ويعتبر (الشوكة) أساسًا للحكم. وكان يرى نفسه منخرطًا في عملية ثقافية جذرية، أكبر من مجرد بناء نظام سياسي، وينظر إلىموقعه تمامًا كموقع النبي أمام أهل الجاهلية، حيث لم يكن يوجد أي معنى لمنحهم حق ممارسة الشورى أو السماح لهم بالمشاركة في بناء الدولة أو اختيار الإمام أو اتخاذ القرارات العسكرية والسياسية. ولم يكن يملك ما يضيفه على الفكر السياسي الموروث من ابن تيمية الحنبلي، أو يشكك فيه، أو يقدم بديلًا جديدًا عنه، وهو الذي قام بحركة ذات صبغة فكرية عقدية، أكثر منها سياسية. وإضافة إلىإيمان بن عبد الوهاب بشرعية الحاكم المتغلب والقاهر، ورفضه للشورى، فكان يدعو الناس إلىطاعة الإمام في ظل الدولة الوهابية والتسليم له، ويحرم الثورة عليه، بغض النظر عن طبيعة سياسته وسلوكه، إذ يقول”أرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله”. و”إن من تمام الاجتماع: السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبدًا حبشيًا”. ويقول”من ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة، وجبت طاعته وحُرم الخروج عليه”. وذلك ضمن السياق العام للموقف الحنبلي التيمي المدعوم بروايات كثيرة حول الموضوع. وكانت فكرة الطاعة المطلقة للإمام قد ارتبطت من قبل، في الفكر السياسي السلفي بشكل عام، بنظرية شرعية إمامة المتغلب بغض النظر عن تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة أو الالتزام بالقانون، وتهميش دور الأمة في عملية الإصلاح الاجتماعي أو المعارضة السياسية، وترك المجال السياسي للأمراء والحكام يتصارعون فيه فيما بينهم حتى يتغلب أحدهم على الآخر. وقد أضاف الفكر الوهابي إلىذلك وجوب التسليم والخضوع لأئمة الدعوة الوهابية من قبل أبناء الحركة، فضلا عن عامة الناس. وبناء على ذلك فإن بن عبد الوهابلم يعط الأمة أو الحركة الوهابية الحق في المعارضة أو التمرد والخروج على النظام السعودي. إضافة إلى عدم وجود أي قانون للمحاسبة أو النقد أو التغيير. وكان يرفض توجيه النقد للأمراء بصورة علنية.إذ كان النظام السياسي البدويمنذ الدولة الأيوبية حتى قبيل الحركة الوهابيةيقوم على نظرية القوة والوراثة وليس الشورى والانتخاب، وكان يعاني من خلل كبير هو التباس حق الخلافة في الإمارة عندما يموت الأمير وليس له ابن رشيد، أو ذو مقدرة معترف بها ليتولى مقاليد الحكم، إذ يقع النزاع المسلح على الخلافة بين المتنافسين من أخوة وأعمام وأولاد الأعمام، فتقع نتيجة لذلك سلسلة من الحروب الداخلية لا تنتهي إلا بدمار المجتمع وزرع مزيد من العداوة والبغضاء فيه. وكان يُنتظر من أي مصلح خاصة إذا كان يهدف إلىالتجديد في الدين، أن يحل هذه المشكلة المزمنة ليعيد الأمور إلىطبيعتها ويقيم نظامًا يقوم على الشورى والاختيار والتبادل السلمي للسلطة، ولكن بن عبد الوهاب الذي كان يركز على محاربة الشرك في الأمة حسب زعمه، لم يلتفت كثيرًا إلىمشكلة النظام السياسي، وانخرط في النظام البدوي الوراثي القائم، بل كرس ذلك النظام وأعطاه شرعية دينية وبايع الأمير محمد بن سعود بدلًا من أن يأخذ البيعة من الامير له. ولذلك فإن اتفاق بن عبد الوهاب مع الأمير لاقتسام السلطة، لم يتضمن أي حديث عن نظام الشورى أو مشاركة الأمة في انتخاب الإمام، ولم يشر إلىأي دور لابن عبد الوهاب أو لذريته في تعيين الإمام في المستقبل، أو كيفية إدارة الدولة واتخاذ القرارات المهمة فيها. كما لم يتحدث عن طريقة تبادل السلطة داخل الإمارة بين الأبناء والإخوان من آل سعود، وإنما ترك كل ذلك لما اعتاد عليه النظام القبلي ولإرادة الأمير الحاكم. وهكذا اتخذت التجربة الوهابية السعودية الأولى التي قامت على يد محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود عام1744م صفة الحكم الاستبدادي المطلق، وخلت من أي صورة من صور المشاركة الشعبية، سواء في داخل الحركة الوهابية أو بالنسبة للجماهير التي خضعت لحكم الدولة التي أقامتها باسم الوهابية. ولم يقدم بن عبد الوهاب تصورًا مستقرًا ومتكاملًا عن النظام السياسي أو المشاركة الشعبية أو العلمائية فيه، ما عدا مشاركته هو ومشاركة أبنائه في إرشاد الأمراء بشكل شخصي، أو تقديم المشورة غير الملزمة لهم.
نظرًا لغياب نظام الشورى وعدم وجود آلية لمحاسبة الأمراء المتمردين أو المخالفين لأوامر القيادة العليا، لم يكن أمام النظام الوهابي الجديد سوى اللجوء إلىالقوة لحل الخلافات الداخلية. كما حدث مع الأمير عثمان بن معمر الذي كان قد أصبح قائدًا أعلى للقوات الوهابية عام 1748م، والذي حاول أن يسلك طريق الصلح والسلام مع خصوم الدعوة الوهابية وخصوصًا مع أمير الرياض دهام بن دواس، الذي دعاه إلىالعيينة للحوار معه وأرسل إلىمحمد بن عبد الوهاب وألح عليه بالحضور، ولكن بن عبد الوهاب رفض الصلح واللقاء بدهام. وقرر بدلًا من ذلك تصفية عثمان بن معمر اغتيالًا، فأرسل اليه من يقتله في المسجد بعد أداء صلاة الجمعةفي منتصف شهر يونيو عام 1750م.ولم يكن هنالك أي مجال في ظل العقيدة الوهابية، لأي نوع من الصلح والسلام بين الحكومة الوهابية والقبائل والشعوب والطوائف الإسلامية المختلفة، إلا بالدخول في مذهبها، ومع ذلك فإن تلك القبائل والطوائف لم تكن تسلم من العنف والاستبداد والاتهام بالردة. وهذا ما يفسر دموية المعارك التي خاضها الوهابيون لفرض مذهبهم، أو الانتقام من أعدائهم، سواء في نجد، أو في الأحساء، أو في الحجاز، أو في العراق وخاصة في كربلاء. فكان على رأس تلك المجازر التي أقامها الوهابيون في عهدهم الأول مجزرة كربلاء الرهيبة، التي شن فيها الوهابيون بقيادة سعود بن عبد العزيز، هجومًا مباغتًا على كربلاء دون سابق إنذار أو دعوة لمذهبهم، وإنما على حين غفلة من أهلها، فأقاموا مجزرة رهيبة فيها، وذلك في شهر إبريل 1802م، وفي هذا الصدد يقول المؤرخ الوهابي عثمان بن بشر في كتابه – عنوان المجد في تاريخ المجد “إن سعود سار بالجيوش المنصورة والخيل العتاق المشهورة، من جميع حاضر نجد وباديها، والجنوب والحجاز وتهامة وغير ذلك، وقصدوا أرض كربلاء ونازل أهل بلد الحسين، فحشد عليها المسلمون وتسوروا جدرانها ودخلوها عنوة، وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت، وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين، وأخذوا ما في القبة وما حولها، وأخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت والجواهر، وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك مما يعجز عنه الحصر ولم يلبثوا فيها إلا ضحوة وخرجوا منها قرب الظهر بجميع تلك الأموال، وقُتل من أهلها قريب ألفي رجل، ثم أن سعودًا ارتحل منها فجمع الغنائم وعزل أخماسها، وقسم باقيها على المسلمين غنيمة للرجل سهم وللفارس سهمان. وهذا ما ذهب اليه حافظ وهبة، مستشار الملك عبد العزيز بن سعود، حيث قال عن الدولة السعودية الأولى”… أنها كانت مستندة إلىالقوة العسكرية أكثر من استنادها على القلوب، وأن الدعوة لم تتمكن من قلوب الناس، ولذلك فإن الثورات كانت تنشب من وقت لآخر لطرح الحكم السعودي، لا سيما في البلاد البعيدة عن نجد كعسير وعمان”.وهو ما ذهب اليه أيضًا الدكتور عبد الله بن عثيمين الذي قال “كانت الحروب من أهم أسباب توسع الدولة السعودية الأولى، كما كانت السبب الجوهري في نهايتها”.
كان من الصعب جدًا على عامة المسلمين القبول بالدعوة الوهابية التي كانت تحتم عليهم الاعتراف على أنفسهم بالشرك والكفر والدخول في الإسلام من جديد، وكذلك ما اتسمت به الحركة بالاستبداد السياسي الشامل، والاعتماد على نظرية القهر والغلبة كما أوضحنا سابقًا، فقد كان الكيان الوهابي الوليديلقى مجابهة واسعة وعريضة، ولم يكن أمام الحركة الوهابية إلا الاستمرار في استخدام العنف والإرهاب لإجبار الناس على الخضوع لهم والقبول بعقيدتهم، وهذا ما كان يمهد الطريق للعمل من أجل مقاومتهم وتحين الفرص للتخلص منهم بالقوة.إذ أن السيف وحده لم يكن ليشكل يومًا أساسًا لدولة، وأن الشعب الذي يخضع لحركة قوية قد يقبل بها مؤقتًا، ولكن رفض الشعب لها سيكون سلبيًا وعنيفًا في المستقبل. وهو ما حصل بالفعل فقد كانت المواجهة قائمة على قدم وساق بين أغلب سكان المناطق في الجزيرة العربية والميليشيات الوهابية السعودية الغازية. ولذلك فقد نشأ نوع من الصراع المحموم الذي لا يهدأ بينها وبين الجماهير المسلمة، وهو إن خبا فترة من الزمن فلكي يعد أصحابه العدة لجولة جديدة من الحرب. فمنذ البداية كان موضوع تكفير المسلمين الذين لا يؤمنون بمبادئ الوهابية، وإعلان الحرب عليهم، موضع خلاف داخلي وتململ في صفوف الكيان الوهابي الجديد، وذلك منذ ألف الشيخ سليمان بن عبد الوهاب (أخو محمد بن عبد الوهاب)، الذي كان يشغل منصب القضاء في حريملا، كتابًا يرفض فيه بشدة عملية التكفير لعموم المسلمين. وقد أدى انتشار ذلك الكتاب ورفض بن عبد الوهاب مبادرة الصلح إلىحدوث تململ عام في كافة المدن والقرى الوهابية، فانشق أمير ثرمدا إبراهيم بن سلمان، وقام أمير ضرما، إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن سنة 1751م بالتمرد، وتبعه أهل حريملا بإعلان الاستقلال عن حكم آل سعود سنة 1752م، وإخراج الوهابيين من بلدتهم، وقتل أميرهم محمد بن عبد الله المبارك. وهكذا فعل أهل (منفوحة) الذين طردوا في السنة التالية أميرهم محمد بن صالح وتمردوا على القيادة الوهابية. وأرسل الشيخ سليمان رجلًا من أنصاره إلىالعيينة، اسمه (سليمان بن خويطر) وأعطاه كتابه وأمره أن يقرأه في المحافل والبيوت، فأثر في قلوب بعض أهل العيينة، كما تأثر بعض أهل الدرعية نفسها بفكر الشيخ سليمان، المعتدل والرافض للتكفير. وبدلًا من فتح باب الحوار حول الموضوع، أمر بن عبد الوهاب بإلقاء القبض على (سليمان بن خويطر) بتهمة ترويج كتاب أخيه، وأصدر أمرًا بإعدامه، فقُتل. وقامت مجموعة وهابية بالهجوم على أمير ضرما المتمرد إبراهيم بن محمد وقتله في مجلسه. ولكن المعارضة لم تُخمد، وكادت أن تتحول إلىانتفاضة عامة، فأوعز بن عبد الوهاب إلىأمير ضرما الجديد محمد بن عبد الله بالتصرف كيفما يشاء معها، فبادر هذا إلىاعتقال المشكوك فيهم وإعدامهم صبرًا. وقامت القوات الوهابية بالهجوم على ثرمدا، وقُتل حوالي سبعين شخصًا من أهلها “المرتدين”. ثم قام عبد العزيز بن محمد بن سعود سنة 1754م بمهاجمة حريملا والقضاء على حركة التمرد التي استمرت أربع سنوات، وإخضاع البلدة بالقوة، بعد أن قتل من أهلها مائة رجل، وصادر أموال الناس الذين هربوا في الشعاب والجبال،وقام بعد ذلك بمهاجمة (منفوحة) ومقاتلة أهلها وصادر كثيرًا من الإبل والبقر والحمير. فكان بذلك اعتماد الدعوة الوهابية على العنف بدلًا من الحوار والاقناع، وتحول الصراع في نجد إلىمحاولة لفرض سلطان آل سعود، أكثر منه محاولة لنشر مبادئ الدعوة الوهابية، وهو ما يفسر المعارضة الشديدة التي لقيتها الدعوة في نجد، والتي استغرقت حوالي أربعين عامًا، ولذا فإن الناس الذين كانوا يخضعون بالسيف لسلطة آل سعود فترة من الزمن، كانوا سرعان ما ينفضون عنهم ويتمردون لمجرد ما يتغير ميزان القوى لصالحهم. وقد استمرت تلك الحقبة المضطربة المشحونة بالانتفاضات، واشتدت مع تسلم سعود بن عبد العزيز للقيادة العسكرية في بداية عقد التسعينيات من القرن الثامن عشر الميلادي، حيث حصل اضطراب شديد، وتذبذب كبير في دخول القرى النجدية في طاعة آل سعود والخروج منها، وذلك لما كان يتسم به سعود من عنف ودموية وإرهاب، فما أن يسيطر على بلد حتى ينتفض بلد آخر، وما أن يقمع قرية حتى تتحداه قرية أخرى.
كانت الدولة العثمانية قد اتبعت المذهب الحنفي وقد كان مخالفًا عن المذهب الجنبلي،ولكن بن عبد الوهاب تميز عنها وأراد أن ينفصل عن كل روابط الخلافة العثمانية وأهمها هو المذهب الديني.ورغم أنالكيان الوهابي السعودي الوليد تمادى في تعديه على الأقاليم الخاضعة لسلطة الدولة العثمانية وأهمها الحجاز والعراق، وهددوا الشرعية الدينية للخليفة العثماني بفقد سيطرته على الأراضي الإسلامية المقدسة بصفته خادم الحرمين الشريفين،إلا أن الدولة العثمانية حاولت التهدئة والتنازل قليلًا لسعود بن عبد العزيز فبعثت له بعدة وفود ورسائل تطلب فيها الهدنة والصلح، كتب في جواب ذلك رسالة مطولة إلىيوسف باشا، جاء فيها”وأما المهادنة والمسابلة على غير الإسلام، فهذا أمر محال، بحول الله وقوته، وأنت تفهم أن هذا أمر طلبتموه منا مرة بعد مرة … وبذلتم الجزية على أنفسكم كل سنة ثلاثين ألف مثقال ذهب، فلم نقبل منكم ولم نجبكم بالمهادنة، فإن قبلتم الإسلام فخيرتها لكم وهو مطلبنا، وإن توليتم فنقول كما قال الله تعالى (فإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم)”. وقد احتج والي بغداد سليمان باشا، على هذه الرسالة العنيفة، فأرسلإليه سعود رسالة يعلن فيها موقفه الصريح من الدولة العثمانية، التي أخذ يتهمها بالكفر والشرك والردة، ويدعوها إلىالدخول في الإسلام، وقد جاء فيها “ذكرتم أن كتابنا المرسل إلىيوسف باشا، على غير ما أمر الله به ورسوله من الخطاب للمسلمين، بمخاطبة الكفار والمشركين، وأن هذا حال الضالين وأسوة الجاهلين، فنقول: بأنا متبعون ما أمر الله به ورسول عباده المؤمنين. ومن تلبيس إبليس أن يظن أن ما ذم الله به اليهود والنصارى والمشركين لا يتناول من شابههم من هذه الأمة… ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم وسلكوا سبيلهم.. وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا.. نشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام وقلت العلماء وغلبت السفهاء وتفاقم الأمر واشتد البأس وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولكن لا تزال طائفة من العصبة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلىأن يرث الله الأرض ومن عليها… فانظر إلىتصريح هؤلاء الأئمة بأن هذه الأعمال الشركية قد عمت بها البلوى وشاعت في كثير من بلاد الشام وغيرها، وأن الإسلام قد اشتدت غربته.. وأن هذه المشاهد والأبنية التي على القبور قد كثرت وكثر الشرك عندها وبها حتى صار كثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركًا عندها وبها. وهذا ما يبطل قولكم إنكم على الفطرة الإسلامية والاعتقادات الصحيحة، ويبين أن أكثركم قد فارق ذلك ونبذه وراء ظهره وصار دينه الشرك بالله ودعاء الأموات والاستغاثة بهم. وأما قولكم (فنحن مسلمون حقًا، وأجمع على ذلك أئمتنا أئمة المذاهب الأربعة ومجتهدوا الدين والملة المحمدية). فنقول: قد بينا من كلام الله وكلام رسوله وكلام أتباع الأئمة الأربعة ما يدحض حجتكم الواهية ويبطل دعواكم الباطلة. وحالكم وحال أئمتكم وسلاطينكم تشهد بكذبكم وافترائكم في ذلك. وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، رسالة لسلطانكم سليم، أرسلها إلىابن عمه إلىرسول الله يستغيث به ويدعوه ويسأله النصر على الأعداء من النصارى وغيرهم، وفيها من الذل والخضوع والعبادة والخشوع ما يشهد بكذبكم، وأولها: (من عُبيدك السلطان سليم، وبعد يا رسول الله قد نالنا الضر ونزل بنا المكروه، نسألك النصر عليهم والعون عليهم). وقال غير واحد من العلماء: إن من أسباب الكفر والشرك: الغلو في الصالحين… فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب، وإلا قُتل. وأما قولكم: (وأما ما اعترينا من الذنوب فلا يخرجنا من دائرة الإسلام، كما زعمت الخوارج). فنقول: نحن بحمد الله لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، وانما نكفرهم بما نص الله ورسوله وأجمع عليه علماء الأمة المحمدية: أنه كافر، كالشرك في عبادة الله غيره، من دعاء ونذر وذبح، وكبغض الدين وأهله والاستهزاء به. وأما قولكم: (فكيف التجري بالغفلة على إيقاظ الفتنة بتكفير المسلمين وأهل القبلة، ومقاتلة قوم يؤمنون بالله واليوم الآخر، واستباحة أموالهم وأعراضهم وعقر مواشيهم وحرق أقواتهم، من نواحي الشام…إلخ؟.). فنقول: قد قدمنا أننا لا نكفر بالذنوب، وإنما نقاتل ونكفر من أشرك بالله وجعل لله ندًا… فإن كنتم صادقين في دعواكم: (أنكم على ملة الإسلام ومتابعة الرسول (ص) فاهدموا تلك الأوثان كلها وسووها بالأرض، وتوبوا إلىالله من جميع الشرك والبدع، وحققوا قول: (لا إله إلا الله). ومن صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله من الأحياء والأموات، فانهوه عن ذلك، وعرفوه أن هذا مناقض لدين الإسلام ومشابهة لدين عُباد الأصنام، فإن لم ينته عن ذلك إلا بالمقاتلة، وجب قتاله، حتى يجعل الدين كله لله… فإذا فعلتم ذلك فأنتم إخواننا لكم ما لنا وعليكم ما علينا، يُحرم علينا دماؤكم وأموالكم. وأما إن دمتم على حالكم هذه، ولم تتوبوا من الشرك الذي أنتم عليه وتلتزموا دين الله الذي بعث الله به رسوله، وتتركوا الشرك والبدع والمحدثات، لم نزل نقاتلكم حتى تراجعوا دين الله القويم وتسلكوا طريقه المستقيم. (وقاتلوهم حتى لا يكون فتنة ويكون الدين كله لله).. حرر في اليوم الرابع عشر من شهر ذي القعدة، سنة خمس وعشرين”. كما اقترن إعلان تكفير الدولة العثمانية ورعاياها من المسلمين من قبل الحركة الوهابية بقيادة الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، مع حملات عسكرية عنيفة على اطرافها المختلفة، واستعمال لدرجة عالية من الإرهاب، حقق لابن سعود سيطرة شبه كاملة على شبه الجزيرة العربية، ولكنه استفز الدولة العثمانية والعالم الإسلامي للقيام بحملة مضادة تمثلت في الإيعاز إلىوالي مصر (محمد علي باشا) بالهجوم على الحجاز ونجد والقضاء على الكيان الوهابي الوليد.. ولم ينفع بعد ذلك تراجع زعيم الوهابية الجديد الأمير عبد الله بن سعود عن التكفير، ولا إعلان الولاء التام للسلطان العثماني محمود الغازي والاعتراف بأنه “عبد من عبيد الباب العالي ومن جملة الخدام”.

التعليقات