الخميس - الموافق 13 نوفمبر 2025م

(14) الليبرالية الجديدة.. بقلم الكاتب والباحث: محمد السني

٢٠١٥٠٩١٧_٠٧٥٢٣٣

ألقينا الضوء سابقًا على “بريق شعار الحرية” إبان الثورة المصرية (25-30) في مقالة منفصلة، ثم تطرقنا إلى تطور مفهوم الحرية في إثنى عشرة مقالة منفصلة، عن ولادة مصطلح الحرية، وتطور مفهوم الحرية خلال الحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية، والمفهوم الإيماني المسيحي للحرية، وعصور الظلام الأوروبية، والحضارة الإسلامية، والحضارة المصرية القديمة، والعصور الوسطى المصرية، وعصر النهضة الأوروبية، وعصر التنوير الأوروبي، والليبرالية الكلاسيكية، والليبرالية الاجتماعية، ومقالتي هذه عن “الليبرالية الجديدة”.
أوضحنا سابقًا كيف سادت أفكار التحررية أو الليبرالية الكلاسيكية في أعقاب انتصار الرأسمالية وسيادة الطبقة البرجوازية منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بالقضاء على ما تبقى من القيم الفيودالية القديمة، التي صاحبت النظام الإقطاعي ومثلت مصالح الأمراء ورجال الدين، وتعارضت بشكل جذري مع مصالح الطبقات البرجوازية وليدة النظام الرأسمالي، والتي رفعت شعارها الأساسي”دعه يعمل.. دعه يمر..” وعبرت الليبرالية الكلاسيكية سياسيًا عن هذا الشعار، حيث كانت القيم الليبرالية قيم تقدمية آنذاك، أنجزتها ثورات اجتماعية تاريخة كبرى كما أوضحنا سابقًا، ورفعت شعارات الحرية والإخاء والمساوة، واكتسبت تأييد ومشاركة الطبقات الكادحة، بل إنهم كانوا وقود تلك الثورات، وقد نالوا قدرًا كبيرًا من الحريات العامة والشخصية، والحقوق المادية والاجتماعية والسياسية، وحقوق العمل، إذا ما قورنت بأوضاع الطبقات الكادحة إبان النظام الإقطاعي، ولكن الليبرالية الاقتصادية المطلقة شأنها شأن أي أفكار أو شعارات أو مباديء لم تظهر عيوبها الجوهرية إلا بعد التطبيق والممارسة، وذلك عندما ازذادت البطالة والتهميش للطبقات الكادحة وانتشار الفقر والجوع والمرض، والتراجع عن الكثير من مباديء العدالة الاجتماعية النسبية التي رفعت شعاراتها إبان الثورات البرجوازية الكبرى، واستمرار زيادة الفقراء فقرًا والأغنياء غنى، ومع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تكاثرت الكتابات التي تنزع نحو الحديث عن الليبرالية بوصفها أيدولوجيا ونظامًا اقتصاديًا قد تخطته البشرية، وخصوصًا الدراسات النقدية الراديكالية الصادرة من داخل الماركسية (سنأتي إليها لاحقًا)، وتكاثرت وتفاقمت تلك الكوارث مع الكساد العالمي الكبير عام 1229م، والتي كان بدوره أحد تجليات تلك الكوارث إضافة إلى الطبيعة الاستغلالية للرأسمالية كنظام قائم على الاستغلال الطبقي وتحقيق مصالح الأقلية الثرية المالكة في المجتمعات الرأسمالية، وقد لوحظ أن تلك الأزمة العالمية لم تمس النظم الاجتماعية المغايرة أي الاشتراكية رغم الغياب شبه التام للحريات السياسية، والتي تقوم فيها الدول بدور أساسي في توجيه وإدارة الاقتصاديات، مما زاد من رعب الأنظمة الرأسمالية من إمكانية تفجر ثورات اجتماعية في بلدانهم لتوفر الظروف الموضوعية لذلك، ونتيجة لتلك العوامل وغيرها ظهرت “الليبرالية الاجتماعية” لإنقاذ الليبرالية الكلاسيكية من فوضى الحرية الاقتصادية كما أوضحنا في مقالنا السابق بعنوان “الليبرالية الاجتماعية”، والتي مثلت أعمق مشروع نقدي إصلاحي صدر من داخل المذهب الليبرالي، والتي عبر عنها المفكر البريطاني “جون مينارد كينز” في كتابه “النظرية العامة” عام 1936م، حيث ركز فيها على مشكلتين رئيسيتين وهما البطالة، والنقد، منتقدًا بشدة نظرة الليبرالية الكلاسيكية إلى مشكلة البطالة، ورأى ضرورة تدخل الدول لترشيد السلوك الاقتصادي، وأكد على ضرورة قيام رؤية علمية شاملة تحدد الكم الكلي للمداخيل والاستهلاك والاستثمار وسعر الفائدة، ليتم ضبط وترشيد العملية الاقتصادية، وحققت الليبرالية الاجتماعية نجاحات كبيرة في الدول التي أخذت بها، واستطاعت خلال عقود تحقيق ما أطلق عليه “مجتمع الرفاه” في أغلب الدول الرأسمالية الكبرى، والتي ساعدت بدورها بتوفير المناخ الملائم نسبيًا لتحقيق الحريات الشخصية والعامة، ولكن مع توالي الأزمات الاقتصادية، وخاصة بعد حرب أكتوبر عام 1973م وارتفاع أسعار النفط، واستمرار الحرب الباردة وخاصة حرب النجوم، وما تلاه من إنكماشات في الإنتاج العالمي، وتقليص نسب الأرباح، حيث ظهرت أزمة اقتصادية جديدة لم تكن معروفة, وتمثلت في اقتران التضخم بالبطالة، وبرزت رؤى اقتصادية عملت على بلورة إطار نظري مغاير للإطار الكينزي, حيث زعمت هذه الرؤى أن سبب الأزمة لايكمن فقط في ارتفاع سعر النفط, بل في ارتفاع نفقات الدولة على الخدمات العامة التي تقدمها للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وكان الحل لديهم هو التراجع عن المقاربة الكينزية بالعودة إلى المنطق الليبرالي الكلاسيكي القاضي بإطلاق الفعل الاقتصادي من كل قيد خارجي، واختزال سلطات الدولة بالتقليل من مهامها ونفوذها, وجعل السوق كينونة مستقلة بذاتها، وهذا الحل جرى الاصطلاح على تسميته “الليبرالية الجديدة”، وبذلك نجد أنه بينما كانت النظرية الكينزية تراجعًا عن الإطلاق الليبرالي للسلوك الاقتصادي, ورفضًا لحياد الدولة بقصد معالجة أزمة عام 1929م, فإن الليبرالية الجديدة هي محاولة معالجة أزمة عام 1973م على أساس رفض المنظور الكينزي والمناداة بالعودة إلى الانتظام وفق الرؤية الليبرالية في أشد تمظهراتها التحررية الاقتصادية المطلقة التي راحت ترتقي شيئًا فشيئًا إلى “رأسمالية متوحشة”، لذلك طرحت “مارجريت تاتشر” وفيما بعد “توني بلير” ضرورة تبني النظرية العالمية الثالثة، أي الليبرالية الجديدة، وواكب ذلك التطور العالمي للرأسمالية التي اكتسبت صفة العولمة وظهور مظاهر النظام العالمي الجديد، وكانت تلك الإتجاهات الفكرية والسياسية الجديدة انتكاسة كبرى لليبرالية الاجتماعية، ومن ثم تغييب أهم الظروف الاجتماعية والاقتصادية الملائمة لتحقيق الحريات الشخصية والعامة.
كان لليبرالية الجديدة حضور كبير في الفكر الاقتصادي الأمريكي, خصوصًا في مدرسة شيكاغو مع أتباع “فريد مان” , ثم “بوشانان وراند” و “نوزيك”، فقد ظهرت هذه النظرية أولًا في حقل الاقتصاد السياسي بوصفها تنظيرًا مرتكزًا على أصول فكرية كانت قد تبلورت في مدارس أوروبية مثل مدرسة “لوزان” التي أسسها “ليون فالراس”، والمدرسة النمساوية التي أسسها “كارل منجر”, والمدرسة الإنجليزية التي أسسها “وليم ستانلي جيفنز”، وتمكن التيار الليبرالي الجديد من تجاوز الحقل الاقتصادي وبلورة رؤية ليس فقط للمجتمع والدولة على مستواها النظري, بل رؤية للعالم بكل تنوعه وتعقيداته, فاذا كان علم الاقتصاد السياسي الليبرالي الكلاسيكي مع “آدم سميث” و “ريكاردو” قد أكد على أن العمل هو محدد القيمة, فإن المنظور الليبرالي الجديد مع “مانجر” و “فالراس” يرى أن (المنفعة) هي محدد القيمة, وهو توكيد على المنظور المنفعي المتعلق بذاتية المستهلك, الأمر الذي جعل التحليل الليبرالي الجديد ينتقل من مستوى الموضوعية إلى مستوى الذاتية، وتم تبني المقاربة الليبرالية الجديدة من قبل المنظمات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي, الذي عمل وفق هذه الرؤية على إعادة رسم اقتصاديات الدول الفقيرة بالضغط على حكوماتها لتبني اختيارات ليبرالية جديدة، فمنذ البداية فشلت الإصلاحات التي تم تنفيذها في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي في إحداث أي تغيير في اقتصاديات تلك الدول، مما أدى لزيادة اعتمادها المالي على الدول المتقدمة وعلى مؤسسات التمويل الدولية، كما أدى بدء منظمة التجارة العالمية في العمل اعتبارًا من عام 1995م إلى مزيد من تقييد قدرات الدول النامية للانحراف عن الأجندة الليبرالية الجديدة، وأخيرًا خلال السنوات الأخيرة من عقد التسعينيات من القرن الماضي، سمح الازدهار الاقتصادي الذي شهدته الولايات المتحدة باعتبارها معقل الليبرالية الجديدة، والذي تزامن مع الركود النسبي الذي شهدته كل من اليابان وألمانيا، وهما الدولتان اللتان كان يُنظر إليهما على أنهما يمثلان البديل عن النظام الأمريكي، سمح ذلك لليبراليين الجدد بالمضي قدمًا من أجل تطبيق برامجهم، حيث لم يعد هناك بديلًا قائمًا للنظام الرأسمالي القائم على “حرية السوق” الذي تبنته الولايات المتحدة، فعلى الرغم أنه من المفترض أن الليبرالية الجديدة تستمد أفكارها الأساسية من الليبرالية القديمة، إلا أن المغالاة في الاعتقاد بالسوق، أو بالأحرى بقوى السوق، والتي فاقت في تشددها كل مواقف الأباء القدامى لليبرالية الكلاسكية وفي مقدمتهم “آدم سميث”، قد أدى في آخر الأمر إلى انفصال هذه القوى عن الإنتاج الحقيقي للسلع والخدمات، بحيث أصبحت غاية في حد ذاتها، وهذا هو العامل الرئيسي في التمييز ما بين الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة، ثم فتح انهيار الدول الاشتراكية الباب واسعًا أمام مساحة عريضة من العالم أصبحت على استعداد لتنفيذ أكثر الصيغ تطرفًا من برامج الإصلاح التي تتبع الليبرالية الجديدة، وفي بداية التسعينيات من القرن العشرين حدث تحول كبير في الواقع الدولي, فتم الحديث عن إطار علاقات جديدة يجب أن تسود الواقع الدولي, إطار يتسم بانفتاح الأسواق وزوال الحواجز الجمركية أمام انتقال السلع, وتقليص نفوذ الدولة, وهو الإطار الذي تم الاصطلاح على تسميته “العولمة”, الأمر الذي زاد من توكيد هيمنة رؤى الليبرالية الجديدة, والدفع بها لتكون المرجعية النظرية للعولمة، والفلسفة التي تهتدي بها المؤسسات التي تتحكم في الأرض ومن عليها على تعدد واختلاف أقطارها وثقافاتها وأنظمتها، واقترن هذا التحكم بمحاولة فرض النموذج الليبرالي الجديد الثقافي والحضاري الغربي على كافة الدول والمجتمعات، دون أي اعتبار للتنوع الحضاري والثقافي للبلدان الخاضعة للهيمنة الغربية وهي اختلافات موضوعية وفوارق تحكمها عوامل تاريخية لا يمكن القفز عليها أو حرق مراحلها التاريخية المهمة التي يجب اتمامها ونضجها، ولاستحالة الجور بشكل كبير على مكتسبات شعوب المجتمعات المتقدمة، فقد ظلت الليبرالية الجديدة حريصة نسبيًا على تراثها الليبرالي في احترام التقاليد الفردية في ضرورة احترام الحقوق الأساسية للأفراد، ووضع القواعد والضوابط على مختلف أشكال السلطة، لذا كانت دول الأطراف باعتبارها الحلقات الأضعف في منظومة الرأسمالية العالمية هي الضحية الأولى للمحاولات المستميتة لفرض قيم الليبرالية الجديدة المتوحشة.
ومن هنا تعرف “الليبرالية الجديدة” بأنها فكر أيدولوجي مبني على الحرية الاقتصادية المطلقة التي هي المكون الاقتصادي لليبرالية الكلاسيكية والذي يمثل تأييد الرأسمالية المطلقة، وتبني سياسات اقتصادية تقلل من دور الدولة وتقليص القطاع العام إلى أدنى حد، وزيادة دور القطاع الخاص قدر المستطاع، وتسعى لتحويل السيطرة الحكومية على الاقتصاد من الحكومة إلى القطاع الخاص (الخصخصة)، بدعوى أن ذلك يزيد من كفاءة الحكومة ويحسن من الحالة الاقتصادية، وهو ما يعني تحويل العالم إلى “مركز تجاري كبير” يمكن للرأسمالية من خلاله شراء العمالة والنساء والأطفال والمهاجرين أو حتى بلد بأكمله، وقد عرفت “اليزابيث مارتينز” اللليبرالية الجديدة في الورقة البحثية المعنونة “ما هي الليبرالية الجديدة” بأنها “مجموعة من السياسات الاقتصادية التي صبغت شكل العالم على مدار الأربعين عامًا الماضية تقريبًا، (منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي أو قبل ذلك بقليل)، ولعل أهم آثار انتشار هذا المفهوم على المستوى العالمي هو ما حدث من فجوات كبيرة تفصل ما بين الأغنياء والفقراء، حيث ازداد الأغنياء ثراءً وازداد الفقراء فقرًا”.
وبذلك يمكن إجمال السمات الرئيسية لليبرالية الجديدة في ملمحين أساسيين، الملمح الأول هو التأكيد على دور السوق الحرة والحرية الاقتصادية الكاملة للطبقات الرأسمالية، حيث تعتبر الليبرالية الجديدة أن تحرير أي مشروع مفروض من قبل الدولة، ليس مشكلة، مهما تكن طبيعة الأذى الذي يمكن أن تتركه عملية التحرير هذه على المجتمع والطبقات الكادحة، كما تعتبر أيضًا أن الانفتاح الكبير على التجارة العالمية والتوظيفات سيساعد على تخفيف الأجور، ويضعف وحدة وتحالف العمال، وإلغاء حقوقهم التي ربحوها عبر سنين طويلة من النضال والتضحيات، ثم لا تعود الأسعار موجهة ومدروسة كثيرًا، ويؤكدون على أن عفوية السوق هي أفضل وسيلة لزيادة النمو الاقتصادي التي سوف تخدم بشكل مطلق كل فرد من أفراد المجتمع، ولكن بطريقة لن يعطي فيها الغني كثيرًا من خيراته للفقراء، ويتمثل الملمح الثاني في إلغاء النفقات العامة، ممثلة في الخدمات مثل التربية والعناية الصحية وشبكة الأمان للفقراء وصيانة الطرق والجسور والتزود بالمياه وغيره، فالليبرالية الجديدة تقف ضد دور الحكومة في تقديم المعونات في مجال هذه الخدمات للمواطنين، بينما هي لا تمانع أن تقوم الحكومة في تقديم المعونات للطبقات البرجوازية مثل تقديم الدعم المادي والعيني بأشكال متعددة للصناعات البرجوازية، والإعفاءات والتسهيلات الضريبية للأنشطة الرأسمالية، وكذا تحرير التجارة فهي تطالب بأن تكون التجارة حرة من أي قيد يمكن أن يفرض عليها من قبل الحكومة، كما تدعوا الحكومة إلى تخفيف أو إلغاء أي إجراء من قبلها يساعد على إضعاف الأرباح حتى لو كان الأمر يتعلق بحماية البيئة أو العمالة، وكذا تنادي بالخصخصة، فهي تطالب ببيع المشاريع الكبيرة والهامة التابعة للدولة من مصانع ومشاريع خدمية وغيرها للقطاع الخاص، وهذه المشاريع تتضمن الصناعات الرئيسة والبنوك والسكك الحديدية والطرق الرئيسية والكهرباء والمدارس والمستشفيات وحتى المياه النقية… الخ، وتأتي كل هذه المطالب عادة تحت إسم (من أجل تحقيق الكفاءة العالية) التي غالبًا ما تكون ضرورية بالنسبة لها في طبيعة الحال، هذا وقد أدت الخصخصة بالدرجة الأولى إلى تركيز الثروة في أيدي القلة، التي راحت بدورها تعمل على تحديد أجور العمالة وفقًا لمصالحها، وإلغاء مفهوم الصالح العام، كما تسعى إلى تمييع أي دور لمسؤولية الكتل الاجتماعية، ومحاولة مركزة المسؤولية في الفرد كسمة عامة لنشاط وطموح المجتمع، لذلك كثيرًا ما يمارسون الضغط على الناس الفقراء من أجل أن يقوموا هم أنفسهم في البحث عن الوسائل أو الطرق التي تساعدهم على تأمين حاجاتهم الصحية والتعليمية وأمانهم الاجتماعي، ثم توجيه كل اللوم لهم في حال عجزوا عن تحقيق ذلك، ووصفهم بالكسالى، ويعمل الليبراليون الجدد جاهدين على إنكار حقوق الأطفال والنساء، والآثار السلبية المهددة لكوكب الأرض، ويحاولون استدراجنا بقولهم “سوف يرفع هذا يد الحكومة عن كاهلنا”، والمستفيدون من الليبرالية الجديدة هم قلة محدودة من سكان العالم، أما بالنسبة للأغلبية الساحقة من السكان، فلن تجلب لهم سوى المزيد من المعاناة بلا حدود، دون مكتسبات تحققت في الستين عامًا الماضية، وبذلك أصبح المآل النهائي للعولمة هو الخلاصة الثقافية الكونية التي أوصلت البشرية إلى حال من الاحتقان البيئي والاقتصادي والثقافي بحيث أصبح الاحتقان نسقًا ثقافيًا يصبغ المرحلة ويترجم حركتها.
اعتمدت دول مركز الرأسمالية العالمية في فرض رؤيها الجديدة ( الليبرالية الجديدة) على العالم أجمع، على وسائل متعددة مثل المؤسسات المالية القوية كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ومصرف التنمية للبلدان الأمريكية التي تدور رحاها في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، كما اعتمدت في الدول النامية على الأنظمة المحلية الفاسدة والداجنة والعميلة والمستبدة وحلفائهم الطبقيين الفاسدين والطفيليين، ودرجت تلك المؤسسات إلى فرض شروطها تحت مسميات إعادة الهيكلة والتكيف والخصخصة وغيره، وذلك بكافة الطرق السياسية والجبرية مثل فرض الهيمنة السياسية والحصار الاقتصادي وإسقاط الأنظمة المحلية المارقة بالتدخل العسكري إذا لزم الأمر، واجتاحت الليبرالية الجديدة أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، وقد جاء أول مثال واضح لليبرالية الجديدة بعد الانقلاب الذي دعمته المخابرات المركزية الأمريكية ضد نظام “أليندي” المنتخب شعبيًا في عام 1973م، بفضل تسييد هذا النموذج بواسطة جامعة شيكاغو، والاقتصادي”ميلتون فريدمان”، ثم تلتها بعد ذلك دول أخرى كالمكسيك بآثار مأساوية حيث انهارت الأجور إلى 50٪ في السنة الأولى من إتفاقية الناتفا (إتفاقية منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية) في حين ارتفعت تكاليف المعيشة بنسبة 80٪، وقد أفلست أكثر من 20 ألف شركة صغيرة ومتوسطة، وتمت خوصصة أكثر من ألف شركة تابعة للدولة في المكسيك، مما دفع بعض الباحثين في أمريكا الللاتينية إلى تعريف الليبرالية الجديدة بأنها تعني “الاستعمار الجديد لأمريكا اللاتينية”، وفي الولايات المتحدة الأمريكية دمرت الليبرالية الجديدة برامج الرعاية والرفاهية الاجتماعية، وهاجمت حقوق العمال (ومن بينهم العمال المهاجرون)، واقتطعت من ميزانية البرامج الاجتماعية، وفي الشرق الأوسط أدت سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة المفروضة من قبل المؤسسات المالية العالمية السابق الإشارة إليها إلى كوارث اقتصادية واجتماعية، فزادت معدلات البطالة لانعدام التوظيف، وتم تشريد أعداد هائلة من الطبقة العاملة إضافة إلى ضرب الحركة العمالية والفلاحية والمهنية، وزادت معدلات الفساد المالي والإداري، وتم السطو على أموال المصارف المالية الوطنية نتيجة لزيادة نفوذ رجال الأعمال بعد التزاوج بين رأس المال والسلطة كنتيجة حتمية لسياسات الليبرالية الجديدة، وقد أدت تلك العوامل والكثير غيرها إلى زيادة الأغنياء غنى وزيادة الفقراء فقرًا، وكانت تلك السياسات سببًا رئيسيًا من الأسباب الموضوعية لقيام ثورات الربيع العربي وما زالت حتى الآن أحد أهم عوامل عدم الاستقرار الاجتماعي وأستمرار نفس أساب قيام تلك الثورات، ولأن تيار التأسلم السياسي أشد يمينية من المستعمرين الجدد ومن الأنظمة المحلية المستبدة، فانهم كانوا حلفاءً جاهزين لقبول جميع شروط المؤسسات المالية العالمية، وقاموا مسبقًا بالترتيب مع تلك الدوائر الممثلة للرأسمالية المتوحشة، للاستيلاء على السلطة مقابل تطبيق كل شروطهم بل وأكثر منها، وتغاضى الغرب عن تراثه اللليبرالي والديمقراطي وكافة حقوق الانسان التي يهددها هذا التيار الطائفي والعنصري والمستبد فكريًا وممارسة، ويمثل تهديدًا حقيقيًا لكافة القيم الانسانية التي قامت عليها الحضارة الحديثة، وما زالت تلك التفاهمات سارية رغم ظهور بعض العواقبة الكارثية المتمثلة في تغذية الإرهاب العالمي فكريًا وتنظيميًا وتوفير البيئات الاجتماعية الحاضنة له.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك